(الخطبة ) الترهيب من الدين
خالد الشايع
الخطبة الأولى ( الترهيب من الدين ) 21/7/1443
أما بعد فيا أيها الناس : لقد كفل الله للناس معاشهم ، ويسر لهم سبل كسب المال بالطرق المشروعة ، ولم يكلف نفسا إلا ما آتاها ، قال تعالى ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله )
والناس في حياتهم ينفع بعضهم بعضا بالطرق المشروعة كالبيع والشراء ، والهبة ، والقرض ، غير أن الشرع حذر من الربا وجعله حربا لله ورسوله ، واباح القرض الحسن ، وهو أن يقترض المسلم من أخيه مالا ، ، ولقد أباح الله القرض الحسن عند الحاجة ، وقد اقترض النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لآجل ورهن درعه حتى يوفيه ، ومات قبل أن يوفيه ، فوفاه عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ولكن الخطر يكمن فيمن يقترض بلا حاجة ملحة ، وإنما للصرف في الكماليات ، وماليس بأهل أن يقترض من أجله ، أو أن يقترض المسلم وفي نيته عدم السداد للناس ، فهذا قد أشغل ذمته ، وعرض نفسه للعقوبة.
أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله))
يشمَل الحديث كل من أخذ أموال الناس بأي طريق مباح، فيدخل في ذلك أخذ المال عن طريق القرض أو العارية أو الوديعة أو غير ذلك، فمن أخذ شيئًا من ذلك وهو عازمٌ على أداء حق الناس أعانه الله تعالى على أدائه، وذلك في الدنيا بأن ييسر له الأداء، أو يعطف أصحاب الحق عليه لتحليله من الدين أو غير ذلك، أو ييسر الله له من يسد دينه بعد وفاته ، وفي الآخرة إن لم يتيسر له ذلك في الدنيا بأن يرضيَ عنه خصومه فلا يأخذوا من حسناته ولا ترد عليه سيئاتهم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إما بأن يفتح عليه في الدنيا، وإما بأن يتكفل عنه في الآخرة اهـ،
وقال العيني رحمه الله: يسر له ما يؤديه من فضله لحسن نيته اهـ، وإنما يسر الله له ذلك؛ لصدق نيته، وقوة عزيمته على أداء حقوق الناس.
و في الحديث تهديد شديد للذين يأخذون أموال الناس وليس في نيتهم أداؤها، وقد تهددهم الله تعالى بالإتلاف، ومعنى هذا: أنهم بإساءتهم للناس يعادون الله تعالى ويبارزونه، وبذلك يستحقون العقوبة من الله تعالى بإتلافهم بأي نوع من الإتلاف، فقد يتلف الله نفوسهم، أو يتلف أموالهم، أو ينزع البركة منها، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: ((أتلفه الله)) ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا، وذلك في معاشه أو في نفسه، وهو عَلَمٌ من أعلام النبوة؛ لِما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئًا من الأمرين، وقيل: المراد بالإتلاف عذاب الآخرة .
وقال العيني رحمه الله: ((أتلفه الله)) يعني يذهبه من يده فلا ينتفع به؛ لسوء نيته، ويبقى عليه الدَّين، ويعاقب به يوم القيامة؛ اهـ ، وفي الحديث الحث على حسن الأداء، وهذا من محاسن الشريعة، ومكارم الأخلاق.
و أفاد الحديث جواز الاقتراض ونحوه من المداينات، وقد قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282]، وهذه الآية عامة في جميع الديون، ومنها القرض، ولكن ينبغي ترك الاقتراض وتحمل الديون لغير حاجة؛ فقد جاءت الأحاديث بالترهيب من ذلك؛ أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُغفَر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين))؛ وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم، فذكر لهم: ((أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال))، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم، إن قُتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب، مقبِل غير مدبر))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف قلت؟))، قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفَّر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدَّين؛ فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك))؛.
اللهم أعذنا من غلبة الدين وقهر الرجال ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : ومن تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الدين أنه ترك الصلاة على من مات وهو مدين ولم يترك وفاء في أول قدومه المدينة ، ثم لما فتح الله عليه ، صار يؤدي عنهم ويصلي عليهم .
وإن من الديون التي يغفل عنها الناس ، ديون الأقارب ، فتراهم يخجلون أن يطالبوه بها ، وترى المدين لا يكترث بها ، ولا ينوي سدادها ، وربما كان الدين لغني ، فيقول المقترض هو غني لا يحتاج للمال ، وكذلك الديون إذا كانت لشركات كبيرة ، كفواتير الخدمات ، كالهاتف والجوال والماء والكهرباء ، فهذه كلها إذا لم تسدد ، تعد من الدين الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك صندوق التنمية العقاري ، وغيرها من الديون التي قد لا يعبؤ بها صاحبها ، وهي تشغل ذمته بعد موته .
عباد الله : إن كثرة الاقتراض بلا حاجة ملحة ، قد سدت باب القرض الحسن ، فترى البعض لا يمر به شهر إلا اقترض ، وليس في نيته الوفاء ، مما يجعل الأغنياء يحجمون عن الإقراض ، بحجة أن الناس لا يوفون ، وترتب على ذلك فتح المداينات الربوية أو المعاملات البنكية على الناس ، التي أثقلت كواهلهم ، فلا تكاد تجد موظفا إلا وهو مقترض وعليه سداد ، ولا يبقى من راتبه إلا القليل ، فالحذر الحذر من اشغال الذمة بلا حاجة .
أيها المسلمون : إن الصبر على قلة ذات اليد وإعفاف الوجه عن السؤال ، خير من القرض وإشغال الذمة .
وإن مما ينبغي التنبيه له ، أن من البر بالوالدين المبادرة بسداد ديونهم بعد موتهم ، إما من تركتهم أو من الأولاد إن لم يتركا سدادا ، حتى تبرأ ذمتهم .
وعلى الأغنياء أن يبادروا بإقراض المحتاجين إن طمعوا في أن يوفوا لهم ، فإن ذلك من أفضل الأعمال لما فيه من فك كربة أخيه ، وسد باب الربا عن الناس ، وأن ينظروا المعسر منهم ، أخرج أحمد في مسنده من حديث بريدة بن الحُصَيْب الأسلميِّ رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أنظَر معسرًا فله كل يومٍ مثله صدقةٌ، فقلت: يا رسول الله، سمعتك تقول: مَن أنظر مُعسرًا فله كل يومٍ مثليه صدقةٌ، قال له: كل يومٍ مثله صدقةً قبل أن يحل الدَّين، فإذا حل فأَنظَر فله كل يومٍ مثليه صدقةٌ»
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك