الخوف من الله ... سياط القلوب الشاردة

مريزيق بن فليح السواط
1433/06/06 - 2012/04/27 01:23AM
إن الحمد لله...


عباد الله:
من المهمات التي بُعث بها نبي هذة الأمة صلى الله عليه وسلم تزكية النفس، وتطهيرها من كل قُبح ودَنس، قال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم أياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وأن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" بل علَّق الله فلاح العبد بتزكيته لنفسه، وإعلائه لشأنه عن دركات السفول والانحطاط، فقال تعالى: "والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها. والنهار إذا جلاها. والليل إذا يغشاها. والسماء وما بناها. والأرض وما طحاها. ونفس وما سواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها".


عباد الله:
ومن وسائل تزكية النفس الخوف من الله تعالى، وخشيته في السر والعلن، وإذا كان المسلم محتاجا الى تزكية نفسه بالخوف من الله تعالى في كل وقت فإن الحاجة اليه في هذا الزمن شديدة، واستشعاره أمرا في غاية الأهمية، وذلك لكثرة المغريات والفتن، وتنوع المصائب، وكثرت المحن، الخوف من الله لو سلك الناس طريقه، وهربوا من الله إليه، لعصمهم من الفتن ونجاهم من البلايا والمحن "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" كم يخاف الناس من الفقر، ويحذرون منه؟؟ ولو خافوا من الله لنجوا قال يحيى بن معاذ: "مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر، دخل الجنة.

الخوف من الله يُنبتُ من الغفلة صحوة، ويُبدلُ السيئة حسنة، ويجعل من العبد محاسبا لنفسه، عاملا بطاعة ربه، قال أحمد بن حرب: من يعرف أن الجنة تُزيَّن فوقه، والنار تُسعَّر تحته كيف ينام بينهما؟؟ وإذا كانت النفس قد ملت سماع المواعظ، وفرطت في حضور مجالس الذكر، واعتادت النوم والإمام يخطب فهذا أبو مسلم الخولاني قد علق سوطا في بيته يُخوِّف به نفسه كلما أصابها الكسل، يقول لها: قومي فوالله لازحفنَّ بكِ زحفا حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا دخلها الكسل تناول سوطه، وضرب به ساقه، وقال: لها أنتي أولى بالضرب من دابتي.

الخوف من الله يقمعُ الشهوات، ويكدرُ اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة للنفس مكروهة، والمتع المرغوبة مبغوضة، في بالخوف تحترقُ الشهوات، وتتكدرُ اللذات، وتتأدبُ الجوارح، ويذلُّ القلب لله، ويستكينُ لعظمته، ويفزعُ لمراقبته ومحاسبة نفسه، فالخوف سوط الله يقوم به الشاردين، ويردع الخارجين، ويعيد التائبين والراغبين.

الخوف من الله علمه الأفذاذا من هذه الأمة، وتزودوا منه فبلغوا القمة، نهلوا من معينه الصافي، وينبوعه الشافي، فشدت حُزنهم، وكثر بكائهم، وسكنت جوارحهم، فجاءهم البشير من ربهم: "وعزتي وجلالي لا أجمعُ على عبدي آمنين، ولا أجمع على عبدي خوفين، من آمنني في الدنيا، أخفته في الآخرة، ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة".

الخوف من الله سبب لزيادة الأُعطيات، وتوالى المنح والمكرُمات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع" بل ليست النجاة من النار فحسب، بل الفوز بالجنة قال تعالى: "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى" ومن وراء هذه الجنة جنة أخرى، قال تعالى: "ولمن خاف مقام ربه جنتان" عن إبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنتان من فضة أنيتُهما وما فيها، وجنتان من ذهب أنيتُهما وما فيها، وما بين القوم وبين أن ينظروا الى ربهم عز وجل ألا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن".

أيها المسلمون:
من تأمل حال الناس اليوم وجد عجبا، ورآى تفريطا وكسلا، انتهاك للحرمات،وتقصير في حق رب البريات، تعدٍّ لحدود الله ليلا ونهارا، ومبارزةٌ بالمعاصي سرا وجهارا، أمنٌ من عذاب الله، وغرور بنعمه وما أعطاه، فإذا انتقلت إلى الرعيل الأول، زاد عجبك،واشتد دهشك، فمع عملهم وتقواهم، خوف عظيم، وخشية رهيبة، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن، ويمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد!!! فكيف بمن لا يصون لسانه؟؟ ولا يسلم أحد من كلامه؟؟ كيف بمن يغشى الفجور؟؟ ويشهد مجالس الزور؟؟ أما عمر وما أدراك ما عمر قرأ سورة الطور حتى بلغ قوله تعالى: "إن عذاب ربك لواقع. ماله من دافع" فبكى وأشتد بكائُه حتى مرض وعاده الناس، عمر الفاروق الذي يخاف الشيطان من ظلة، تمرضه آية من كتاب الله، ويخاف من رشفة خشية أن يقع فيما حرّم الله، أرسل غلامة أسلم، فقال له: إئتني بلبن من إبلي؟ فجاء إلى إبل عمر فما وجد فيها شيء!! فحلب له من إبل الصدقة، وجاء به إلى عمر، فرفع الإناء وشرب رشفة واحدة، ثم رد الإناء، وقال للغلام: من أين هذا اللبن؟؟ فقال يا أمير المؤمنين: لم أجد في إبلك لبن فحلبت لك من إبل الصدقة، فقال عمر: صدقت. والله لقد وجدتُ طَعْمَ الحرام في فمي!!! فيا لله ما أعظم إيمانه، وما أشد خشيته!!! ويا لله ما أقسى قلوبنا، وما أقوى غفلتنا!!! كم من الناس من يأكل الحرام؟؟ ويسعى في الأثام؟؟ كم من الناس من يتعامل بالربا؟؟ ويأخذ الرشا؟؟ كم من الناس من يظلم ويبغي؟؟ ويفرط في الحقوق ويعتدي؟؟ فإذا ذكر بالله أبى واستكبر!! وإذا خوف من عذابه استنكف وتجبر!! يقول عمر في مرض موته لابنه: ويحك ضع خدي على التراب لعل الله أن يرحمني. فإين المتكبرون والجبارون؟؟ ثم يقول: ويلي وويل أمي إن لم يغفر لي ربي ثم يموت رضي الله عنه. عثمان بن عفان الذي جهز جيش العسرة بألف بعير وجاء بألف دينار وضعها في طرف ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقلبُها بيدة الشريفة ويقول: "ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم" ومع ذلك كان رضي الله عنه إذا وقف على القبر بكى حتى يَبُلَّ لحيته، ويقول: لو أنني بين الجنة والنار لأدري إلى أيتهما أصير لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم. قرأ تميم بن أوس ليلة سورة الجاثية، فلما أتى على قولة تعالى: "أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين أمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون" فجعل يرددها ويبكي حتى أصبح!! وأبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة يقول: وددت أن أكون كبشا فيذبحني أهلي يأكلوا لحمي ويشربوا مرقي!! وهذا علي بن الحسين كان إذا توضأ أصفر لونه!! فيقال له ماهذا؟؟ فيقول: أتدرون بين يدي من سأقف!!
وهذا غيض من فيض، وقليل من كثير، وقد يتسأل المؤمن مما كل هذا الخوف؟؟ وما سبب تلك الخشية؟؟ لكن من لم يشاركهم هُداهم، ولم يذق حلاوة نجواهم، لن يدرِ عن ما أخافهم وأبكاهم، وأقض مضاجعهم وأضناهم؟؟ خوف هؤلاء القوم لم يكن خوفا مزيفا، ولم يكن دعوى يدعونها!! بل حقيقة عايشوها، ولذة ذاقوها، أثمرت انكسارا في قلوبهم، ودموعا انفجرت بها عيونهم، وأعمالا صالحة ظهرت على جوارحهم.
اللهم أنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع.



الحمد لله على احسانه....

عباد الله:
خوف السلف كان من أمور عظيمة، وأسباب عجيبة، نذكرها هنا لنعلم كيف كانوا معها؟؟ وكيف صار حالنا عندها؟؟

أولها: الخوف من سوء الخاتمة فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليعملُ بعملِ أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعملُ بعملِ أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم" ولهذا كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" بل هذه صفة ملازمة له صلى الله عليه وسلم في كل وقت وحين حتى في يمينه، قال ابن عمر رضي الله عنهما: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم "لا ومقلب القلوب" فلما سئل عن ذلك قال: "إنه ليس أدمي الا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقامه ومن شاء أزاغه" وهكذا كان النبييون من قبل فهذا الخليل عليه والسلام يقول: "وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام" ويوسف عليه السلام يناجي ربه "توفني مسلما والحقني بالصالحين" فكيف بمن دونهم؟؟ يبكي سفيان عند موته، فيقول من حضر عنده أتخاف من الذنوب؟؟ فيأخذ حفنة من التراب ويقول لهم: ما الذنوب عندي بأهون من هذه، ولكن أخاف من سوء الخاتمة. ولهذا جأت الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم "لا تعجبوا بعمل عامل حتى تنظروا بم يختم عملة".

ثانيا: الخوف من عاقبة المعصية، فالمعصية الواحدة قد تعاقب بها، وتحاسب عليها، فأسمع يا مغرورا بالأماني لعن إبليس وأهبط من الجنة بترك سجدة واحدة أمر بها، وأخرج أدم من الجنة بلقمة تناولها، وحُجب القاتل عنها بعد أن رأها عيانا بملء كف من دم، وأمر بقتل الزاني أشنع القتلات إن كان محصنا بإيلاج قدر أنملة فيما لا يحل له، وأمر بإيساع الظهر سياطا بكلمة قذف، أو قطرة من مسكر، وقطع عضو من الأعضاء بثلاثة دراهم، فلا تأمن أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه "ولا يخاف عقباها" و"دخلت أمرآة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" "وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقى لها بالا يهوي بها في النار أبعد مابين المشرق والمغرب" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى وادي القِرى، ونزلنا بها مع غروب الشمس، ومع رسول الله غلام له يخدمه، فوالله أنه ليضع رحلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه سهم غرب -أي طائش- فأصابه فقتله -رجل رأءه الصحابة يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، ويصب له ماء الوضوء، ويجاهد معه، فقالوا: هنيئا له الجنة!! لكن ذلك كله لم يشفع له، ومعصية واحدة صغيرة في أعين الناس أدت به إلى النار- فقال صلى الله عليه وسلم: "كلا والذي نفسي بيده أن الشملة التي أصابها يوم خيبر من الغنائم لم تُصبها المقاسم لتشتعل على نارا". سمع رجل من الصحابة هذا الحديث ورأى هذه الواقعة فقال يا رسول الله: أصبت شراكيين لنعليين - أي حبال تصلح بها النعل- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يقدُّ _أي يقطع_ لك مثلهما في النار" ولما كلف الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة بتقسيم الغنائم، ولقي من التعب والحر الشديد، ما جعلة يَعصبُ على رأسه عصابة من الغنائم يتقي بها الشمس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "عصابة من النار عصبت بها رأسك". كلمات تقشعر لها الأبدان، وتهلع لها الافئدة، فاحذروا المعاصي فإنها سبب الشقاء والنكد، والبلاء والعذاب في الدنيا والآخرة.

ثالثا الخوف من عدم القبول، ورد الأعمال، سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: "والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون" أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟؟ فقال: "لا يا بنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يتقبل منهم اولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون" فالأمر يا عباد الله ليس متعلق بكثرة الطاعات، ولا تنوع العبادات، فلا قيمة لها إن ردت، ولا فائدة منها إن لم تقبل، "رب قائم حظه من قيامه السهر والتعب، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش".

رابعا: الخوف من الاستدراج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت الله تعالى يُعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصية فإنما ذلك منه إستدراج" فإذا أنعم الله عليك بنعمة، من وفرة المال، وكثرة العيال، وارتفاع المنزلة، وسمو المكانة، و عافية البدن، وأنت مقيم على الكبائر، مصر على فعل الصغائر، فاعلم أنك في عداد المستدرجين فكل نعمة لا تقرب من الله فهي نقمة، وكل عطية تصرفُ عن الله فهي بلية، وسنة الإستدارج سنة إلهية حذرنا الله من أن نفغل عنها فقال تعالى: "أيحسبون أنما نُمدهم به من مال وبنيين. نُسارعُ لهم في الخيرات بل لايشعرون" الإصرار على الذنب، مع توالي النعم، يورث الخزي والبوار، والهلاك والخسران، قال تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون".
المشاهدات 3272 | التعليقات 0