الديون ما لها وما عليها

هلال الهاجري
1445/10/29 - 2024/05/08 05:50AM

إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أَمَّا بَعْدُ:

باتَ يتقلَّبُ على فراشِه طَوَالَ اللِّيلِ، قد علاهُ الهمُّ، وكساهُ الغمُّ، جليسُه القلقُ، وأنيسُه الأرقُ، حاصرتْه الأفكارُ، فهو مكتئبٌ محتارٌ، وأما في النَّهارِ، فهو على صفيحٍ من نارٍ، إذا خرجَ من بيتِه، التَحَفَ الهوانَ وارتدى ثوبَ الذُّلِّ، يُخيفُه الهواءُ والأصواتُ والظِّلُّ، يشعرُ أنه عليه من النَّاسِ رقيبٌ، وشبحُ أُناسٍ ليسَ عن خَيالِه يغيبُ، وإذا جلسَ في البيتِ فهو وَجِلٌ مرتابٌ، ذِهنُه سَارحٌ وعينُه على البَابِ، قد اعتزلَ النَّاسَ والأقاربَ والأحبابَ، إذا وعدَ أخلفَ وإذا حدَّثَ كذَّابٌ، فلعلكم عرفتموه أيُّها الأحبةُ، إنه صاحبُ الدَّينِ، وَصَدَقَ مَنْ قَالَ: (الدَّيْنُ هَمٌّ باللَّيلِ، ومَذَلَّةٌ بالنَّهارِ)، ما بينَ حاجاتٍ ونفقاتٍ وفواتيرَ وطلباتٍ، وما بينَ غريمٍ مُتَربِّصٍ في جميعِ الأوقاتِ.

أَلاَ لَيْـــتَ النَّـهَارَ يَعُــودُ لَيْـلاً *** فَــإِنَّ الصُّبْـحَ يَــأْتِي بالهُـمُومِ
حَوَائِــجُ مَــا نُــطِيقُ لَهَا قَضَاءً *** وَلَا دَفْــعاً وَرَوْعَــاتُ الغَرِيــمِ

ولقد نصحَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ أمتَه حينَ قالَ لها: (لا تُخِيفُوا أَنفُسَكُم بَعدَ أَمنِهَا)، قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قال: (الدَّينُ)، ولذلكَ كانَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كثيراً ما يتعوذُّ من الدَّينِ، فَعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: َكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ)، وضَلَعُ الدَّينِ هو شِدَّتُه وغلبَتُه وثِقلُه.

وأخبرَ عن أثرِ الدَّينِ على إيمانِ الرِّجالِ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ‏: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ)،‏ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟ -أيْ: من الدَّيْنِ-، ‏ فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ).

يا عبدَ اللهِ، اعلم أنكَ لن تزالَ حَميمَاً كَريمَاً، حَبيبَاً صَحيبَاً، صَديقَاً عَريقَاً، مُحترمَاً مُكَرمَاً، مَا دُمتَ غَنياً عَمَّا في أَيدي النَّاسِ، وصدقَ القائلُ: (من احتجتَ إليه، هُنتَ عليه)، واعلم أن الدَّينَ رِقٌّ تَأسرُ بهِ نفسَك، وغِلٌّ يُوضعُ في عُنِقَكَ، وقَيدٌ تُربطُ به يدُكَ ورِجلُكَ، فانظرْ إلى من تملِّكُه أَمرَكَ، فإذا احتجتَ دَيْناً فاخترْ من هو كريمٌ غيرُ منان، يحتسبُ الأجرَ من الملكِ الدَّيانِ، وتعجَّلْ يَا عبدَ اللهِ السَّدادَ، فإنَّ الدَّينَ لا يَسقطُ بينَ العِبادِ، ولو كُنتَ شهيداً في الجِهادِ، فَقَد سَأَلَ رَجلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِي ذَلِكَ).

وأما يومُ القيامةِ فلا دُخولَ للجنَّةِ ولا نَجاءَ، حتى تُسدَّدَ الحُقوقُ للغُرماءِ، عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْفَجْرَ، فَقَالَ: (هَاهُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَحَدٌ؟، هَاهُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَحَدٌ؟، هَاهُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَحَدٌ؟)، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: فَقَالَ: (إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَحْبُوسٌ عَنِ الْجَنَّةِ بِدَيْنِهِ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَافْدُوهُ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ).

يا من أُبتليَ بالدَّينِ، لا تنسَ فضلَ من أقرضَك عليكَ، أتذكرُ حينَ جئتَه مَديناً حزيناً، حسيراً كسيراً، مهموماً مغموماً، قد نَكَسَ رأسُكَ، وخَشعَ صوتُكَ، وخَفضَ بَصرُكَ، تشكو إليه الحالَ، وتسألُه بعضَ المالَ، وتَعدِهُ بسُرعةِ الوَفاء، وتُشهدُ على ذلكَ مَنْ في السَّماءِ، ومن صدقتْ نيَّتُه، فعلى اللهِ إعانتُه، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ أخَذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أدَاءَهَا أدَّى اللهُ عنهُ، ومَنْ أخَذَ يُرِيدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ اللهُ)، فعجِّلْ في سدادِ الدَّينِ، قبلَ أن ينقطعَ حبلُ المُحبينَ:

بَنُــو عَمِّنَا أَدُّوا الدَّرَاهِــمَ إِنَّمَـا *** يُفَـرِّقُ بَيْنَ النَّـاسِ حُــبُّ الدَّرَاهِــمِ

اعتذر له عن التَّاخيرِ، وابعثْ إليه بالمعاذيرِ، أجِبْ على الاتصالاتِ، وأعطِه ما تيَّسرَ من الرِّيالاتِ، وإيَّاكَ ونيَّةَ السُّوءِ والخِداعِ والنِّفاقِ، فمنْ يُريدُ أن يُحشرَ يومُ القيامةِ مع السُّرَّاقِ؟، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ، وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ فَهُوَ زَانٍ، وَمَنِ ادَّانَ دَيْنًا، وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إِلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ سَارِقٌ).

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ؛ نحمدُه حمدَ الشاكرينَ، ونستغفرُه استغفارَ المذنبينَ، فما من سَراءٍ إلا وهو مانُحها، ولا من ضَراءٍ إلا وهو كاشفُها، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه .. أما بعد:

فإليكَ يا صاحبَ اليدِّ العُليا، يا من أعطيتَ وما بخِلتَ، ويا من يسَّرتَ وما عسَّرتَ، ويا من لحاجةِ أخيه قضيتَ، ويا من لكربتِه نفَّستَ، أبشرْ فإنَّ الجزاءِ من جنسِ العملِ، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

وإذا رأيتَ من أخيكَ عُسراً فأنظره إلى أن يجدَ شيئاً كما أمرَك اللهُ تعالى بهذا: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)، واسمع لما في ذلكَ من الأجورِ، عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ)، قَالَ: ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ)، قُلْتُ: سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقُولُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ؟، قَالَ: (لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ).

اسمعْ لأثرِ أجرِ إنظارِ المعسرِ على أصحابِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، كَانَ لأبي الْيَسَرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَالٌ عَلى رَجُلٍ، فَأَتَى أَهْلَهُ فَسَلَّمَ، فَقَالَ: ثَمَّ هُوَ؟، قَالُوا: لاَ، فَخَرَجَ عَلَيهِ ابْنٌ لَهُ صَغيرٌ، فَقَالَ: أَيْنَ أَبُوكَ؟، قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقَالَ: اخْرُجْ إِلَيَّ فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟، قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لاَ أَكْذِبُكَ، كُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا، قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ، قَالَ: اللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ، قَالَ: اللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ، قَالَ: اللَّهِ، قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي وَإِلاَّ أَنْتَ فِي حِلٍّ، فَأَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَي هَاتَيْنِ وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا -وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ- رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ).

وإذا كانَ رَجلاً لم يعملْ خيراً قطْ قالَ لربِّه: لا أعلمُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، إلا أني كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: تَجَوَّزُوا عَنْهُ، فكيفَ بكَ إذا فعلتها وأنتَ قد جئتَ بالباقياتِ الصَّالحاتِ.

اللهمَّ فرجْ همَّ المهمومينَ ونفِّسْ كربَ المكروبينَ، وأقضِ الدينَ عن المدينينَ، اللهم اجعلْ لنا وللمسلمينَ من كل همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيقٍ مخرجاً، ومن كلِّ بلاءٍ عافيةً، ومن كلِّ مرضٍ شفاءً، ومن كلِّ دَينٍ وفاءً، ومن كلِّ حاجةٍ قضاءً، ومن كلِّ ذنبٍ مغفرةً ورحمةً، اللهمَّ ثبتْ قلوبَنا على الإيمانِ، ربنا هبْ لنا من أزواجِنا وذرياتِنا قرةَ أعينٍ، واجعلنا للمتقينَ إماماً.

المرفقات

1715136626_الديون ما لها وما عليها.docx

1715136632_الديون ما لها وما عليها.pdf

المشاهدات 968 | التعليقات 0