الدعاء ( مشكولة )

صالح عبد الرحمن
1446/09/06 - 2025/03/06 10:19AM

خطبة عن الدعاء

الخطبة الأولى :

الحمد لله الكريم القادر، العظيم القاهر، خلَق فقدَّر، وشرع فيسَّر، فكلُّ إلى ما قدَّره وقضاه صائر، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه، لا شريك له، ولا ندَّ ولا مُظاهِر، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، المصطفى المطهَّر الطاهر، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه أُولي المكارم والمفاخِر، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى اليوم الآخر.

أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناسُ- بتقوى الله؛ فاتقوا الله -رحمكم الله-، فالتقوى مصباح البصائر، ومفتاح الذخائر )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(

أيها المسلمون:  مُفتَقِرٌ إلى رَبِهِ يَرْتَمِيْ بِحمَاه، يلوذُ بِجنابِه يسعى في رِضاه، يَسْتَمِدُ العونَ منه، بِه يُنزِلُ حاجاتِه، وإليه يَرْفَعُ رغباتِه، تَضِيْقُ بِه الأرضُ يوماً.. فلا يفزَعُ إلا لله،  وتشتدُ به الحياةُ يوماً.. فلا يأوي إلا إلى الله.   عَبدٌ أَدْرَكَ حقيقةَ ضَعْفِه، وشِدَّةَ حاجَتِهِ، وبالِغَ عَجْزِه.  آمَنَ أَنَّ القُوَّةَ كُلَّ القُوَّةِ لله، وأَن الغِنى كُلَّ الغِنى لله، وأَنه لا فارِجَ للِضيقٍ، ولا شافِيَ لِلسُقْمٍ، ولا مُزِيْلَ لِلهَمٍّ، ولا قاضيَ لِلدَيْنٍ، ولا فاكَّ للأَسرٍ، ولا جابِرَ للكسرٍ، ولا مُيَسِّرَ للأمرٍ، ولا باسِطَ لِلرِزْقٍ، ولا مُحَقِقَ للرغائِبِ، ولا مُذّلِلَ للمصاعِبِ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيْكَ لَه {.. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ}

 

رَبٌّ غَنيٌ وبالإحسانِ مُتَصِفٌ ** يُجِيْبُ دَعْوَةَ داعٍ مُخلصٍ راجي

الملكُ يَمْلِكُهُ، لا شَيءَ يُعجِزُهُ  **  أَقبلْ إليهِ، وقُمْ في بابِهِ نَاجي

يا مُسْبِلَ الفَضْلِ في ساحاتنا قِدَماً  ** هذي مطالِبُنا، فامْنُنْ بإفراجِ

هو الدعاءُ.. كَمْ تَحَوَّلَتْ بِه أَحوالٌ، وكَمْ استقامَتْ بِه أُمور، وكَمْ تَحَقَّقَتْ به آمالٌ، وكَم دُفِعَت به شُرُور. دُعاءٌ يَتَوَجَّهُ به العبدُ إلى رَبِّهِ.. مُتَضَرِّعاً مُسْتَكِيْناً

مُنكسِراً، فما يزدادُ بِه مِنْ رَبِّهِ إلا قُرْباً.   هو رُوْحُ العبادَةِ وهو شِرْيانُها. هو ذُلُّ عبدٍ لِمعبود، وانكسارُ مَخْلوقٍ لخالِق، وتَوَسُلُ فَقِيْرٍ لِغَني، وسُؤالُ مُحتاجٍ لِكَرِيم. 

هو الدعاءُ.. مَنْ أَحسَنَهُ أدرَكَ حاجَتَه، وَحَقَّقَ بُغْيَتَه، وكُفيَ هَمَّهُ، وأُزِيلَ غًمُّه.  هو الدعاءُ.. وبابُ اللهِ للسائلينَ مَفْتوحٌ. إليه تُرْفَعُ من العبادِ المطالِبُ.. وليس بينَها وبينَ اللهِ وَسِيْطٌ ولا شَفِيْعُ ولا حَاجِب.  يَسْمَعُ دُعاءَ مَنْ دعا، ويَعلَمُ حاجَةَ مَن طَلَب، ويُبصِرُ ضَعفَ مَن رَغِب. قادِرٌ على كُلِّ شيء، لا يُعجزِهُ من شيءِ في الأرضِ ولا في السماءَ، لا يَتَعاظَمُهُ عطاءٌ أعطاه، كُلُّ شيءٍ عليه يسير {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ}

تتفاقَمُ بالعبدِ الكُرُوبُ.. وتُحِيطُ بِه الشَّدَائِدُ، ويَسْتَحْكِمُ بِه اليأسُ، فَيَنقَطِعُ بِه الرجاءُ مِن كُلِّ سَبَبٍ. فلا يَرى باباً للفرَجِ سوى بابٍ إلى اللهِ يُقْصَد {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ..}

رَبٌّ اتَّصَفَ بالقُدْرَةِ والقُوَّةِ والعِزَّةِ والغِنَى والكَرَم..  وله كمالُ المُلْكِ، وخزائنُه لا تَنفَدُ.  هو أَهلٌ لأَن يُدعى ويُرجى ويُسأَل. روى البخاريُ ومسلمُ رحمهما الله أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يدُ اللهِ ملْأَى لا يُغِيضُها نَفَقَةٌ ــ أي لا تَنْقُصُها نَفَقَةٌ ــ سحَّاءُ اللَّيْلَ و النهارَ، أرأيتم ما أنفَقَ منذُ خلَقَ السماواتِ و الأرضِ؟ فإِنَّهُ لم يَغِضْ ما في يدِهِ) رواه البخاري ومسلم

دَعَا عِبَادَهُ ليَدْعُوْهُ ويَسْألُوهُ.. وأَنّى لِلكريمِ تَعالى أَن يَدعو العبادَ لِمسألَتِه ثمَّ يرد مسائِلَهُم {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} في الحديث القدسي قال رَبُنا تعالى: (يَا عِبَادِي.. لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ) رواه مسلم

هو الدعاء..  عبادَةٌ للهِ وطاعة، وامْتِثالٌ لأمر الله واستجابَة. عبدٌ يَنْكَسِرُ أمامَ رَبِهِ يسألُه العونَ والمدد.   وما لَزِمَ عبدٌ بابَ الدُّعاءِ بقَلْبٍ حاضِرٍ، وسؤالٍ مُتَضَرِّعٍ، وظَنٍّ باللهِ حَسَن،  إلا فَتَحَ اللهُ لَه من العطايا وجزيلِ الهِباتِ ما لَم يَخْطُرْ لَه بِبَال.

هو الدعاءُ.. تواضُعٌ للهِ وافتقار، والإعراضُ عَنهُ.. استغناءٌ دافِعُهُ جَهلٌ مِن العبدِ أو استكبارٌ.  قال ابن القيم رحمه الله :"إنّ اللهَ لَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، بَلْ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَيَغْضَبُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ" ا.هـ

سائلٌ سألَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يا رَسُولَ الله: أَقَرِيْبٌ رَبُّنا فنناجِيهِ؟ أَم بعيدٌ فَنُنادِيْه؟  واللهُ في عليائِه مُسْتَوٍ على عَرْشِهِ. يَعلَمُ سِرَّ العبادِ وجَهرَهُم، ولا يخفى عليه شَيءٌ مِنْ أَمرِهِم، يَسْمَعُ دُعاءَ الدَّاعِيْن، وَيَرَى حَالَ المُنكسِرِين.  

فيأتي الجوابُ شافِياً مِنْ رَبِّ العالمين  {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية :

 الحمد لله الذي كان بعباده خبيرا بصيرا والصلاة والسلام على من بعثه ربه هاديا ومشرا ونذيرا وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا   أما بعد

أيها المسلمون: هو الدعاءُ.. ولا يَخِيْبُ داعٍ قَدْ دَعا. ما مُدَّتْ يدٌ إلى اللهِ تَدعو فَخابَت: (إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا اللهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا)  واللهُ يَقْضِيْ للعبدِ ما يَشاءُ بِحكمَتِهِ، واللهُ لَطِيْفٌ بِعِبَادِه.. وهُو بِهم أَرحَم، وهو بقضائِه لهم أَحْكَم، وهو بما يُصْلِحُ حالَهم أَعلَم.

قَدْ يُؤَخِرُ اللهُ إجابَةَ دُعاءِ عبدِهِ، لِيَسْتَكْثِرَ العبدُ من دعائِه ومسأَلَتِه.. فيزدادُ من رَبِه محبةً وقُرْبى. وقَدْ يُؤَخِرُ اللهُ إجابَةَ دُعاءِ عبدِهِ. ليَبْتَلِيِ إيمانَهُ بِرَبِّه، ويَخْتَبِرَ تَصْدِيْقَهُ بِوَعْدِه.  ولو أَنَّ كُلَّ داعٍ دَعا رأى جوابَ مسألَتِه حالَ دُعائِه. لما تَمَيَّزَ مُؤمنٌ مِنْ كافِر، ولما كان مِنَ العبادِ مُعرِضٌ عن اللهِ مُكابِر.  ولكنَّ اللهَ يَبْتَلِيَ العِبَادَ لِيَعْلَمَ مَن يؤمِنُ بالغيبِ، مَمنْ هُوَ مِنْ وَعْدِ اللهِ في شَك.

فأقبِلْ على دُعائكَ بِقَلْبٍ حاضِرٍ، واسأَل رَبَّكَ بِقَلْبٍ مُنْكَسِر، ولا تَسْأَلْهُ.. بَقَلْبٍ غافِلٍ لاهٍ.  تَضَرًّعَ وألِحَّ على الله بالدعاءِ.. فأَقرَبُ الناسِ من نيلِ الإجابَةِ المُلِحِّين.  كُن موقِناً بالإجابَةِ مُحسناً الظَّن بِرَبِك. ففي الحديث القدسي قال الله: (أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي..) رواه البخاري ومسلم

ولا يُقْعِدَنَّكَ اسْتِبْطَاؤُكَ للإجابَةِ عَنْ مُواصَلَةِ الدُّعاءِ، فإِنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد قَالَ: (يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي) متفق عليه

لا تَتَعاظَم مسألَةً تسألُها رَبَّك، فإنَّهُ الغَنِيُّ الذي خزائِنُهُ لا تَنفَدُ، وإِنَّهُ الكريمُ الذي عَطاؤُه لا يُحَد.  وَمَا عَظُمَ في نَفْسِكَ مِنْ مطالِبَ.. فإِنَّه على اللهِ يَسِيِرْ. وفي الحديثِ: (.. وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ، وَلْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ) رواه مسلم

* تَحَرَّ أوقاتَ الإجابَةِ ومواطِنَها.. فإِنَّ مِن الأَوقاتِ والمواطِنِ ما لَه شَرَفٌ وقَدْرُ. وأقرَبُ ما يكونُ العبدُ من رَبِّه وهو ساجدٌ. والثلثُ الأخيرُ من الليلِ وقَتٌ جليلٌ. (يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له) رواه البخاري ومسلم

ويومُ الجمعةِ قال فيه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (فيهِ ساعةٌ لا يُوافقُها عَبْدٌ مُسْلمٌ وهو قائمٌ يصلّي يَسْألُ اللهَ شَيْئاً إِلا أَعْطاهُ إِيَّاهُ وأشارَ بيدهِ يقللها) رواه البخاري ومسلم

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك..

المشاهدات 330 | التعليقات 0