الديون بين الترهيب والترغيب

هلال الهاجري
1438/02/03 - 2016/11/03 08:44AM
إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَا أَيُّهاَ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أَمَّا بَعْدُ:

باتَ يتقلَّبُ على فراشِه طَوَالَ اللِّيلِ .. قد علاهُ الهمُّ .. وكساهُ الغمُّ .. جليسُه القلقُ .. وأنيسُه الأرقُ .. حاصرتْه الأفكارُ .. فهو مكتئبٌ محتارٌ .. وأما في النَّهارِ .. فهو على صفيحٍ من نارٍ .. إذا خرجَ من بيتِه .. التَحَفَ الهوانَ وارتدى ثوبَ الذُّلَّ .. يُخيفُه الهواءُ والأصواتُ والظِّلُّ .. يشعرُ أنه عليه من النَّاسِ رقيبٌ .. وشبحُ أُناسٍ ليسَ عن خيالِه يغيبُ .. وإذا جلسَ في البيتِ فهو وَجِلٌ مرتابٌ .. ذِهنُه سارحٌ وعينُه على البابِ .. قد اعتزلَ النَّاسَ والأقاربَ والأحبابَ .. إذا وعدَ أخلفَ وإذا حدَّثَ كذَّابٌ .. فلعلكم عرفتموه أيُّها الأحبةُ .. إنه صاحبُ الدَّينِ .. وقديماً قالوا: (الدَّيْنُ هَمٌّ باللَّيلِ ومَذَلَّةٌ بالنَّهارِ) .. ما بينَ حاجاتٍ ونفقاتٍ وفواتيرَ وطلباتٍ .. وما بينَ غريمٍ مُتَربِّصٍ في جميعِ الأوقاتِ.

أَلاَ لَيْـــتَ النَّـهَارَ يَعُــودُ لَيْـلاً ... فَــإِنَّ الصُّبْـحَ يَــأْتِي بالهُـمُومِ
حَوَائِــجُ مَــا نُــطِيقُ لَهَا قَضَاءً ... وَلَا دَفْــعاً وَرَوْعَــاتُ الغَرِيــمِ

ولقد نصحَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ أمتَه حينَ قالَ لها: (لا تُخِيفُوا أَنفُسَكُم بَعدَ أَمنِهَا)، قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قال: (الدَّينُ).

ولذلكَ كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ كثيراً ما يتعوذُّ من الدَّينِ .. عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: َكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) .. وضَلعُ الدَّينِ هو شِدَّتُه وغلبَتُه وثِقلُه.

وأخبرَ عن أثرِ الدَّينِ على إيمانِ الرِّجالِ .. فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ‏: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ)،‏ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟ -أيْ: من الدَّيْنِ-، ‏ فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ).

يا عبدَ اللهِ ..

اعلم أنكَ لن تزالَ حميماً كريماً، حبيباً صحيباً، صديقاً عريقاً، محترماً مكرماً، ما دمتَ غنياً عما في أيدي النَّاسِ .. وصدقَ القائلُ: (من احتجتَ إليه .. هُنتَ عليه) .. واعلم أن الدَّينَ رقٌّ تأسرُ بهِ نفسَك .. وغِلٌّ يُوضعُ في عُنِقَكَ .. وقَيدٌ تُربطُ به يدُكَ ورِجلُكَ .. فانظرْ إلى من تملِّكُه أمرَك .. فإذا احتجتَ دَيْناً فاخترْ من هو كريمٌ غيرُ منانٍ .. يحتسبُ الأجرَ من الملكِ الدَّيانِ .. وتعجَّلْ يا عبدَ اللهِ السَّدادَ .. فإنَّ الدَّينَ لا يسقطُ بينَ العبادِ .. ولو كُنتَ شهيداً في الجِهادِ.

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَيْفَ قُلْتَ؟)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِي ذَلِكَ).

بل جاءَ فيه من التَّشديدِ ما هو أكبرُ وأعظمُ .. فما رأيُّكم في رجلٍ قُتلَ في سبيلِ اللهِ تعالى ثلاثَ مراتٍ؟ .. جاءَ حديثِ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟، فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟، فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ).

تخيَّلْ .. لماذا امتنعَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ من الصَّلاةِ على أحدِ الصَّحابةِ .. فهل يا تُرى هو سارقٌ؟ .. أو هو قاتلُ نفسٍ بغيرِ حقٍّ؟ .. أو هو زانٍ؟ .. أو ماذا فعلَ من الموبقاتِ؟ .. عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ، وَحَنَّطْنَاهُ، وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ، فَخَطَا خُطًى، ثُمَّ: قَالَ: (أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟)، قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُحِقَّ الْغَرِيمُ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ؟)، قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: (مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟)، فَقَالَ: إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ، قَالَ: فَعَادَ إِلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ: لَقَدْ قَضَيْتُهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ) .. فاللهمَّ من الدَّينِ سلاماً سلاماً .. واجعل قبورَنا برداً وسلاماً.

وأما يومُ القيامةِ فلا دُخولَ للجنَّةِ والفِداءِ .. حتى تُسدَّدَ الحُقوقَ للغرماءِ .. عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْفَجْرَ، فَقَالَ: (هَاهُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَحَدٌ؟، هَاهُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَحَدٌ؟، هَاهُنَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَحَدٌ؟)، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: فَقَالَ: (إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَحْبُوسٌ عَنِ الْجَنَّةِ بِدَيْنِهِ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَافْدُوهُ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ).
يا من أُبتليَ بالدَّينِ ..

لا تنسَ فضلَ من أقرضَك عليكَ .. أتذكرُ حينَ جئتَه مَديناً حزيناً .. حسيراً كسيراً .. مهموماً مغموماً .. قد نَكسَ رأسُكَ .. وخَشعَ صوتُكَ .. وخَفضَ بَصرُكَ .. تشكو إليه الحالَ .. وتسألُه بعضَ المالَ .. وتَعدِهُ بسُرعةِ الوَفاءِ .. وتُشهدُ على ذلكَ مَنْ في السَّماءِ .. ومن صدقتْ نيَّتُه .. فعلى اللهِ إعانتُه .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ أخَذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أدَاءَهَا أدَّى اللهُ عنهُ، ومَنْ أخَذَ يُرِيدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ اللهُ).

فعجِّلْ في سدادِ الدَّينِ .. قبلَ أن ينقطعَ حبلُ المُحبينَ .. كما قالَ القائلُ:
بَنُــو عَمِّنَا أَدُّوا الدَّرَاهِــمَ إِنَّمَـا ... يُفَـرِّقُ بَيْنَ النَّـاسِ حُــبُّ الدَّرَاهِــمِ

اعتذر له عن التَّاخيرِ .. وابعثْ إليه بالمعاذيرِ .. أجِبْ على الاتصالاتِ .. وأعطِه ما تيَّسرَ من الرِّيالاتِ .. وإيَّاكَ ونيَّةَ السُّوءِ والخِداعِ والنِّفاقِ .. فمنْ يُريدُ أن يُحشرَ يومُ القيامةِ مع السُّرَّاقِ؟ .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ، وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ فَهُوَ زَانٍ، وَمَنِ ادَّانَ دَيْنًا، وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إِلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ سَارِقٌ).

اسمع إلى هذه القِصَّةِ العجيبةِ .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلَا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ؛ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟، قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا).

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ .. ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ .. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ؛ نحمدُه حمدَ الشاكرينَ، ونستغفرُه استغفارَ المذنبينَ، فما من سراءٍ إلا وهو مانُحها، ولا من ضراءٍ إلا وهو كاشفُها وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه .. أما بعد:

فإليكَ يا صاحبَ اليدِّ العُليا ..

يا من أعطيتَ وما بخِلتَ، ويا من يسَّرتَ وما عسَّرتَ، ويا من لحاجةِ أخيه قضيتَ، ويا من لكربتِه نفَّستَ، أبشرْ فإنَّ الجزاءِ من جنسِ العملِ، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

وإذا رأيتَ من أخيكَ عُسراً فأنظره إلى أن يجدَ شيئاً كما أمرَك اللهُ تعالى بهذا: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) .. واسمع لما في ذلكَ من الأجورِ .. عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ)، قَالَ: ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ)، قُلْتُ: سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقُولُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ؟، قَالَ: (لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ).

اسمعْ لأثرِ أجرِ إنظارِ المعسرِ على أصحابِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ غُلاَمٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سَفْعَةً مِنْ غَضَبٍ، قَالَ أَجَلْ كَانَ لِي عَلَى فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ مَالٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَسَلَّمْتُ، فَقُلْتُ ثَمَّ هُوَ؟، قَالُوا: لاَ، فَخَرَجَ عَلَىَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟، قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟، قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لاَ أَكْذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا، قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ، قَالَ: اللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ، قَالَ: اللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ، قَالَ: اللَّهِ، قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي وَإِلاَّ أَنْتَ فِي حِلٍّ، فَأَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَي هَاتَيْنِ وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا -وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ- رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ).

وإذا كانَ رَجلاً لم يعملْ خيراً قطْ قالَ لربِّه: لا أعلمُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، إلا أني كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: تَجَوَّزُوا عَنْهُ، فكيفَ بكَ إذا فعلتها وأنتَ قد جئتَ بالباقياتِ الصَّالحاتِ.

اللهمَّ فرجْ همَّ المهمومينَ ونفِّسْ كربَ المكروبينَ، وأقضِ الدينَ عن المدينينَ، اللهم اجعلْ لنا من كل همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيقٍ مخرجاً، ومن كلِّ بلاءٍ عافيةً، ومن كلِّ مرضٍ شفاءً، ومن كلِّ دَينٍ وفاءً، ومن كلِّ حاجةٍ قضاءً، ومن كلِّ ذنبٍ مغفرةً ورحمةً، اللهمَّ ثبتْ قلوبَنا على الإيمانِ، ربنا هبْ لنا من أزواجِنا قرةَ أعينٍ، واجعلنا للمتقينَ إماماً.
المرفقات

الديون بين الترهيب والترغيب.docx

الديون بين الترهيب والترغيب.docx

المشاهدات 2215 | التعليقات 2

جزاك الله كل خير


جزاك الله خيرا