الدُعاءُ .. ولَيالِ العشر

عبدالعزيز بن محمد
1446/09/20 - 2025/03/20 14:07PM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَيُّها المُسْلِمُون:  مُفتَقِرٌ إلى رَبِهِ يَرْتَمِيْ بِحمَاه، يلوذُ بِـجَنابِهِ يَسْعَى في رِضَاه، يَسْتَمِدُ العَوْنَ مِنْهُ، بِه يُنزِلُ حَاجَاتِه، وإليهِ يَرْفَعُ رَغَبَاتِه.  تَضِيْقُ بِه الأرضُ يوماً.. فلا يفزَعُ إلا للهِ، وَتَشْتَدُّ بِهِ الحَيَاةُ يَوْماً فَلا يَأَوِيْ إِلا إِلى اللهِ. عَبدٌ أَدْرَكَ حَقِيْقَةَ ضَعْفِه، وشِدَّةَ حاجَتِهِ، وبالِغَ عَجْزِه. آمَنَ أَنَّ القُوَّةَ كُلَّ القُوَّةِ للهِ، وأَنَّ الغِنَى كُلَّ الغِنى للهِ، وأَنَّهُ لا فَارِجَ للِضيقٍ، ولا شافِيَ لِلسُقْمٍ، ولا مُزِيْلَ لِلهَمٍّ، ولا قاضيَ لِلدَيْنٍ، ولا فاكَّ للأَسرٍ، ولا جَابِرَ لِلكَسْرٍ، ولا مُيَسِّرَ للأمرٍ، ولا باسِطَ لِلرِزْقٍ، ولا مُحَقِقَ للرغائِبِ، ولا مُذّلِلَ للمصاعِبِ، ولا نَاصِرَ على الأَعداءِ، وَلا مُعِيْنَ عَلَى الخَيْرِ، ولا هَادِيَ للرَّشادِ، ولا صَارِفَ للشَّرِ، ولا مُنْجِي مِن الرَّدَى، ولا واهِبَ للفَضْلِ، ولا مُحَقِقَ لِسَعادَةِ الدُّنيا وفَوزِ الآخِرَةِ إِلا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَه {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ}

رَبٌّ غَنيٌ وبالإِحْسَانِ مُتَصِفٌ ** يُجِيْبُ دَعْوَةَ دَاعٍ مُخلصٍ رَاجِي

الملكُ يَمْلِكُهُ، لا شَيءَ يُعجِزُهُ  **  أَقْبِلْ إليهِ، وقُمْ في بَابِهِ نَاجي

يا مُسْبِلَ الفَضْلِ في سَاحَاتِنَا قِدَماً  ** هَذِيْ مَطَالِبُنا، فامْنُنْ بإفراجِ

هو الدعاءُ، كَمْ تَرَحَّلَتْ بِهِ أَهْوالٌ، وكَمْ اسْتَقَامَتْ بِهِ أَحْوَالٌ، وكَمْ تَحَقَّقَتْ به آمالٌ، وكَم دُفِعَت به شُرُور. دُعاءٌ يَتَوَجَّهُ به العبدُ إلى رَبِّهِ مُتَضَرِّعاً مُسْتَكِيْناً مُنكسِراً، فما يزدادُ مِنْ رَبِّهِ إلا قُرْباً.   والدعاءُ هُو الافْتِقارُ لله. والدُّعاءُ هُوَ العِبادَة، عَن النُّعْمانِ بِنْ بَشِيْر رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} هُوَ ذُلُّ عَبْدٍ لِمَعْبُوْدٍ، هُوَ انْكِسَارُ مَخْلوقٍ لِخَالِقٍ، هُو تَوَسُلُ فَقِيْرٍ لِغَني، هُوَ سُؤالُ مُحتاجٍ لِكَرِيم. فَمَنْ أَحسَنَ الدُّعاءَ أدرَكَ حاجَتَه، وَحَقَّقَ بُغْيَتَه، وكُفيَ هَمُّهُ، وأُزِيلَ غَمُّه، ونَالَ مِنْ الخَيْرِ أَعظَمَ مِنْ مُنَاه. وَمَنْ وهَنَ حَبْلُ الدُّعاءِ لَدِيْهِ، وَهَنَت عُبُودِيَّتُهُ لِرَبِهِ، وضَعُفَ تَوَكُّلَهُ عليه، وتَخَبَّطَ في الشَّقَاءِ، ورُمِيَ بالخُذْلان.

وَبَابُ اللهِ لِلسَّائِلِيْنَ مَفْتوحٌ، ولَيْسَ بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ عِبادِهِ وُسَطاءُ يَرْفَعُونَ عَنِ العِبادِ إِلى اللهِ مَطالِبَهُم، هُو رَبُّ العَالِمِيْنَ وهُوَ القَرِيْبُ المُجِيِبُ لَهُم. 

أَفَتَسْأَلُونَ عَنْ رَبِكُم أَيُّها النَّاسُ؟ أَفَتَسْأَلُونَ كَيْفَ تَرْفَعُونَ إِليهِ مَسائِلَكُم؟ قَالَ اللهُ مُجِيْباً: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}  يَسْمَعُ دُعاءَ مَنْ دعا، ويَعلَمُ حاجَةَ مَن طَلَب، ويُبصِرُ ضَعفَ مَن رَغِب.

قَادِرٌ على كُلِّ شيءٌ، غَنِيٌّ لا مُنْتَهى لِغِناه، كَرِيْمٌ لا مْنْتَهَى لِكَرَمِه، لا يُعجزِهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ ولا فِي السَّماءِ، فَمَا تَرَاهُ عَسِيْراً هُو عَلِيْهِ يَسِيْر، وَمَا تَراهُ بَعِيْداً هُو بِأَمْرِهِ قَرِيْب، لا يَتَعاظَمُهُ عَطاءٌ أَعْطَاه، ولا تَكْبُرُ عَلِيْهِ مَسْأَلَةٌ سُئِلَهَا {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ} {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} قَالَ في الحَدِيْثِ القُدْسِيِّ: «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» رواه مسلم

قُلُوبٌ مُؤْمِنَةٌ بِرَبِها، واثِقَةٌ بِقُرْبِه، واثِقَةٌ بِفَضْلِهِ، واثِقَةٌ بِقُدْرَتِهِ، واثِقَةٌ بِكَرَمِهِ، واثِقَةٌ بِغِناه.  تُرَفْرِفُ في جَنَبَاتِها الطُمَأَنِيْنَةُ فَهِيَ تأَوِيْ إِلى رُكْنِ شَدِيْد. تُبْصِرُ مَدَدَ اللهِ لَها في كُل مَسْأَلَةٍ، وتَرَى عَطاءَهُ لَها في كُلِّ طَلَب. مَا مُدَّتْ إِلى اللهِ يَدٌ فَخَارَتْ، وما رُفِعَتْ إِليِهِ حاجَةٌ فَبارَتْ. يُجِيْبُ اللهُ الدُعاءَ وهُوَ أَعْلَمُ بِما يُصْلِحُ حَالَ صَاحِبِه. يُجِيِبُ الدُعاءَ مَتَى مَا شَاءَ، وَكَيْفَ شَاءَ، وعلى أَيْ صِفَةٍ شَاء. فَمَا انْفَكَّتْ مَشِيْئَتُهُ عَنْ حِكْمَتِه. وما انْفَصَلَ قَضاؤُهُ عَنْ عِلْمِه، ما خَابَ مَنْ دَعا: (إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا اللهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا)

ومَنْ تَوَكَّلَ عَلى اللهِ كَفاه، ومَنْ وَثِقَ بِهِ هَداه، ومَنْ رَضِيَ بِقَضَائِهِ أَرْضَاه.  ومَنْ عَرَفَ رَبَهُ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِ. واللهُ عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ، فَمَنْ ظَنَّ باللهِ خَيْراً أَدْرَكَ مِنَ اللهِ خَيْراً، ومَنْ ظَنَّ باللهِ غَيْرَ ذَلِكَ قُوبِلَ مِنَ اللهِ بِذَلِك. عَنْ أَبِيْ هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي..» متفق عليه

وعَلى قَدْرِ كَرَمِ الكَرِيْمِ يَعْظُم بِهِ الرَّجاءُ، وعَلى قَدْرِ غِناهُ تُرْفَعُ إِليهِ المَطالِبُ، وعلى قَدْرِ قُدْرَتِهِ يَطْمَئِنُ إِليهِ السَائِلُون. ولا أَكْرَمَ، ولا أَغْنَى، ولا أَقْدَرَ مِنَ اللهِ. فَأَقْبِلْ إِليهِ راغِباً واثِقاً مُؤَمِلاً.  بُثَّ إِليهِ حَاجَتَك، ولا تَتَعاظَمْ أَمامَهُ مَسْأَلَتَك، في الحَدِيْثِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي إنْ شِئْتَ، ولَكِنْ لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، ولْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ، فإنَّ اللَّهَ لا يَتَعاظَمُهُ شيءٌ أعْطاهُ» رواه مسلم 

وروى البُخارِيُّ ومسلمٌ رحمهما الله أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يدُ اللهِ ملْأَى لا يُغِيضُها نَفَقَةٌ ــ أي لا تَنْقُصُها نَفَقَةٌ ــ سحَّاءُ اللَّيْلَ و النهارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ؟ فَإِنَّهُ لَم يَغِضْ مَا فِيْ يَدِهِ) رواه البخاري ومسلم

دُعاءٌ بِتَضَرُّعٍ وانْكِسارٍ، وذُلٍّ وافْتِقارٍ، وإِلحاحٍ وإِصْرارٍ. مِنْ غَيْرِ يَأَسٍ ولا قُنُوطٍ، ولا اسْتِبْطاءٍ ولا مَلل. مَنْ كانَتْ هذهِ حالُهُ في الدُعاءِ أَدْرَكَ مِنَ اللهِ سُئْلَهُ، وبَلَغَهُ اللهُ مِنَ الخَيْرِ مُناه. في الحَدِيْثِ قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي) متفق عليه

عِندِيْ يَقِيْنٌ بِرَبِّ الكَونِ يَحْدُونِي  **  إِنِّيْ قَرِيْبٌ ــ يَقُولُ اللهُ ــ فَادْعُونِي

يُغِيْثُنِي اللهُ مَهْما أَظْلَمَتْ سُبُلِي  **  كَما أَغاثَ بِبَطْنِ الحُوتِ ذَا النُّونِ

وقَوْلُ اللهِ أَعْلَى وأَصْدَقُ وأَجَلُّ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}  بارك الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً  أما بعد:  فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون

أَيُّها المُسْلِمُون: ولَئِن كانَ الدُّعَاءُ مِنْ أَجَلِّ العِبادَاتِ التي يُشْرَعُ للعَبْدِ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِها إِلى رَبِهِ في كُلِّ وَقْتٍ وفي كُلِّ حِيْن.  فإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ العِبادَاتِ التِيْ يَتَأَكَدُ على المُسْلِمِ مُلازَمَتُها في مَواسِمِ الفَضْلِ والبِرِّ والإِحْسانِ والمَضَاعَفَةِ وتَكْفِيْرِ السَّيِّئاتِ.

ولَيالِ العَشْرِ الأَواخِرِ مِنْ رَمَضانَ لَيالٍ كَرِيْمَةٍ، فِيْها لِلمُوَفَّقِ أَعْظَمُ غَنِيْمَة. لَيالٍ مُلِئَتْ بَرَكَةً وإِنْعاماً وفَضْلاً. فِيْها الليْلَةُ المُبارَكَةُ التي أَنْزَلَ اللهُ فِيها القُرآن. فِيْها أَعظَمُ لَيْلَةٍ خَلَقَها اللهُ وتَفَضَّلَ بِها على عِبادِه.

هِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ}

هِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الآخِرَةِ، مَنْ ظَفِرَ بِها فَقَدْ ظَفِر، ومَنْ أَضاعَها فَقَدْ خَسِر. مَنْ قَامَها إِيْماناً واحْتِساباً غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه، العَمَلُ فيها خَيْرٌ مِنَ العَمَلِ في أِلْفِ شَهْرٍ، أَي: خَيْرٌ مِنَ العَمَلِ فيما يَرْبُو على ثلاثٍ وثَمانِيْنَ سَنَة.

أَيُّ فَضْلٍ أَعْظَمُ مِنْ هذا الفَضْل؟! أَيُّ كَرَمٍ أَغْدَقُ مِنْ هَذا الكَرَمِ؟! إِنْهُ فَضْلُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِيْن، وإِنْعامُ أَكْرَمِ الأَكْرَمِيْن.  فَطُوبَى لِمَنْ سَابَقَ إِلى نَيْلِ الفَضْلِ، وسَارَعَ إِلى الفَوزِ بأَعْظَمِ العَطاءَ. فَأَقْبَلَ على رَبِهِ في لَيالِ العَشْرِ إِقْبالَ الرَّاغِبِيْن. نَأَى بِنَفْسِهِ عَنْ مَجَالِسِ الغَفْلَةِ، ولَزِمَ مَسْجِداً، يَتَقَلَّبُ في الذاكِرِين، يَتَقَلَّبُ في الرَّاكِعين، يَتَقَلَّبُ في السَّاجِدِيْن، يَتَقَلَّبُ في المُتَدَبِرِين.  يَبْخَلُ بِكُلِّ لَحْظَةٍ من لَحَظاتِ تِلْكَ الليالِيْ أَنْ يَصْرِفَها في غَيْرِ قُرْبَة، ويَعِزُّ عَلِيْهِ أَنْ يَصْرِفَها في غَيْرِ عَمَلٍ تَعْلُو بِهِ لَهُ الدَّرَجَات. 

طُوبَى لِمَنْ أَخَذَ بِزِمَامِ نَفْسِهِ في هَذِهِ الليَالِي فَقَادَها إِلى مُضاعَفَةِ الجِدِّ ومُواصَلَةِ العَمَل، كُلَّما فَتَرَتْ نَفْسُهُ عَنْ الخَيْرِ زَجَرها، وكُلَّما تَوانَتْ عَنْ العَمَلِ الصَالحِ نَهَرَها، وكُلَّما أَخْلَدَتْ إِلى الكَسَلِ ورَاوَغَتْ عَنْ المَسِيْرِ، ساءَلَها: لَئِنْ أَنْتِ أَضَعْتِ الفَضْلَ في هذهِ الليَالِيْ فَمَتَى سَتَغْنَمِيْن؟! ولَئِنْ أَنْتِ آثَرْتِ الراحَةَ في هذهِ الليالِيْ عَلى التَّعَبِ فَمَتَى سَتَبْذُلِيْن؟! ولَئِنْ فَاتَكِ السَّبْقُ في هذهِ الليَالِيْ فَمَتَى سَتَسْبِقِيْن؟! يُسائِلُ نَفْسَهُ:

أَو مالَكِ في رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكْرَمَ اقْتِداء؟!  أَوَلَمْ تَقْلُ عَائِشَةُ رَضْيَ اللهُ عَنْها : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي رَمضانَ مَالا يَجْتَهِدُ في غَيْرِهِ، وَفِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ منْه مَالا يَجْتَهدُ في غَيْرِهِ) رواهُ مسلمٌ  أَوَلَمْ تَقْلُ عَائِشَةُ رَضْيَ اللهُ عَنْها : (كَانَ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رمَضَانَ، أَحْيا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَه، وجَدَّ وَشَدَّ المِئزرَ) متفقٌ عَلَيهِ

أَوَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ العَشرَ الأَواخِرَ مِنْ رَمَضانَ في مَسْجِدِه، يَنْقَطِعُ عَنْ أَهْلِهِ، يَخْلُو بِرَبِهِ، يَتَقَرَّبُ إِليهِ بالعِبادَةِ، يَتَحَرَّى لَيْلَةَ القَدْرِ، وكَانَ يَقُولُ: (تحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في العشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضانَ) متفقٌ عَلَيهِ

ومِن الغَبْنِ أَنْ يَغْفَلَ المُسْلِمُ عَنْ العِبادَةِ في هذه الليالِي، ويَنْشَغِلَ عَنْها بما لا يَنْفَعُهُ في زادِهِ لآخِرَتِه، سَهَرٌ، أَو لَعِبٌ، أَو مُسامَرَة، أَو تَسَوُّقٌ أَو تَنَقُّلٌ أَو تَبْدِيْدُ أَوقات.

لَيالِ العَشْرِ أَعْزُّ وأَشْرَفُ الأَوقاتِ التي تُعمَرُ في طَلَبِ الآخِرَة، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ حاجَةٌ مِنْ حوائِج الدُّنيا فَلْيَقْضِها في النهارِ إِن استَطَاع .

فَاللهُمَّ إِياكَ نَعْبُدُ وإِياكَ نَسْتَعِيْن، أَعنا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتِك، أَعِنا على ما يُقَرِبُنا إِليْك، وحَبب إِلينا الإِيْمانَ وزَيْنُهُ في قُلُوبنا وكَرِه إِلينا الكفر والفُسُوقَ والعِصْيانَ واجْعَلنا من الراشِدِيْن.

 

المرفقات

1742468810_الدعاء، وليالِ العشر 21 ــ 9 ــ 1446هـ.docx

المشاهدات 526 | التعليقات 0