الخوارج في السنة النبوية
هلال الهاجري
1435/11/09 - 2014/09/04 10:03AM
الحمدُ للهِ الذي هدانا للإسلامِ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، أحمدُه سبحانَه أكملَ لنا دينَنا، وأتمَّ علينا نعمتَه، ورضيَ لنا الإسلامَ ديناً إلى يومِ الدِّينِ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ .. وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ربُّ العالمينَ وإلهُ الأولينَ والآخرينَ، أتقنَ ما صنعَ، وأحكمَ ما شرعَ، فأغنى عن البِدعِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه النَّبيَّ الأمينَ، والرَّسولَ المبينَ، وإمامَ المتقينَ، وخيرةَ خلقِه أجمعينَ، بلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأمَّةَ، وتركَها على بيضاءَ نقيَّةٍ لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .. أما بعد:
فبدايتُهم كانَ في ذلك الموقفِ المَخزيِّ .. الذي عابَهم عليه التَّاريخُ .. وذمَّهم عليه كلٌّ صاحبِ سُنَّةٍ .. حينَ كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ قِسْمًا، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ) .. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ؟، فَقَالَ: (دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ).
فيا أهلَ الإيمانِ .. إذا كانَ إمامُهم يُنكرُ على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ ويتَّهمُه بعدمِ العدلِ .. فكيفَ يكونُ تعاملُهم من الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِن بَعدِه .. بل كيفَ سيكونُ موقفُهم مع حكامِ المسلمينَ وولاةِ أمرِهم من بعدِ ذلكَ؟.
فلا عجبَ بعدَ ذلكَ أن يأتوا إلى رجلٍ قالَ عنه النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ أنه: (تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ) .. ولمّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي كُمِّهِ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَنَثَرَهَا فِي حِجْرِهِ، فأصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ: (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ .. مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ) .. بل قد أخبرَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن دخولِ الجنَّةِ بعدَ بلاءٍ يُصيبُه كما في حديثِ أَبي مُوْسَى الأَشْعَرِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عندما كانَ يحرسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بستانٍ، فاستأذنَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ)، قالَ: فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللهَ، ثُمَّ قَالَ: (اللهُ الْمُسْتَعَانُ) .. فهل يُعقلُ أن مثلَ هذا يَدخلُ عليه أحدُّهم فيخنقُه، ثم يهوي إليه بالسَّيفِ، فيتَّقيه عثمانُ رضيَ اللهُ عنه بيَّدِه فيَقطعُها، فيقولُ له عثمانُ: أما واللهِ إنَّها لأولُ كفٍّ خطَّتْ المفصَّلَ منَ القُرآنِ، وذلكَ أنه كان من كَتبةِ الوَحيِّ، فقُتلَ رضيَ اللهُ عنه والمصحفُ بين يديه، فانتضَحَ الدَّمُ على المصحفِ، وسقطَ على قولِه تعالى: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
ولا غرابةَ بعدَ ذلك أن يخرجوا على رجلٍ قالَ عنه النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ أنه: (رَجُلٌ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ) .. وقد قالَ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولعمَّارِ بنِ ياسرٍ رضيَ اللهُ عنهما: (أَلا أُحَدِّثُكُمَا بِأَشْقَى النَّاسِ؟، قُالا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أُحَيْمِرُ ثَمُودُ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذِهِ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَرْنِهِ حَتَّى يَبُلَّ مِنْهَا هَذِهِ، وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ) .. فصارَ كما أخبرَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ ففي رمضانَ عامَ أربعينَ للهجرةِ، خرجَ عليُ بنُ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه من بيتِه لصلاةِ الفَجرِ، وأخذَ يمرُّ على النَّاسِ يوقظُهم للصَّلاةِ، وكانَ لا يَصطحبُ معه حُرَّاسًا، حتى اقتربَ من المسجدِ فضربَه شبيبُ بنُ نَجدةَ ضَربةً وقعَ منها على الأرضِ، لكنَّه لم يمتْ منها، فأمسكَ به عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ، وضربَه بالسَّيفِ المسمومِ على رأسِه، فسالتْ الدِّماءُ على لحيتِه، فماتَ بعدَ يومينِ رضيَ اللهُ عنه وأرضاه .. فكانَ مِنهم أشقى النَّاسِ.
ولكن تعالوا لنرى شيئاً من خصالِهم التي صحَّ بها حديثُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ:
منها أنهم أهلُ عبادةٍ وزُهدٍ .. كما خاطبَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ الصَّحابةَ خيرَ القُرونِ بقولِه: (لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ)، وقال: (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ) .. وكما وصفَهم ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما حينَ قالَ: (فَدَخَلْتُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ أَرَ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، وَوُجُوهُهُمْ مُعَلَّمَةٌ مِنْ آثَارِ السُّجُودِ) .. قالَ ابنُ حجرٍ رحمَه اللهُ تعالى: (كَانَ يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ لِشِدَّةِ اجْتِهَادِهِمْ فِي التِّلَاوَةِ وَالْعِبَادَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ، وَيَسْتَبِدُّونَ بِرَأْيِهِمْ، وَيَتَنَطَّعُونَ فِي الزُّهْدِ وَالْخُشُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ).
ولذلكَ كانَ مِنْ وصفِهم الجهلُ وقِلَّةُ الفهمِ بمعاني كتابِ اللهِ تعالى كما في الأحاديثِ بأنهم: (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ)، وجاءَ أنهم: (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) .. قال النووي رحمَه اللهُ: (لَيْسَ حَظّهمْ مِنْ الْقُرْآن إِلَّا مُرُورِه عَلَى اللِّسَانِ، فَلَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهمْ لِيَصِلَ قُلُوبَهمْ) .. فإذاً هم لا يفقهونَ ما يَتلونَ من كتابِ اللهِ تعالى .. ومن هنا وقعَ الخللُ كما قال عبدُاللهِ بنُ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما: (انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكُفَّارِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ).
ومن هنا نعلمُ صِفةً قبيحةً عظيمةً لهؤلاءِ وهي التَّكفيرُ بغيرِ حقٍّ واستباحةُ الدِّماءِ، كما قالَ عنهم النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ) .. قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ رحمَه اللهُ: (وهذا مِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ) .. وقالَ: (وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدْعَتِهِمْ، وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا).
وكانَ من جُملةِ مَن قَتلوه عبدِ اللهِ بنِ خبَّابٍ صاحبِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، فإنهم أَسروه وامرأتَه معه وهي حاملٌ، فقالوا له: من أنتَ؟، فقالَ: أنا عبدُ اللهِ بنُ خبَّابٍ صاحبُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، وأنتم قد روَّعتموني، فقالوا: لا بأسَ عليك، حدِّثنا ما سمعتَ من أبيكَ، فقالَ سمعتُ أبي يقولُ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ يقولُ: (ستكونُ فِتنةٌ، القاعدُ فيها خيرٌ من القائمِ، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من السَّاعي) فقادوه بيدِه، فبينما هو يسيرُ معهم إذ سقطتْ تمرةٌ من نخلةٍ فأخذها أحدُهم فألقاها في فمِه، فقالَ له آخرُ: بغيرِ إذنٍ ولا ثمنٍ؟، فألقاها ذاك من فمِه، وبينما هو معهم إذ لقي بعضُهم خِنزيراً لبعضِ أهلِ الذِّمةِ فضربَه بعضُهم بسيفِه فشَّقَ جِلدَه، فقالَ له آخرُ: لمَ فعلتَ هذا وهو لذِّميٍّ؟، فذهبَ إلى ذلك الذِّميِّ فا ستلَّه وأرضاهُ، فقالَ عبدُ اللهِ: ألا أُخبرُكم من هو أعظمُ عليكم حقاً من هذا؟ .. قالوا من؟، قال: أنا، ما تركتُ صلاةً، ولا تركتُ صياماً، ولا تركتُ كذا ولا كذا – يذكرُ عباداتٍ-.
ومع هذا قدَّموا عبدَ اللهِ بنَ خبَّابٍ فذبحوه، وجاءوا إلى امرأتِه، فقالتْ: إني امرأةٌ حُبْلى ألا تتقونَ اللهَ عزَّ وجلَّ، فذبحوها وبقروا بطنَها عن ولدِها .. ثُمَّ صبَّحوا حيَّاً من العربِ، يُقالُ لهم بنو قَطيعةٍ فاستعرضوهم فقتلوا الرِّجالَ والنِّساءَ حتى جعلوا يُلقونَ الأطفالَ في القُدورِ وهي تفورُ .. ولا زالوا كذلك في تعطُّشِهم على سفكِ الدِّماءِ وتَفنٌّنِهم في وسائلِ القتلِ المُقزِّزةِ.
ومن صفاتِهم كما أخبرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ) .. فغالبُهم صِغارُ السِّنِ .. ويغلبُ عليهم الحماسُ والخِفةُ والطَّيشُ .. قالَ النَّوويُّ رحمَه اللهُ: (يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ التَّثَبُّتَ وَقُوَّةَ الْبَصِيرَةِ تَكُونُ عِنْدَ كَمَالِ السِّنِّ وَكَثْرَةِ التَّجَارِبِ وَقُوَّةِ الْعَقْلِ).
ومن خِصالِهم التي يخدعونَ بِها أتباعَهم أنَّ لهم كلاماً جميلاً ومَنطِقاً حَسَناً .. كما قالَ عنهم النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (يُحْسِنُونَ الْقِيلَ، وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ)، وقالَ: (يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ) .. قال السِّنديُّ رحمَه اللهُ: (أَي يَتَكَلَّمُونَ بِبَعْضِ الْأَقْوَالِ الَّتِي هِيَ من خِيَارِ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي الظَّاهِر، مِثلِ: إنْ الحُكمَ إلا للهِ، و كدُعائِهم إِلَى كِتابِ اللهِ) .. فهم يَدعونَ لتحكيمِ الشَّريعةِ وأنْ يكونَ الحُكمُ للهِ ومحاربةِ أهلِ الكُفرِ، ولكنَّ فعالَهم على خِلافِ ذلكَ.
اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بكَ من الضَّلالةِ بعدَ الهُدى، ومنَ الزَّيغِ بعدَ الرَّشادِ، ونَعوذُ بكَ ربَّنا من الحَورِبعدَ الكَورِ، ونَعوذُ بك اللهمَّ من كلِّ عملٍ لا يُرادُ به وجهُك، ولا يُتَّقى به سَخطُك.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيه كما يُحبُ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له؛ له الحمدُ في الآخرةِ والأولى، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطفى وخليلُه المُجتبى صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن بهداهُم اهتدى وسلَّمَ تسليماً كثيراً .. أما بعد:
ومن ذميمِ خِصالِهم إعجابُهم برأيِهم والتَّعالي على عِبادِ اللهِ فلا يسمعونَ كلامَ عالِمٍ من العُلماءِ ولا يرجعونَ لأهلِ الفِقهِ والرأيِ ولا يرضونَ بحاكمٍ من الحُّكامِ، ولذلكَ يُكثرونَ من التَّفاخرِ بما يصنعونَ ويجعلونَ جرائمَهم إنجازاتٍ شرعيَّةَ .. وانتصاراتٍ دينيَّةَ .. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ فِيكُمْ قَوْمًا يَعْبُدُونَ وَيَدْأَبُونَ، حَتَّى يُعْجَبَ بِهِمُ النَّاسُ، وَتُعْجِبَهُمْ نُفُوسُهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ).
والمصيبةُ أنهم باقونَ إلى زَمنِ الدَّجالِ كما جاءَ في حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو رضيَ اللهُ عنهما، سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: (يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجِاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، كُلَّمَا قُطِعَ قَرْنٌ نَشَأَ قَرْنٌ، حَتَّى يَخْرُجَ فِي بَقِيَّتِهِمُ الدَّجَّالُ) .. ولكن لم ولن تكونَ لهم دولةٌ ولا سُلطةٌ .. يَقولُ وُهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ رحمَه اللهُ: (إِنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ صَدْرَ الْإِسْلَامِ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتِ الْخَوَارِجُ جَمَاعَةً قَطُّ إِلَّا فَرَّقَهَا اللَّهُ عَلَى شَرِّ حَالَاتِهِمْ، وَمَا أَظْهَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَوْلَهُ إِلَّا ضَرَبَ اللَّهُ عُنُقَهُ، وَلَوْ مَكَّنَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ رَأْيِهِمْ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَقُطِعَتِ السُّبُلُ وَالْحَجُّ، وَلِعَادُ أَمْرُ الْإِسْلَامِ جَاهِلِيَّةً، وَإِذًا لَقَامَ جَمَاعَةٌ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ الْخِلَافَةَ، مَعَ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، يُقَاتِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَشْهَدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْكُفْرِ، حَتَّى يُصْبِحَ الْمُؤْمِنُ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ وَدَمِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، لَا يَدْرِي مَعَ مَنْ يَكُونُ) .. ثُمَّ قالَ مُحذِّراً للشَّبابِ: (احْذَرُوا أَيُّهَا الْأَحْدَاثُ الْأَغْمَارُ هَؤُلَاءِ الْحَرُورَاءَ لَا يُدْخِلُونَكُمْ فِي رَأْيِهِمُ الْمُخَالِفِ، فَإِنَّهُمْ عُرَّةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ –أي قَذَرٌ يُشوِّهُونَ صُورَتَها-).
وأخيراً فمثلُ هؤلاءِ يُناصحونَ ويُناظرونَ بالعلمِ كما فعلَ معهم الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عنهم والعلماءُ مِن بعدِهم وقد رجعَ من رجعَ منهم عن رأيِّه .. فإذا خرجَوا بالسَّيفِ وَجَبَ قِتالُهم كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ)، وإذا أُسرَ منهم أحدٌ فعَنْ عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: خَرَجَ خَارِجِيٌ بِالسَّيْفِ بِخُرَاسَانَ فَأُخِذَ، فَكُتِبَ فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَكَتَبَ فِيهِ: (إِنْ كَانَ جَرَحَ أَحَدًا فَاجْرَحُوهُ، وَإِنْ قَتَلَ أَحَدًا فَاقْتُلُوهُ، وَإِلا فَاسْتَوْدِعُوهُ السِّجْنَ، وَاجْعَلُوا أَهْلَهُ قَرِيبًا مِنْهُ، حَتَّى يَتُوبَ مِنْ رَأْيِ السُّوءِ).
اللهمَّ اهدِ ضالَ المسلمينَ، اللهم اهدِ ضالَ المسلمينَ، اللهم رُدَّهم إلى الحقِّ ردَّاً جميلاً، اللهم رُدَّهم إلى الحقِّ ردَّاً جميلاً، اللهم وَفِّقنا لاتباعِ سبيلِك ولزومِ سُنَّةِ نبيِّك محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ، وأعذْنا من الفتنِ كُلِّها ما ظهرَ منها وما بطنَ، اللهم واحفظْ علينا أمنَنا وإيمانَنا، اللهم وفِّقنا لهُداكَ واجعلْ عملَنا في رِضاك يا حيُ يا قيومُ يا ذا الجلالٍ والإكرامِ.
المرفقات
الخوارج في السنة النبوية.docx
الخوارج في السنة النبوية.docx
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق