الدنيا .. ثم ماذا؟
ناصر محمد الأحمد
الدنيا .. ثم ماذا؟
22/10/1439ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: إن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغيِّر نظرته إلى كل ما يقع في هذه الأرض، فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون. لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها، ولا ينتظر ما وراءها، فلكل منهما ميزان، هذا يرى ظاهراً من الحياة الدنيا، وذاك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والحياة والموت.
والإعراض عن دار الخلود يورث في هذه الدنيا هشاشةً في المواقف والنوازل، وإيثاراً للراحة والسلامة، وملاينةً للأعداء، وتنصُّلاً من المسؤوليات الجِسَام، فمن كانت الدنيا همّه وشغله، أتراه يبذل وقته وماله وقلمه في سبيل الله تعالى، فضلاً عن أن يقدِّم مهجته؟!.
والغفلة عن الآخرة، وضعف اليقين بأحوال القيامة قد شمل القاصي والداني، والبرّ والفاجر، والذكر والأنثى - إلا ما شاء الله - فمستقل ومستكثر، وفتِّش نفسك هل أنت سالم؟!.
لقد حذَّر السلف الصالح من الغفلة عن الآخرة، وعدم تذكُّر أهوالها وزواجرها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له" أخرجه الترمذي. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك" أخرجه البخاري. فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشرِّ أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها. وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: "لقد رأيتُ رجالاً لو رأيتموهم لقلتم: مجانين، ولو رأوكم لقالوا: هؤلاء شياطين، ولو رأوا خياركم لقالوا: هؤلاء لا خلاق لهم، ولو رأوا شراركم لقالوا: هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب".
أيها المسلمون: من تفكَّر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهَّب للسفر. ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. تغترُّ بصحتك وتنسى دنوَّ السقم، وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم، لقد أراك مصرعُ غيرك مصرعَك.
وكيف تنامُ العينُ وهي قريرةٌ ولم تدرِ من أيِّ المحلّين تنـزلُ
همة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة: رأيتَ البَزَّاز ينظر إلى الفرش ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبنَّاء إلى الحيطان، والحائك إلى النسيج المخيط. والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب، وإن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذَّة ذكر الجنة، فهمّته متعلقة بما ثَمَّ، وذلك يشغله عن كل ما تمَّ.
ورحم الله ابن القيم إذ يقول: "لا تتمُّ الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بالنظر في الآخرة وإقبالُها ومجيئُها ولا بد، ودوامُها وبقائُها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، كما قال الله سبحانه: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى : 17)، فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة". انتهى ..
كم هو موجع حقاً حال طائفة منا، إذ كانوا في ريعان شبابهم على حظ كبير من الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، والبذل والحرص على أداء القربات وأنواع التضحيات، ثم لما وهن العظم، واشتعل الرأس شيباً، ودنا الرحيل، إذا هم ينكبُّون على حطام الدنيا الزائل، ويتثاقلون عن تلك القربات، ويغالبهم العجز والكسل! واعجباً! كلما صعد العمر نزلتَ، وكلما جدَّ الموت هَزُلتَ! أتُراك ممن خُتم بفتنة، وقُضيت عليه عند آخر عمره المحنة؟ كنت في زمن الشباب أصلح منك في زمن أيام المشيب.
واحسرتاه! تقضَّى العمر وانصرمت ساعاته بين ذلّ العجز والكسلِ
والقوم قد أخذوا درْب النجاة وقد ساروا إلى المطلب الأعلى على مَهَلِ
إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كان يربِّي صحابته الكرام رضي الله عنهم على العزوف عن الدنيا والاشتغال بيوم المعاد، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبيّ فقال: "كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" أخرجه البخاري. قال ابن رجب رحمه الله: "وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يُهيِّئ جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم".
وعن عديِّ بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار، قال: وأشاح، ثم قال: اتقوا النار، ثم أعرض وأشاح ثلاثاً حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة" أخرجه البخاري ومسلم.
هذه هي الدنيا: عشِقها العاشقون، وهام بها المحبون، كم لها من عاشق متأوه، ومتيّم متحسر، ومحب متألم؟ ظهرت في زينتها، وعرضت في فتنتها، وتبدّت في محاسنها، فخُدع بها أُناس، وافتتن بها فئام، ظنوا أنها صادقة في الحب، مخلصة في الشوق، تواقة للغرام، وفيّةٌ للأحباب، ناصحة للأصحاب، فتنافسوا في كسب ودها، واقتتلوا للظفر بقربها، فأردتهم صرعى، وتركتهم هلكى، وذلك جزاء الحمقى، والعجب أن خُطّاب ودّها وطلاب مجدها لم يعتبروا بإخوانهم من العشاق القدامى، ولم يتعظوا بمن خدعتهم من الندامى، فارتموا في أحضانها، وتسابقوا في ميدانها، وهي لا زالت تتفنن لهم في إبداء زينتها، وتتحبب لهم ببعض مباهجها، حتى إذا أحكمت الزمام، غدرت وفجرت وفتكت وقتلت، كم لها من محروم يتألم، ومهضوم يتظلم؟ كم ذبحت من فارس على مخدة الترس، وعروس على منصة العرس؟.
إنها الدنيا: إذا وصلت فتبعات موبقة، وإذا فارقت ففجعات محرقة، ليس لوصلها دوام، وما من فراقها بد. وصفها خالقها وموجدها بأنها لعب ولهو وزينة، فقال جل وعلا: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) . إنها لعب وضياع، لهو وتفاخر، غرور خادع وأمل كاذب وظل زائل. قال الله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا). مر النبي بالسوق والناس على جانبيه فمر بجدي أسَكّ ميت فتناوله، فأخذ بأذنه ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ ثم قال: "أتحبون أنه لكم" قالوا والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسكّ، فكيف وهو ميت؟ فقال : "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" رواه مسلم. ويقول : "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء" رواه الترمذي .
هذه هي الدنيا: لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا تُخْلي من محنة، نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وتبعاتها تبقى. قال الله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ، أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ).
من نظر إليها بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، وعيشها نكد، وصفوها كدر، وأهلها منها على وجل: إما بنعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية.
إنها الدنيا: حلالُها حساب، وحرامها عقاب، المكدود فيها شقيٌّ إن ظفر، ومحروم إن خاب. إن أخذ مالها من حله حوسب عليه، وإن أخذه من حرام عذب به، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن أحبها أذلّته، ومن تبعها أعمته.
هي الدار دار الأذى والقذى ودار الفناء ودار الغِيَر
فلو نلتها بحذافيرها لمُتّ ولم تقض منها الوطر
ألا فليسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم، فإن خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: ثم ماذا؟ ثم ماذا؟.
سؤال يجب أن يطرحه كل منا على نفسه إذا أمسى أو إذا أصبح، بين فينة وأخرى، بعد كل نعمة تتجدد، أو مصيبة تقع، اسأل نفسك هذا السؤال: ثم ماذا؟.
إننا في هذه الدنيا نسير سيراً حثيثاً إلى جواب هذا السؤال، ولكننا عنه غافلون! فقد مرت قرون وقرون، لم نكن شيئاً مذكورا، واليوم، بنينا وشيدنا وعمرنا الأرض أقوى مما عمروها، ورفعنا البنايات أعلى مما رفعوها، وصلوا القمر، وغزو المريخ، وتفننوا بصناعات لم تعرف في التأريخ، ويبقى السؤال: ثم ماذا؟.
هل بلغت الأربعين؟ أين أنت قبل أربعين؟ كيف كانت الدنيا، ولم تك فيها؟ هل شعرت بأنك لم تزد هذه الحياة شيئا، ولن يفقد بفقدك الناس شيئا؟ فرحوا بحياتك، وسيحزنون بعد مماتك، بيد أنهم سينسونك حتماً لتواصل الحياة مسيرتها مات فلان، ذلك العظيم، ذلك الذي غير مجرى الحياة، باختراعاته، أو مؤلفاته، أو سلطانه، أو علمه، أو فنه، ولا زلنا مع السؤال: ثم ماذا؟.
هل تحققت في هذه الدنيا أحلامُك؟ هل رزقت المال والبنون؟ هل تسنّمت أعلى المراكز؟ هل بلغت من الجاه والشهرة مبلغا؟ هل تنقلت في بقاع الأرض شرقاً وغربا؟ هل أشير إليك بالبنان؟ هل غدوت أشهر إنسان؟ أو أهم إنسان؟ أو أغنى إنسان؟ هل تملك الدور والقصور؟ هل تمتعت بالغيد الحسان وبالحور؟ هب أن كل ذلك قد كان، فسنبقى مع السؤال: ثم ماذا؟.
وهب أن قد ملكت الأرض طرا ودان لك العباد فكان ماذا؟
أليس مصيرك جوف قبرٍ ويحثو عليك الترب هذا ثم هذا؟
أيها المسلمون: إن جواب السؤال ماثل أمامنا بكل صدق وحيدة، ولكن غفل عنه الغافلون، وتناساه المسرفون، وأعرض عنه اللاهون، الذين هم في غمرة ساهون، وإلا فقد قال المولى جل وعلا: (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)، فلا يعتبر بهذا التقلب إلا من نور الله بصيرته، وعرف مصيره، وسعى حثيثاً يصلح آخرته، وأدرك كنه الأيام وأنها دول، من سره زمن، ساءته أزمان، فجعل له هدفاً يسعى إليه، ورسم لنفسه طريقاً يسير عليه، ولا هدف أسمى من الجنة والرضوان، ورؤية وجه الرحمن، ولا طريق يوصل إلى ذلك الهدف إلا طريق المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون: خلقت الدنيا، وجبلت على المنغصات، فلا تصفو أبدا؟ (لقد خلقنا الإنسان في كبد). فمهما كان المرء سعيداً يومه هذا، فقد يُنغَّص عليه في بعض أيامه، فلا ريب أنه دفن أحداً من أحبابه، أو أصحابه، وهو عما قريب سيلحق بهم.
وجواب سؤالنا ثم ماذا؟ جاءت به نصوص الكتاب الكريم: (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) فتزودوا أحبتي بالتقوى وبصالح الأعمال، ألا وإن من صالح الأعمال الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة والصدقة وبر الوالدين وأعمال لا عدّ لها ولا حصر.
وفقني الله وإياكم لمرضاته، وجمعنا ووالدينا والمسلمين في الدرجات العلى من جناته.
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
كم من مدائن في الآفاق قد بُنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها
لا تركننّ إلى الدنيا وما فيها فالموت لا شك يُفنينا ويفنيها
واعمل لدارٍ غداً رضوانُ خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
اللهم ..