الخلال النبوية (17) ثبات النبي صلى الله عليه وسلم

الخلال النبوية (17)
ثبات النبي صلى الله عليه وسلم
11 / 8 / 1439هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَقَامَ حُجَّتَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَقَطَعَ مَعَاذِيرَ الْمُعْتَذِرِينَ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ؛ فَهُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ، الْحَلِيمُ الْعَلِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ دَلَّتْ دَلَائِلُ الْخَلْقِ وَالشَّرْعِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبَرْهَنَتْ أَفْعَالُهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ هَادِيًا وَمُعَلِّمًا، وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاثْبُتُوا عَلَى دِينِكُمْ فَإِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلَا سَعَادَةَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا بِهِ، وَلَا نَجَاةَ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِالْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 132]، فَاللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى دِينِ الْحَقِّ إِلَى الْمَمَاتِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَاتٌ عَلَى الْحَقِّ عَجِيبٌ، وَإِصْرَارٌ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَمِنْ سِيرَتِهِ يَتَعَلَّمُ الْمُؤْمِنُونَ الثَّبَاتَ؛ فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَامُ الثَّابِتِينَ عَلَى الْحَقِّ، وَلَهُمْ فِي ثَبَاتِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ فَلَمْ يَتَرَاجَعْ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَسَاوَمُوهُ فَلَمْ يَتَنَازَلْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، وَأَغْرَوْهُ بِمَا يُغْرَى بِهِ الْأَكَابِرُ مِنَ النَّاسِ فَمَا تَزَحْزَحَ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَكَانَ ثَابِتًا ثُبُوتَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي، بَلْ لَوْ تَزَحَزْحَتِ الْجِبَالُ عَنْ مَقَارِّهَا لَمَا تَزَحْزَحَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دَعْوَتِهِ.
وَلَجَأَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ لِيُسْكِتَهُ لِمَا لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَضْلِ، فَقَدْ رَبَّاهُ مَعَ أَوْلَادِهِ، قَالَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يُؤْذِينَا فِي نَادِينَا وَفِي مَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنْ أَذَانَا، فَقَالَ: يَا عَقِيلُ: ائْتِنِي بِمُحَمَّدٍ، فَذَهَبْتُ فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ بَنِي عَمِّكَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ وَفِي مَسْجِدِهِمْ، فَانْتَهِ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا لِي مِنْهَا شُعْلَةً. قَالَ: فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: مَا كَذَبَنَا ابْنُ أَخِي، فَارْجِعُوا» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى.
وَذَاتَ مَرَّةٍ طَمِعَ أَحَدُ كُبَرَائِهِمْ فِي أَنْ يَلِينَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَصَلُّبِهِ، وَيَحْرِفَهُ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ؛ فَهَذَا دِينُ اللَّهِ تَعَالَى يَحْمِلُهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ قُرَيْشًا اجْتَمَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ لَهُمْ: دَعُونِي حَتَّى أَقُومَ إِلَيْهِ أُكَلِّمَهُ فِإِنِّي عَسَى أَنْ أَكُونَ أَرْفَقَ بِهِ مِنْكُمْ. فَقَامَ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أَرَاكَ أَوْسَطَنَا بَيْتًا، وَأَفْضَلَنَا مَكَانًا، وَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ مَا لَمْ يُدْخِلْ رَجُلٌ عَلَى قَوْمِهِ مِثْلَهُ، فِإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَالًا فَذَلِكَ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ أَنْ يُجْمَعَ لَكَ حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ شَرَفًا فَنَحْنُ نُشَرِّفُكَ حَتَّى لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِكَ أَشْرَفَ مِنْكَ، وَلَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا عَنْ مُلِمٍّ يُصِيبُكَ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى النُّزُوعِ مِنْهُ بَذَلْنَا لَكَ خَزَائِنَنَا حَتَّى نُعْذَرَ فِي طَلَبِ الطِّبِّ لِذَلِكَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حم السَّجْدَةِ) حَتَّى مَرَّ بِالسَّجْدَةِ فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُتْبَةُ مُلْقٍ يَدَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهَا، ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ مَا يَدْرِي مَا يَرْجِعُ بِهِ إِلَى نَادِي قَوْمِهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ مُقْبِلًا قَالُوا: لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُمْ بِوَجْهٍ غَيْرِ مَا قَامَ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ كَلَّمْتُهُ بِالَّذِي أَمَرْتُمُونِي بِهِ، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ كَلَّمَنِي بِكَلَامٍ لَا وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ مِثْلَهُ قَطُّ، وَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ لَهُ. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَأَطِيعُونِي الْيَوْمَ وَاعْصُونِي فِيمَا بَعْدَهُ، وَاتْرُكُوا الرَّجُلَ وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ بِتَارِكٍ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ؛ فَإِنْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ يَكُنْ شَرَفُهُ شَرَفَكُمْ، وَعِزُّهُ عِزَّكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْهِ تَكُونُوا قَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ» رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ.
فَلَمَّا يَئِسُوا مِنْ تَوَقُّفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دَعْوَتِهِ قَدَّمُوا عَرْضًا آخَرَ لِمُسَاوَمَتِهِ فِي دِينِهِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّهُ عَرْضٌ جَيِّدٌ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَضَهُ؛ فَاجْتَمَعَ جَمْعٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: «يَا مُحَمَّدُ، هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ، فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا نَعْبُدُ كُنَّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا تَعْبُدُ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الْكَافِرُونَ: 1-6].
وَبَلَغَ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ صَارَ يُهَدِّدُهُمْ وَهُوَ وَحْدَهُ، لَا يَخْشَى مِنْهُمْ؛ حَتَّى هَابُوهُ وَخَافُوا مِنْهُ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ، سَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ كَمَا قَالُوا: قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ يَمْشِي، حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ، قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ، غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ مَرَّ بِهِمُ الثَّالِثَةَ، فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ، فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، انْصَرِفْ رَاشِدًا، فَوَاللهِ مَا كُنْتَ جَهُولًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَفِي عَزْمِهِ وَإِصْرَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ مَهْمَا كَلَّفَ الْأَمْرُ قَالَ لَهُمْ حِينَ رَدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ وَقَدْ جَاءَ مُعْتَمِرًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي -يَعْنِي: رَقَبَتَهُ- وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَصَلَوَاتُ رَبِّنَا وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا دَامَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
وَلْنَتَعَلَّمْ -عَبَادَ اللهِ- مِنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّبَاتَ عَلَى الحَقِّ، وَالدَّعْوَةَ إِلَيهِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الأَذَى فِيهِ؛ فَإِنَّ عَاقَبَةَ ذَلِكَ نَصْرٌ فِي الدُّنْيَا، وَفَوزٌ أَكْبَرُ فِي الآخِرَةِ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
 
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكُمْ، وَأَيْقِنُوا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [هُودٍ: 17].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يُلَاحَظُ فِي الْمَوَاقِفِ الآنِفِ ذِكْرُهَا قُوَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِصْرَارُهُ عَلَى دَعْوَتِهِ، وَعَدَمُ تَنَازُلِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ؛ مِمَّا أَقْنَعَ أَبَا طَالِبٍ بِمَوْقِفِهِ فَرَدَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ عَلَى أَعْقَابِهِمْ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ جَلِيًّا فِي مَوْقِفِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُوَ مِنْ سَادَةِ قُرَيْشٍ وَحُكَمَائِهِمْ؛ فَإِنَّهُ ذَهَبَ لِمُحَاوَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ حُزْمَةٌ مِنَ الْعُرُوضِ الْمُغْرِيَةِ الَّتِي ظَنَّ عُتْبَةُ أَنَّهُ يُثْنِي بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَبَعْدَ مُحَاوَرَتِهِ إِيَّاهُ، رَجَعَ إِلَى سَادَةِ قُرَيْشٍ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَعْوَتِهِ.
كُلُّ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوقِنَ بِالْحَقِّ، الثَّابِتَ عَلَيْهِ، الْمُتَمَسِّكَ بِهِ، يَخْضَعُ لَهُ النَّاسُ وَيَحْتَرِمُونَهُ وَلَوْ كَانُوا يُعَادُونَهُ، وَيَتَنَازَلُونَ هُمْ عَنْ مَبَادِئِهِمْ؛ لِأَنَّهَا بَاطِلٌ اخْتَرَعُوهُ فَسَهُلَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهَا؛ رَجَاءَ أَنْ يَتَنَازَلَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ؛ وَلِذَا سَاوَمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يَعْبُدُوا إِلَهَهُ سَنَةً، وَيَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ سَنَةً، وَقَدْ يَبْدُو هَذَا الْعَرْضُ مُغْرِيًا فِي ظِلِّ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ سُورَةَ (الْكَافِرُونَ) تَرُدُّ هَذِهِ الْمُسَاوَمَةَ الْهَزِيلَةَ الَّتِي يَخْضَعُ فِيهَا الْحَقُّ لِشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ؛ وَذَلِكَ لِأنَّ الْبَاطِلَ هَزِيلٌ وَلَوْ كَانَ أَصْحَابُهُ يَمْلِكُونَ الْعَدَدَ وَالْعُدَّةَ، وَكَانَ الْعَالَمُ كُلُّهُ مَعَهُمْ، وَالْحَقُّ أَقْوَى وَلَوْ لَمْ يَحْمِلْهُ إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ.
وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ مُشَاهَدَةٌ فِي عَالَمِ الْيَوْمِ؛ فَرَغْمَ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، وَقِلَّةِ حِيلَتِهِمْ، وَهَوَانِهِمْ عَلَى أُمَمِ الْكُفْرِ، وَرَغْمَ اجْتِمَاعِ الْكُفَّارِ بِشَتَّى مِلَلِهِمْ، وَمَعَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُرْتَدُّونَ ضِدَّ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، تَشْوِيهًا فِي الْإِسْلَامِ، وَوَصْفًا لَهُ بِأَبْشَعِ الْأَوْصَافِ، وَاتِّهَامِ الْمُسْلِمِينَ بِشَتَّى التُّهَمِ الْمُنَفِّرَةِ مِنْهُمْ وَمِنْ دِينِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَنْتَشِرُ وَيَقْوَى، وَحِيَلَ الْأَعْدَاءِ تَنْقَطِعُ، وَعُقُولَهُمْ تَكَادُ تَطِيشُ مِمَّا يَرَوْنَ. وَفِي كُلِّ يَوْمٍ لَهُمْ مَكْرٌ وَعَمَلٌ وَكَيْدٌ ضِدَّ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَزِيدُ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ إِلَّا قُوَّةً وَانْتِشَارًا، وَلَا جَوَابَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ الْحَقُّ، فَهَزَمَ هَذَا الْحَقُّ مَجْمُوعَ بَاطِلِهِمْ الْمُرَكَّبِ مِنَ الدِّيَانَاتِ الْمُحَرَّفَةِ وَالْوَثَنِيَّةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْمَادِّيَّةِ الْمُخْتَرَعَةِ، وَسَيَهْزِمُهُمُ الْإِسْلَامُ، وَمَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا الثَّبَاتُ عَلَى دِينِهِمْ مَهْمَا كَانَتِ التَّبِعَاتُ. وَإِنَّ دِينًا حَمَلَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَبَعْدَ بِضْعِ سَنَوَاتٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَتْبَاعِ عَشَرَاتُ الْأُلُوفِ، ثُمَّ بَعْدَ قَرْنٍ مِئَاتُ الْأُلُوفِ، وَبَسَطَ سُلْطَانَهُ عَلَى الْأَرْضِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ  قَرْنًا؛ لَحَقِيقٌ أَنْ يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَيَنْتَشِرَ فِي أَصْقَاعِ الْأَرْضِ، وَيُعِيدَ بَسْطَ سَيْطَرَتِهِ عَلَى قَارَّاتِهَا كُلِّهَا، وَبَوَادِرُ ذَلِكَ وَاضِحَةٌ لِلْمُتَبَصِّرِينَ الْمُوقِنِينَ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: 171 - 173]، فَهِيَ كَلِمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ سُبْحَانَهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ، إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
 
 
المرفقات

النبوية-17

النبوية-17

النبوية-17-مشكولة

النبوية-17-مشكولة

المشاهدات 2202 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


شيخنا أليست حم فصلت ؟