الخطبة الأخيرة في رمضان 28-9-1443

محمد آل مداوي
1443/09/27 - 2022/04/28 21:31PM

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنّ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.. أما بعدُ أيُّها المسلمون الصائمون: فوصِيَّةُ اللهِ للأولين والآخِرينَ تقوَاه، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ). والتقوَى ثمرةُ الصومِ العُظمى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

أيها المسلمون: يسَّرَ اللهً لعبادِهِ طُرُقَ الخيرات، وتابَعَ لهم مواسِمَ الحسَنات، وربُّنا وحدَهُ هو مُصَرِّفُ الأيَّامِ والشهور: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) جعلَ لكلِّ أجلٍ كتابًا، ولكلِّ عمَلٍ حِسَابًا، وجعل الدُّنيا سُوقًا يغدو إليها النّاسُ ويَرُوحون، فبائعٌ نفسَهُ فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها، والأيّامُ أجزاءٌ مِن العُمر، ومَراحِلُ تَفْنى يومًا بعد يوم، ورَحِيلُها استِنْفَادٌ للأعمار، واستكمالٌ للآثار، وقُربٌ مِنَ الآجال، وغَلقٌ لخزائنِ الأعمال.. مضَتْ لَيالٍ غُرٌّ بفضَائِلها، ونفحَاتِ ربّها، وأوشكَ باقيها على الرَّحيلِ وكأنّها ضَرْبٌ مِنَ الخيال.

هذا هو شهرُكم، وهذهِ هي نهايتُه، كم مِن مُستَقبِلٍ له لم يَستكمِلْه، وكم مِن مؤمِّلٍ أنْ يعودَ إليهِ لم يُدرِكه، فاغتنِمْ ما بقي مِنَ الشّهرِ بمُضاعَفةِ الطّاعات، فأيّامُ رمضانَ تُسارع إلى الرّحيل، وما الحياةُ إلاّ أنفاسٌ معدودة، وآجالٌ محدودة.

بَقِيَ مِن هذا الشَّهرِ أيَّامٌ مُباركاتٌ، وليالٍ فاضلاتٌ، وساعاتٌ غالياتٌ، بَقِيَتْ مِنَحٌ وهِبَات، وأجورٌ وأُعطِيَات، وربُّكُم هو الرَّحمنُ الرحيم، وهو الغفورُ الوَدود، الكريمُ الشَّكور.. ولو لم يَبْقَ في هذا الشَّهرِ المُبارَكِ إلاَّ دقيقةٌ واحدةٌ؛ فما الَّذي يَصرِفُنا عنِ اغتنامِها؟!

قال محمدُ بن شِهاب الزُّهري رحمه الله: "تَسْبِيحَةٌ في رمضان؛ أفضلُ مِن ألفِ تسبيحةٍ في غَيرِه" فالمؤمنُ يَغتنِمُ كُلَّ نَفَسٍ لهُ في هذا الشَّهرِ المُبارَك؛ فإنَّه لا يَدري؛ هل تَعودُ عليهِ أيَّامُ الشَّهرِ أو لا تَعود؟! ومَن هو الَمقبُولُ ومَن هو المَردُود؟!.

وخيرُ ما تُحيَى بهِ خوَاتِيمُ هذا الشَّهرِ المُبارك؛ في أيَّامِه وليَاليِه: ذِكرُ اللهِ عزَّ وجل، بالتَّسبيحِ والتَّهليل، والتَّكبيرِ والتَّحميد، وتلاوَةِ القرآن، والخَلوةِ لذلك، باعتكافٍ ونحوِه.. قال ابنُ القيِّمِ رحمه الله: "أفضلُ الصُّوَّام: أكثَرُهم ذِكرًا للهِ عزَّ وجلَّ في صَومِهِم"، وقال رحمه الله: "إذا انكشَفَ الغِطَاءُ للناسِ يومَ القيامةِ عن ثوَابِ أعمالِهم؛ لم يَروا عمَلاً أكثرَ ثوابًا مِن الذِّكر؛ فيتحَسَّرُ عندَ ذلك أقوامٌ، فيقولون: ما كانَ شيءٌ أيسَرَ علينا من الذِّكر" انتهى كلامه رحمه الله.

وأحبُّ الأعمال إلى الله: الصلاة، وما فيها مِن ذِكرٍ وتلاوةٍ ودُعاء.. فيا مَن قُمتُم وصُمتُم، بُشْرَاكُم رَحمةٌ ورِضوان، وعِتقٌ وغُفران، برحمَةِ ربِّكم وكرَمِه؛ فربُّكم رحيمٌ كَريم، جَوادٌ عظيم، لا يُضِيعُ أجرَ مَن أحسنَ عملاً، فأحسِنوا به الظنَّ، واحمَدُوه على بُلوغِ الخِتام، خَتَمَ اللهُ لنا ولكم بالحُسنى.. سَلُوه قَبُولَ الصيامِ والقيام، فإنه سبحانه قريبٌ مُجِيب، واستغفِروهُ مِنَ التقصيرِ والتَّفريطِ والعِصيان، فإنه سبحانه غفورٌ رحيم، راقِبُوه بأداءِ ما أوجَبَ عليكم، واشكرُوه على عَظيمِ نِعَمِهِ إليكم.

استقيموا على عبادتِه، واستمرُّوا على طاعتِه. وأَلِحُّوا عليهِ بالدُّعاء فإنه يُحبُّ المُلِحِّين. تضرَّعُوا لله وارجُوه، وانكَسِروا بين يدَيهِ سبحانه واستغفِرُوه، اطلُبُوا خيرَي الدنيا والآخرةِ لأنفُسِكم ولأهلِيكم وللمُسلمين.. (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

بارك الله لنا في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولَكم ولجميعِ المسلِمين من كلّ ذنب فاستغفِروه، إنّه كان غفارا.

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى واليقين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعدُ أيُّهَا المُسلِمُونَ: إنَّ لكم في خِتَامِ شَهرِكُم عِبَاداتٍ جَلِيلَةً، تَعملُونَ بها شُكرًا لِرَبِّكُم، فتَزدَادُونَ منهُ قُربًا، ويَمنَحُكُم وُدًّا وحُبًّا؛ مِن ذلك: زكاةُ الفِطر، وهيَ صَاعٌ مِن قُوتِكُم، على الصَّغيرِ والكبيرِ، والذَّكرِ والأُنثَى، والغنيِّ والفَقِير، شَرَعَهَا اللهُ تعالى تَكمِيلاً للصِّيَام، وشُكرًا لهُ على إكمَالِ العِدَّة، وطُهْرَةً للصَّائمِ مِنَ اللَّغوِ والرَّفَث، ومُوَاسَاةً للفُقراءِ والمسَاكِين، وإغناءً لهم عن ذُلِّ الحاجَةِ والسُّؤالِ يومَ العِيد.. ووقتُ إخرَاجِها مِن ثُبُوتِ خَبَرِ العِيدِ إلى صلاةِ العِيد، ويجوزُ إخرَاجُهَا قبلَ العِيدِ بِيَومٍ أو يومَين، فَأَخرِجُوها مِن طَيِّبِ قُوتِكُم، وابذُلُوها طَيِّبَةً بها نُفُوسُكُم.

 

ومِمَّا شُرِعَ لكم في خِتَامِ الشَّهرِ: التَّكبِيرُ ليلةَ العِيدِ إلى صلاةِ العِيد، كما قالَ َتعالى: (وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ)

ومِمَّا شُرِعَ لكم في خِتَامِ شَهرِكُم: صَلاةُ العِيدِ، أَمَرَ بها رسولُ اللهِ r الرِّجالَ والنِّساء، بل حَتَّى العَوَاتِقُ وذَوَاتُ الخُدُورِ والحُيَّضُ، أُمِرنَ بِشُهُودِهَا لِيَشهَدْنَ الخيرَ ودعوةَ المُسلِمِين.

فَهَنِيئًا لِمَنِ احتَسَبَ صِيَامَهُ وقِيَامَه، وعَمَّرَ بالطَّاعَاتِ لَيَالِيَهُ وأيَّامَه، وتابَ توبةً نَصُوحًا يُكَفِّرُ اللهُ بها ذُنُوبَهُ وآثامَه، ذاكَ -واللهِ!- هُوَ الذي يَحِقُّ لهُ الفَرَحُ بالعِيد، والسُّرُورُ بِلِبْسِ الجَدِيد، فاللهم وَفِّقنا لِمَا وَفَّقتَ إليهِ عِبادَك الصَّالحين، واغفِرْ لنا ولِوَالدِينا ولجميعِ المُسلِمين.

عباد الله: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً) فَصَلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين.

اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليما كثيراً.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين. اللهم احفظ رجال أمننا، وانصر جنودنا المرابطين على ثغورنا، اللهم اكلأهم بحفظك التام، واحرسهم بعينك التي لا تنام، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق ولي أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لهُداك، اللهم وفقه وولي عهده لما تحب وترضى، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، ووفِّقهم وجميع ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك، وبسنة نبيك r.

اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم اصرِف عنهم الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن، اللهم وحِّد كلمتَهم على الحق، واكفهم كل شرٍّ يا رب العالمين.

اللهم اجعلنا ممن صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابا، واكتبنا فيمن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابا، اللهم وأعد علينا رمضان أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، وأمة الإسلام في صحةٍ وسلامةٍ وعافية، يا رب العالمين.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

المرفقات

1651181502_خطبة 28-9-1443 آخر خطبة في رمضان.docx

1651181502_خطبة 28-9-1443 آخر خطبة في رمضان.pdf

1651181502_خطبة_28_9_1443_آخر_خطبة_في_رمضان_نسخة_الجوال.pdf

المشاهدات 1637 | التعليقات 0