الخطيب والوصايا العشر- 2 - الشيخ محمد الأمين مقراوي الوغليسي-عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1439/05/26 - 2018/02/12 10:14AM

يعتبر الخطيب في الإسلام فردا من أفراد المجتمع المسلم، له ما للمسلمين من حقوق، وعليه ما على المسلمين من واجبات، إلا أنه يظل في الوعي الجمعي للمسلمين مسلما مميزا عن بقية المسلمين، فهو من أهل العلم والفضل، ومن ورثة الأنبياء، ومن الصالحين المصلحين؛ لذلك ظلت مكانته محط أنظار العامة والخاصة عبر التاريخ الإسلامي، واستمر ذلك حتى في العصور التي ضعف فيها المسلمون، بدليل حرص العديد من الخلفاء والسلاطين على ممارسة الخطابة، لما فيها من شرف وقداسة عند أهل الإسلام.

 

وإذْ ذكرنا بعضا من خصائص الخطيب في التاريخ الإسلامي؛ فإننا نشير إلى أن خطيب اليوم مطالب بأن يكون في مستوى المنبر الذي يخطب منه في جموع المصلين، فهو قدوة للجميع، وأسوة في أفعاله وتصرفاته قبل أقواله، وصاحب رسالة قبل أن يكون شيئا آخر، وسيبقى صاحب رسالة ورثها عن الأنبياء؛ حتى لو سمته المنظومات الحالية موظفا لدى مؤسسة المسجد، كما هو الحال في الكثير من أقطار العالم الإسلامي.

 

وقد ذكرنا في الجزء الأول جملة من الوصايا التي لا يستغنى الخطيب عنها، وعطفا على ما سبق نهديه مجموعة أخرى من الوصايا؛ تفيده في مسيرته، وتحفظ هيبته، وتصون سمعته، نذكر منها ما يلي:

 

3- الخطيب وفقه المكان (معرفة واقع الحي):

لا يكون الخطيب خطيبا بحق حتى يكون ملما بفقه المكان والزمان، فالأماكن تختلف وتتنوع، واختلافها يترك أثرا واضحا في ساكنيها وطباعهم وأخلاقهم، فالحي الدبلوماسي غير الحي الراقي، والحي الراقي غير الحي الشعبي، فلكل منها خصائصه وسماته، والحي الذي يكون في المدن غير الحي الذي يكون في الأرياف، وطباع أهل المدن غير طباع أهل الريف، وثقافة أهل الجبل غير ثقافة أهل السهول، وعادات أهل الصحراء تختلف عن عادات من يسكنون السواحل.

 

كيف يؤثر المكان في الناس؟

وسبب هذا الاختلاف راجع إلى تأثير المكان في الساكنة وطبائعها، أهل المدن يميلون عادة إلى التحضر في المعاملة، بينما يميل أهل البادية إلى الجفاء والشدة في التعامل، وراعت الشريعة الإسلامية ذلك، وبنت عليه أحكاما عظيمة، فقد جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن" (رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وصححه الألباني)، فالبادية وقسوة العيش فيها تجعل الجفاء صفة واضحة في أهل البوادي، وسبب بعدهم عن اللين، والتصاق طباعهم بالشدة بعدهم عن العلم، وعدم اختلاطهم بالعلماء، كما جرت العادة فيهم بعدم الاختلاط ببعضهم البعض، وقد انتبه بعض الفقهاء إلى ذلك؛ فكره إمامة أهل البادية لأهل الحضر، سدا لذريعة الخلاف والخصومة، واحتياطا لدين المسلمين، فالمعروف عنهم جهلهم بأحكام العبادة والطهارة والصلاة، وقد ثبت عن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- النهي في هذه المسألة، قال مالك -رحمه الله- في المدونة: "لا يؤم الأعرابي في حضر ولا سفر؛ وإن كان أقرؤهم"، وعلل الفقهاء قول مالك بفُشُوِّ الجهل فيهم؛ وقلة حضورهم الجمع والجماعة، وإذا كان هذا الأمر ملحوظا في مجال الفقه ومسائل العبادة، فإنه في غيره من المجالات أولى وآكد، وعلى رأس ذلك كله مجال الخطابة.

 

وفي حديث آخر للنبي -صلى الله عليه وسلم- يظهر حجم تأثير المكان على الإنسان ووجوده، وطباعه، ومصيره، يقول عليه الصلاة والسلام: "رأس الكفر نحو المشرق والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغن" (رواه البخاري في الصحيح).

 

والشاهد في الحديث: قوله عليه الصلاة والسلام: "والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل، والفدادين أهل الوبر"، ويُقصد بهم كما جاء في شروح الحديث سكان البادية، وممن ذهب إلى ذلك ابن عبد البرّ في الاستذكار بقوله: "فإنه اراد الأعراب أهل الجفاء والتكبر، وهم أهل الخيل والإبل، وكلهم أو جلهم فداد، متكبر علي متجبر، هذا معنى الفداد عند أهل اللغة والعلم" (انظر: كتاب الاستذكار  الجامع لمذهب فقهاء الأمصار لابن عبد البر، ص 204)، ونقل ابن حجر -رحمه الله- في شرحه لهذه العبارة عن الأخفش قوله: "الفدادين جمع فدفد وهي البراري والصحاري"، ويشار هنا إلى ذم البادية ليس لذاته، فسكن البادية مذموم لغيره، وقد وضح بعض الفقهاء وشراح الحديث ذلك، فاشتغالهم بأمور الرعي، وتركهم للفروض والواجبات والجمع والجماعات، ومسائل التفقه والمدارسة، جعلهم جفاة قساة، فلينتبه المسلم إلى ذلك، فهي ليست مسألة عنصرية قط، بل في الحديث إشارة إلى فضل الأماكن التي يتاح فيها للمسلم العلم والتعلم، ومخالطة أهل الفقه والعلم والثقافة الأصيلة النافعة، وحث على الهجرة إليها والبقاء فيها بعد الهجرة، وقد جاء في حديث النبي -عليه الصلاة والسلام-: "اجتنبوا الكبائر السبع"، فسكت الناس فلم يتكلم أحد، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ألا تسالوني عنهن؟ الشرك بالله، وقتل النفس، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنة، والتعرب بعد الهجرة" (رواه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني في الصحيحة).

 

كيف يستفاد من فقه المكان؟:

من خلال مضى نجد أن للمكان فقها خاصا، وأحكاما خاصة به، وجب على الخطيب الألمعي أن يكون عالما بها، ممتلكا لفقه المكان، موجدا لهذا الملكة مكانة في خطابه وأسلوبه، فالخطبة التي يقدمها في البادية لا تشبه الخطبة التي يقدمها في المدينة، والخطبة التي يقدمها في حي يميل أهله إلى التدين والالتزام تختلف عن تلك التي يلقيها في حي ضعيفٌ تدينه، وأهل العلم فيه والخير قلة.

 

وحسبنا هنا في هذا المقال: أن نذكر إشارات تفتح ذهن الخطيب على أهمية المكان، وتترك أثرا في تحضيره، وانتقائه لمواضيع خطبته، وكيفية تقديمها إلى المصلين.

 

إن مما يوجبه فقه المكان على خطيب الجمعة في العالم الإسلامي: أن يدرس الحي الذي يخطب فيه، فيعرف عاداته، ويضبط تصوره عن الشريحة التي تغلب عليه، وأن يحدد وضعه المادي، أهو من الأحياء الفقيرة أو الميسور حالها، أو هو من الأحياء التي يهتم أهلها بالعلم والثقافة، والمهن النبيلة الشهيرة، أم هو حي يميل أهله للتجارة والحرف، وهل هو من الأحياء التي يعظم فيها الناس أمر الدين، أو يستهينون به، وعليه أن يحدد نوع الفساد الذي يجثم فوق الحي الذي يرابط فيه؛ ولا ينسى أن يعرف أهل السوق في حيه، وأهل الحرف فيه، وأماكن اللهو، ويزورها ويتفقد مرتاديها، ويعرف عاداتهم ومخالفاتهم، ويتأكد على الخطيب أن يعرف وجهاء الحي وأعيانه، فهم عونه في حل مشكلات الحي، ويده اليمنى إن هو أحسن الاستثمار فيهم بما يخدم رسالته لا أغراضه.

 

وإذا امتلك الخطيب خارطة كاملة شاملة لمكونات الحي الذي يخطب فيه، وعرف نقاط ضعفه وقوته، وسلبياته وايجابياته؛ تيسرت رسالته، والتف المسلمون حوله، وهذا الخطيب المميز، المشّاء في زقاق الأحياء، الجوّال بين بطحائها وأسواقها، الرائد إلى أماكن التعلم فيها ناصحا ومبينا، القاضي حاجات الضعفاء، والواصل بين الفقراء والأغنياء من ساكنة حيه؛ هذا هو الخطيب الذي تفتقده ساحة المسلمين.

 

الخطيب بين فقه المنبر وفقه المكان:

إن الخطيب الذي يعتقد أن عليه فقه المكان الذي يصعد إليه كل جمعة وحسب؛ هو رجل قاصر في فهمه، مقصر في حق أمته وحيه، بل عليه فقه المكان الذي يصعد فيه خطيبا، وفقه المكان الذي أتى منه المصلون، ودون الجمع بين هذين الفقهين؛ فإن التوفيق والتأثير لن يكونا من نصيبه، والله سائله عن تقصيره هذا.

 

إن الخطيب الذي لا يأتي إلى الحي إلا يوم الجمعة، وخاصة ممن يسكنون خارجه، ممن تيسرت أمورهم المادية، ويعلل هروبه من الناس بالحفاظ على هيبته المزعومة، جاهل بحقيقة رسالته، وصادٌ عن منهج النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي كان يمشي في الناس، ويعرف الضعفاء والفقراء والمحتاجين، ويقضي حاجاتهم، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يتفقد أصحابه عند صلاة الفجر، عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: "صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما الصبح، فقال: أَشاهدٌ فلان؟ قالوا: لا، قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: "إن هذين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما؛ ولو حبوا على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله -تعالى-" (رواه أبو داود).

 

هكذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو خير من علم وخطب في الناس، وقد سار الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- والسلف الصالح على هذه السنة المهجورة، فهذا عمر يسأل عمن فقدهم في صلاة الفجر، وروى مالك في ذلك أحاديث، قال مالك -رحمه الله- إن عمر بن الخطاب انصرف من صلاة العصر، فلقي رجلا لم يشهد العصر، فقال عمر: ما حبسك عن صلاة العصر؟ فذكر له الرجل عذرا، فقال عمر: طفَّفت".

 

فماذا يقول بعد هذا ذلك الخطيب الذي قد لا يحضر حتى صلاة الفجر في الحي الذي يسكن ويخطب فيه، ممن وقعت من نفوسهم هيبة الخطابة، وحقيقة الرسالة، وعظم الأمانة، وماذا يقول الخطيب الذي يفر من أهل الحي كأن الطاعون قد اصاب ذراريهم ونساءهم؟

 

الفقهاء وأجر الحبس:

إنه لا عذر لمن قصر في أداء الأمانة، وتبليغ الرسالة، وحمل مشعل الدعوة والإصلاح، ولو احتج خطيب بالترتيبات القانونية في العالم الإسلامي؛ والتي تفرق بين إمام الصلوات الخمس، وبين الإمام المدرس، والإمام الخطيب، لما كان لحجته بلاغة ولا قوة، فهو محكوم بالشرع، وبسيرة النبي -عليه الصلاة والسلام-، بل إن عليه أن يتذكر أن الفقهاء حين أجازوا أخذ الأجرة على الصلاة والخطابة قد عللوا بذلك بعلة الحبس، أي حبس الإمام نفسه للصلاة والخطابة والدعوة إلى الله -تعالى-، ولا يفهم من هذا أن الخطيب ليست له مشاغل وأغراض وحاجات ومسؤوليات، ولكن المقصود هنا أن يراعي الحد الأدنى في أداء رسالته، وسيبارك الله -تعالى- جهوده، ويرزقه الصحة والعافية، وستكون ذريته قرة عينه، هذا موعود الله -تعالى- للطيبين والصالحين المصلحين، ومن لم يستطع صبرا في هذا الحقل الدعوي العظيم، والموروث النبوي الجليل فليسرح نفسه من الخطابة بإحسان، فإنها أمانة ثقيلة، ووديعة عظيمة، تحفها الكثير من المصاعب.

 

من فوائد فقه المكان:

وأخيرا يحسن التذكير ببعض فوائد فقه المكان على الخطيب: اعلم أيها الخطيب الموفق أن من يمشى في الناس من أهل العلم، ويسأل عن أحوالهم، ويشفع لهذا، ويساهم في قضاء حاجة هذا، ويصلح ذات البين، ويطفئ نيران الخصومات، ويحارب الجهوية والفئوية والعنصرية بين أهل حيه، ويشاركهم أفراحهم وأقراحهم، ويعلمهم دينهم، يفتح الله تعالى له قلوب الناس، وينشر محبته فيهم، ويرفع مقامه بينهم، ويعلو شأنه عندهم، وتشرئب أعناقهم إليه، ويسلمون لأحكامه إذا اختصموا، ويستجيبون لنصحه إن أبداه، والجزاء في الدنيا، التوفيق ويسر المعيشة، والبركة والعافية في الصحة والمال والولد، والسؤدد في الدنيا، والذكر الحسن بعد الموت؛ فلا يلتفت بعد هذا البيان إلى المثبطين، المحقرين لشأن فقه المكان، والاختلاط بأهل الحي، ولا يلتفت إلى من ينفره من ملاطفتهم والتحبب إليهم، وليكن منهج النبي -عليه الصلاة والسلام- في حياته مع أصحابه الكرام، "فخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

يتبع...

المشاهدات 659 | التعليقات 0