الدعاء والأسباب
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ مجيبِ الدَّعواتِ، مُجزلِ العطايا والهِباتِ، يُجيبُ دعوةَ المضطرِّينَ، ويكشِفُ السُّوءَ ويُنزلُ الرَّحماتِ، أحمدُه تعالى وأشكُرُه، وأُثني عليه وأستغفِرُه، له الخلقُ والأمرُ، وبيدِه تدبيرُ الأرضِ والسَّمَواتِ، سبحانَك ربَّنا ما أعظمَك، سبحانَك ربَّنا ما أحلمَك، تُطاعُ فتشكرُ، وتُعصَى فتغفِرُ، سترتَ عيوبَنا، فاغفِر ذنوبَنا، وأجِرنا من خزيِ الدُّنيا وعذابِ الآخرةِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، يُعطي ويَمنعُ، ويَخفُضُ ويرفعُ، (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، علَّقَ بربِه رجاهُ وجَنانَه، فأُجيبَ قبلَ أن يَبرحَ مكانَه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه، وسلَّم تسليماً كثيراً .. أما بعد:
عندما تَتأملُ في النَّاسِ، ترى من أحاطتْ بهم الهمومُ والأحزانُ، وظهرتْ على وجهِهم آثارُ تجاعيدِ الزَّمانِ، فهذا يبثُّ الآهاتِ والآلامَ والأشجانَ، وهذا ينفثُّ ما في صدرِه من زَفراتٍ كالدُّخانِ، ولا يرى في عَينِهِ إلا السَّوادَ من الألوانِ، وهذا يتوجَّسُ من المُستقبلِ وتغيُّرِ الأحوالِ، وهذا يُقاسي من مرارةِ الفقرِ وقلةِ المالِ، وهذا عندَه مشكلةٌ مع الأهلِ والعِيالِ، وهذا يُعاني من شُحِّ الوظائفِ والأعمالِ، وهذا يتألمُ من المرضِ المُستعصيِ العُضالِ، كلٌّ يشتكي، ويبحثُ عن الحلِّ السَّريعِ الفعَّالِ، فما هو الحَلُّ؟
ما هو الحلُّ لهؤلاءِ جميعاً؟، الجَوابُ عِندَ من يؤمنُ باللهِ تعالى ربَّاً عظيماً عزيزاً قديراً؟، الجَوابُ عِندَ من يقرأُ كتابَ اللهِ تعالى مؤمناً به، مُصدِّقاً بما فيه من الآياتِ؟، لأنَّ الحلَّ هو في قَولِهِ تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)؟، وقد يقولُ القائلُ: فأينَ الأخذُ بالأسبابِ؟ .. فنقولُ: وهل الدُّعاءُ إلا أعظمُ الأسبابِ؟.
أَتَهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيهِ *** وَمَا تَدْرِي بِما صَنَعَ الدُّعَاءُ
سِهَامُ اللَّيلِ لا تُخْطِي وَلَكِنْ *** لَهَا أَمَدٌ وَللأمَدِ انْقِضَاءُ
نحنُ أحياناً نَغلو في الأسبابِ العَديدةِ، ولكن نتركُ بعضَ الأسبابِ الأكيدةِ، وأضربُ لكم مثلاً من الواقعِ:
شابٌ يبحثُ عن وظيفةٍ، سجَّلَ في مواقعِ الشَّركاتِ، يُحاولُ تطويرَ نفسِه بمهاراتٍ ودوراتٍ، ثُمَّ ماذا عليه أن يفعلَ بعدَ ذلكَ من أسبابٍ؟، هل يجبُ عليه أن يُسيلَ ماءَ وجهِه ووجهِ أبيه عند الأبوابِ؟، هُنا تَنتهي الأسبابُ الأرضيةُ، وتَبقى الأسبابُ السَّماويةُ، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ؟ .. قُلِ اللهُ).
جاءَ إبراهيمُ بهاجرَ وابنِهِ إسماعيلَ عليهم السَّلامُ إلى أرضِ مكةَ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَتَرَكَهُما هُنَالِكَ، واتَّخذَ الأسبابَ المُمكنةَ، فَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى مُنْطَلِقًا، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسمعوا إلى أعظمِ الأسبابِ، لأبٍّ يتركُ ابنَه الرَّضيعَ في أرضٍ ليسَ فيها حياةٌ، رَفعَ يَديهِ فَقَالَ: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، فماذا أصبحتْ مكةُ بفضلِ هذه الدَّعوةِ؟، يَقولُ تعالى لأهلِ مكةَ، (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، فليسَ بَيننا وبينَ ما تتمناهُ، إلا رَفعَ يَديكَ لربٍّ أَمركَ بدُعاه.
ما هي الأسبابُ التي اتَّخذَها زكريا عليه السَّلامُ ليُرزقَ بغُلامٍ؟، (نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّا)، رجلٌ كبيرٌ وامرأةٌ عاقرٌ، ولكنَّه نادى، فمن نادى؟، (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)، فما النتيجةُ؟، (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيَّا)، وهل يُعقلُ مثلُ هذا؟، (قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ).
أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمُد للهِ الكافي لمن تولاَّه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، خيرُ من توكَّلَ على مولاه، فأيَّدَه وحفظَه واصطفاه، اللهم صلِّ وسلمْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه، أما بعد:
ما هي الأسبابُ المُتوقعةُ لرجلٍ مَريضٍ ثمانيةَ عشرةَ سنةٍ، قد عَجزَ عنه الأطباءُ، ولم يَنفعْ معهُ دواءٌ، وكانَ له أموالٌ وأولادٌ كَثيرٌ، فسُلبَ منه ذلك جَميعُه؟، فكيفَ تُواسي مثلَ هذا؟، اسمعوا كيفَ كانَ حلُّ مُشكلتِه في نِداءٍ بسيطٍ، (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ)، فقط، لا، (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)، يا اللهَ، كم هي سهلةٌ حلولُ مشاكلِنا، لو علِمنا الطَّريقَ إلى دُعاءِ ربِّنا.
أخبروني ما هي الأسبابُ المُمكنةُ لرجلٍ ابتلعَه حوتٌ عظيمٌ في وسطِ بحرٍ عميقٍ، فهو في ظُلمةِ بطنِ الحوتِ، وظُلمةِ البحرِ، وظُلمةِ الليلِ؟، ظُلماتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ، أتعلمونَ ماذا كانَ الحلُّ، نادى، (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)، وهَذهِ النَّجاةُ لكلِّ دُعاءِ مؤمنٍ، (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
فأيُّ بابٍ تطرقُ، إذا ضاقتْ بكَ الهمومُ؟، وأيُّ بابٍ تقصدُ، إذا تكاثرتْ عليكَ الغمومُ؟.
وماليَ غيرُ بابِ اللهِ بابٌ *** ولا مولى سِواهُ ولا حبيبُ
كريمٌ، منعمٌ، برٌّ، لطيفٌ *** جميلُ السترِ للدَّاعي مُجيبُ
اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ أمَّتنا، اللهم الطُف بنا وبأمَّتنا، اللهم أنزِل علينا رحمةً من عندِك تُصلِحُ بها أحوالنا، اللهم فرِّج همَّنا، واكشِف غمَّنا، اللهم ارفع عنَّا وعن المسلمينَ الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطَنَ، اللهم اغفر للمُؤمنينَ والمؤمناتِ، والمُسلمينَ والمُسلماتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم وفِّق وِلاةَ أمرِنا لما تحبُّ وترضى، اللهم احفَظ جميعَ بلادِ المُسلمينَ من كل شرٍّ ومكروهٍ، اللهم من أرادَ بلادَ المُسلمينَ بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، اللهم أشغِله في نفسه، اللهم أشغِله في نفسه، اللهمَّ عليكَ به، اللهم عليكَ به فإنه لا يُعجِزُك، اللهم عليكَ به فإنه لا يُعجِزُك، اللهم واجعَل تدبيرَه في تدميرِه يا حيُّ يا قيوم، يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
المرفقات
1648130091_الدعاء والأسباب.docx
1648130100_الدعاء والأسباب.pdf