الخلل في الطلاق
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ شَرعَ لنا دِينًا قويمًا، وهدانا صِراطًا مستقيمًا، القائلُ سبحانَه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه القائلُ: (قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ) صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، أما بعد:
أَتَعلمونَ مَاذا سَمَّى اللهُ تَعالى الطَّلاقَ في كِتابِه؟، سَمَّاهُ حُدودَ اللهِ، فَقَالَ: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، فَكَمْ مِن ظَالمٍ لِنفسِهِ بعَدمِ مَعرفةِ أحكامِ الطَّلاقِ، أَو عَدمِ تَطبيقِها كَما أَمرَ سُبحانَه، فَيَقَعُ الخَطرُ عَلى العَائلاتِ، ويَظهَرُ الخَلَلُ في المُجتَمَعاتِ، ومُعدَّلاتُ الطَّلاقِ في بِلادِنا خَيرُ شَاهدٍ.
ولِذلكَ يَسألُ الكَثيرُ: مَا هو الحَلُّ فِي ظَلِّ ارتِفاعِ مُعَدلَّاتِ الطَّلاقِ؟، فَهَلْ تُصَدِقوني لَو قُلتُ لَكم أنَّ الحلَّ: هو في تَطبيقِ أحكَامِ الطَّلاقِ الصَّحيحةِ .. وَقَد يَعجَبُ البَعضُ مِن ذَلكَ، ويقولونَ: كيفَ إذا طبَّقنا أحكامَ الطَّلاقِ، تَنقصُ حَالاتُ الطَّلاقِ، بل يُفترضُ أن تَزيدَ؟، فأَقولُ: اسمعْ لهذه الأحكامِ العظيمةِ، وأنت الحَكَمُ:
أولاً: لا يجوزُ تطليقُ المرأةِ إلا في وقتينِ اثنينِ فقط:
الوقتُ الأولُ: إذا طَهُرتْ من الحَيضِ وقبلَ أن يَحصلَ الجِماعُ، كَما في حَديثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وتخيَّلوا لو أن زوجاً غضِبَ على زوجتِه وكانت في حيضٍ أو طُهرٍ قد جامعَها فيه وأرادَ أن يُطلِّقَها، ثُمَّ انتظرَ أياماً حتى حاضتْ ثُمَّ طَهُرتْ ثُمَّ اغتسلتْ وتزيَّنتْ، قَد ذهبَ وصفُ الغَضبانِ، وجاءَ وصفُ الوَلهانِ، وإذا به إليها في قمَّةِ الأشواقِ، فهل تظنَّونَ حِينَها أَنْ يَقعَ الطَّلاقُ؟.
والوقتُ الثَّاني للطَّلاقِ: هو إذا كانتْ الزَّوجةُ حَاملاً، كَما في بَعضِ ألفاظِ حديثِ ابنِ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا)، فهل يُطلِّقُ من يَعدُّ الأيامَ والشُّهورَ وهو ينتظرُ بفارغِ الصَّبرِ غُلاماً جَميلاً أو جَاريةً حَسناءَ؟، بَلْ الزَّوجُ حِينَها في أَشَدِّ مَا يَكونُ مِنَ الِعنايةِ بزَوجَتِهِ في فَترةِ الحَملِ، وحِرصِهِ عَلى مَشَاعِرِها.
ومن أحكامِ الطَّلاقِ أن يُطلِّقَ الزَّوجُ تطليقةً واحدةً فقط، ويَتركُ للرُّجوعِ طَريقاً، فَقَد غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَن طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَالَ: (أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ).
ومن أحكامِ الطَّلاقِ، أنه يَحرمُ إخراجُ الزَّوجةِ من البيتِ ولا يجوزُ لها هِيَ أن تَخرجَ حتى تنتهيَ العِدَّةُ، قالَ تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ)، فيجبُ عليها أن تبقى في البيتِ حتى تنتهيَ العِدَّةُ، وهي ثلاثُ حيضاتٍ لمن تَحيضُ من النِّساءِ أو ثلاثةُ أشهرٍ لمن لا تحيضُ أو وضعُ الحملِ للحاملِ، وقالَ العُلماءُ: (وَلَهَا أَنْ تَتَشَرَّفَ لَهُ -أَيْ: تَتَعَرَّضَ لَهُ- وَتَتَزَيَّنَ)، لأنه لا زالَ زوجُها كما قالَ تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ –أي في العِدَّةِ- إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا)، فسَماه بَعلاً لها -أَيْ زَوجَاً-.
ولكم أن تتصوَّروا ثلاثةَ أشهرٍ بعدَ الطَّلاقِ، في بيتٍ واحدٍ، ينظرونَ إلى بعضٍ في كلِّ وقتٍ، يتذكَّرونَ اللَّحظاتِ السَّعيدةَ التي عَاشوها جميعاً، وتطوفُ على أذهانِهم تلك الذِّكرياتُ الجميلةُ في حياتِهم، قد ذهبتْ سكرةُ الغَضبِ، وزالتْ أسبابُ العَتبِ، وليسَ بينَه وبينَها إلا أن يقولُ: (قد راجعتُك)، ويُستحبُ له أن يُشهدَ شاهدينِ على رَجعتِه، فكم هي حالاتُ الشِّقاقِ التي ستنتهي بالوِفاقِ؟، وكم هي حالاتُ الخِصامِ التي ستنتهي بالوِئامِ؟، فهل نعقلُ الآنَ لماذا ختمَ اللهُ الآيةَ بقولِه: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا).
وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ المؤمِن المهيمِن العزيزِ الجبّار المتكبِّر، له الأسماءُ الحسنى والصّفات العلى، أحمدُ ربّي وأشكره على نعمِه التي لا تُحصَى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله العليّ الأعلى، وأشهَد أنَّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المجتبى، اللهمّ صلّ وسلّم وبارِك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبِه أعلامِ الهدى، أما بعد:
فَهلْ عَلِمتُم الآنَ كَيفَ يَكونُ تَطبيقُ أحكامِ الطَّلاقِ حَلَّاً لِمُشكلَةِ ارتِفاعِ مُعدلاتِ الطَّلاقِ؟، فيا أيَّها الأزواجُ، إن الطَّلاقَ ليسَ سِلاحاً تُهدِّدُ به الزَّوجةَ متى شئتَ، أو تتلاعبُ به في عدمِ تطبيقِ أحكامِه كما أمرَ اللهُ تعالى، بل هو حدٌّ من حدودِ اللهِ، جعلَه حلَّاً لبعضِ العلاقاتِ الزَّوجيَّةِ التي لم ينفع معها سائرُ الحُلولِ، وآخرُ العِلاجِ الكيُّ.
فأُوصيكم بوصيَّةِ اللهِ سبحانَه حينَ قالَ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)، وأُوصيكم بوصيَّةِ الحبيبِ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا).
خاصمَ الحسنُ بنُ الحسينِ بنِ عليٍ رضيَ اللهُ عنهما امرأتَه يوماً ولم يستطعْ أن يُطلِّقَ بعدَ عشرينَ سنةٍ حِفظاً للودِّ وصَوناً للعِشرةِ فقالَ لها: (أمرُكِ بيدِكِ)، فقالتْ المرأةُ العاقلةُ: (أمَا واللهِ لقَدْ كانَ بيدِكَ عِشْرين سنَة، فأَحسنْتَ حِفْظَه وَصحْبَه، فلن أُضيِّعه إذا كانَ بيدِي ساعةً مِن نَهَار، وقدْ رددْتُه إليْكَ، فأُعجِبَ بذلكَ مِن قولِها وأمسَكَها).
اللهمَّ أصلحْنا وأصلحْ أزواجَنا، وأصلحْ أبناءَنا وبناتِنا، اللهم اهدِنا سُبُلَ السَّلامِ، وأخرجْنا مِن الظُّلماتِ إلى النُّورِ، وجنبْنا الفواحشَ والفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، لا إله إلاّ أنتَ سبحانَك إنّا كنَّا مِن الظالمينَ، اللهم اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرفْ عنَّا سيئَها لا يصرفْ سيئَها إلاّ أنت، اللهم استرْ عوراتِنا وآمنْ روعاتِنا، واحفظْنا مِن بين أيدينا ومِن خلفِنا، وعن أيمانِنا وعن شمائلِنا ومِن فوقِنا، ونعوذُ بعظمتِك أنْ نُغتالَ مِن تحتِنا، اللهم نوِّرْ على أهلِ القبورِ قبورَهم، واغفر للأحياءِ ويَسرْ أُمورَهم، اللهم لا تجعلْ لكافرٍ على مؤمنٍ سبيلاً، اللهمَّ أَصلحْ ولاةَ الأُمورِ، واجعلْ أَمرَهم لِنَصرِ دِينِكَ، ولإعلاءِ كَلمتِكَ، رَبَّنا آتنا في الدُّنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حَسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ.
المرفقات
1666756139_الخلل في الطلاق.docx
1666756151_الخلل في الطلاق.pdf