الخروج من الغربة (2/1) أ. محمود الفقي

الفريق العلمي
1441/07/07 - 2020/03/02 11:01AM

لست أشك أن كل متمسك بالدين "بحق" في عصرنا هذا يشعر ويحس بالغربة والوحشة في هذه المجتمعات التي ابتعدت كثيرًا عن الإسلام الصحيح إلا أن يشاء الله، فكلُ مطبقٍ لدين الإسلام في هذا الزمان بفرائضه وأركانه وسننه ومستحباته وشعائره وهديه الظاهر والباطن في غير ما تمييع ولا تغيير ولا تبديل ولا ميل ولا مداهنة -كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يفعلون-، وكل "آخذ للكتاب بقوة"([1])... لا أشك أنه قد صار غريبًا منبوذًا في مجتمعه وفي عمله وفي طريقه وبين أهله، بل لربما وبين أفراد أسرته الصغيرة!

 

ولكي يتضح ما نحاول أن نقول لا بد من ضرب بعض الأمثلة:

 

فها هو حبيبنا قد ترك العنان للحيته أن تطول، ورفع ثوبه فوق كعبيه اقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومضى في حياته وسط مجتمع جاهل بتعاليم الدين، يستقي قيمه ومبادئه وأصوله من شاشات التلفاز ومن أفواه من لا خلاق لهم ولا دين! فصار مظهر حبيبنا هذا مثار الاستهزاء والسخرية والتندر والتفكه! فإذا أراد أن يوضح علت ضحكاتهم فما فهموه! وإذا أراد أن يسرد الأدلة ملوا منه وتجنبوه! وإذا علا صوته تحت وطأة إيذائهم وتماديهم واتهاماتهم وتحامقهم، قالوا: متشدد إرهابي يريد حملنا بالعنف والإجبار على رجعيته وتخلفه!... فصار بينهم المتهم المطارد المنبوذ!

 

وفي ذات يوم دُعي حبيبنا إلى حفل زفاف -وقلما يدعوه أحد إلى ذلك-، فوقع عليه الهم والحيرة؛ فإنه يعلم ما في أفراحهم من منكرات، فلئن قعد ولم يجب الدعوة قالوا: ها هم المتدينون يتجاهلون الناس ويتعالون عن تلبية دعواتهم! وإن ذهب فأنكر المنكرات التي يراها، قالوا: أجئت لتفسد علينا فرحتنا وتضيق علينا، فليتك ما جئتنا!... ثم هو لا يستطيع الثالثة وهي أن يذهب ويداهن ولا ينكر! فما تراه يفعل!

 

ولما رزقه الله بمولود، وأراد أن يصنع عقيقة يدعو إليها أهله وجيرانه وزملاءه، وهو -كما أمره ربه- يعزل النساء عن الرجال، ولا يسمع إلا القرآن أو بعض الأناشيد المباحة... وإذا بمن جاءوه يتكلمون عليه في وجهه أو غيبةً من خلف ظهره، ينتقدون ويتندرون ويستضحكون عليه من حولهم!

 

ولما كان حبيبنا في عمله ووظيفته، إذا الجميع ينافق رئيسه ويتملقه، ويقبل الرشى ويطلبها، ويتخلف عن الدوام "ساعات عمله" وزملاءه يوقعون له زورًا... فلما أراد أن يرفع رأسه بالرفض والإنكار يريد بذلك الإصلاح، صار هو المبغوض من الجميع والمرفوض من الرئيس والمرؤوس والمتعالى عليه من الصغير والكبير، وصار الاستخفاف به ديدن زملائه، إلا من رحم الله!

 

فهذا وأكثر منه يحدث في بعض مجتمعات المسلمين اليوم لمن لم يتنازل أو يترخص أو يداهن أو يترك إنكار المنكر... ولعلك -أخي الخطيب- قد عانيت بعض ذلك أو كل ذلك أو أكثر من ذلك.

  

***

 

وإن مما دفعني إلى كتابة هذه الاستراتيجية لعلاج الشعور بالغربة والعزلة والتجاهل والجفوة والوحشة والاحتقار من المجتمع عند بعض الملتزمين... ما رأيته من شدة تأثير ذلك على بعض الملتزمين، خاصة من قلت بضاعته من العلم والثقافة الدينية، وخاصة -أيضًا- حديثو السن وحديثو العهد بالتدين والالتزام... فليس جميع الملتزمين علماء، وليس جميعهم قوي الحجة ثابت الجنان، بل إن منهم ضعفاء ومستضعفون ومنهم سريعو التأثر بما حولهم، ومنهم قصير النفَس ممن يتسرب اليأس إلى نفوسهم سريعًا.

 

وكم رأينا من شاب سار في طريق الخير حينًا وظهر عليه سمت الصالحين واعتكف على كتاب الله حتى حفظ بعضه، وعلى السنة النبوية حتى وعى بعضها، وعلى كتب العلم الشرعي حتى حمل منها... ثم إنه لما بدأ يحتك بأسرته -البعيدة عن الالتزام- أو بزملائه... إذا به يتتعتع أمام هجومهم ويتراجع أمام سخريتهم وينزوي وينطوي ويتملكه الحياء مما هو عليه من الحق؛ لأن الناس "الكثيرين" يعايرونه به! فصار يتفلت شيئًا فشيئًا، وصار يتجنب الاحتكاك بالمجتمع ويتفادى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويترك الدعوة إلى طريق الله تجنبًا للتصادم بهم وانطواءً تحت وطأة الكثرة والسخرية اللاذعة والانتقاد المر...

 

***

 

ومع أن غربة أهل الدين في زماننا شديدة عاتية، لكننا نوقن أنه في كل زمان من أزمنة الإسلام وُجِد نوع ما من الغربة، فهذا الإمام الخطابي صاحب المؤلفات المشهورة، المتوفى سنة: (388 هـ)، كان يشكو من الغربة في كل بلد نزل فيها، فيقول عن بلدته "بست":

وما غربة الإنسان في غمة النوى([2]) *** ولكنها والله في عدم الشكل

وإني غريب بين بست وأهلها *** وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي

 

وقد اشتكى من الغربة أيضًا في بلدته الأخرى؛ "سجستان"، فكان مما قال:

وليس اغترابي في سجستان أنني *** عدمت بها الإخوان والدار والأهلَ

ولكنه ما لي بها من مُشَاكِل *** وإن الغريب الفرد من يعدم الشكلَ([3]).

 

وتخيل أنه بعد أن صارت للمسلمين دولة في المدينة المنورة أصابهم نوع من أشد أنواع الغربة وهو الخوف من الاستئصال وعدم الأمن على النفس وتكالب شبه الجزيرة العربية عليهم، وذلك في حفر الخندق و"غزوة الأحزاب"، فقد حدَّث حذيفة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس"، فكتبنا له ألفًا وخمس مائة رجل، فقلنا: "نخاف ونحن ألف وخمس مائة؟!"، فلقد رأيتنا ابتلينا، حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف.([4])، وفي لفظ مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا"، فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرًا.

 

والمتأمل في نصوص السنة يخلص لنتيجة مفادها: أنه كلما اقتربت الساعة كلما ازدادت غربة المسلمين، ومن تلك النصوص التي نقصد: ما رواه أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله"([5])، ومنها: ما رواه أنس أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم"([6])، وعنه مرفوعًا: "إن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا"([7])...

 

***

 

وأعلم أن هذه الاستراتيجية التي نهديها للخطباء الفطناء لن يجدوا من يطبقونها معه في مساجدهم إلا قلة؛ فإن المتمسكين "بحق" بالدين الذين لا يبدِّلون ولا يداهنون قليل جد قليل، ولكن هؤلاء القليل هم الخيرة وهم الصفوة وهم الذين تعقد على صحوتهم الآمال، ومن أجلهم كانت هذه الاستراتيجية.

 

ولا يعني هذا أن هذه الاستراتيجية لا تصلح مع غير هؤلاء "القلة" أو قل: "الصفوة"، كلا، بل إنك أخي الخطيب لو أقنعت بعض رواد مسجدك بحرمة مصافحة الأجنبية -مثلًا-، فانطلقوا يطبقون ذلك في حياتهم اليومية، إذًا لأحسوا -هم الأخرون- بنوع ما من الغربة؛ إذ أنهم قد أيقنوا أن عدم المصافحة هو الحق، لكنهم لما طبَّقوه سخر الجهلاء منهم وغمزوهم ولمزوهم... فالغربة -إذًا- أنواع ودرجات وأشكال... واستراتيجيتنا هذه تصلح -إن شاء الله- مع جميعها... وفيما يلي نُفَصِّل بعض بنودها:

البند الأول: مد حبل القرآن:

إن القرآن يحييك في عالم غير هذا العالم حياةً غير هذي الحياة، في صفحات القرآن تتقلب بين مد وجزر، وبين منع وعطاء، وبين محنة ومنحة... وبين آياته تلتقي بالصالحين وتعانق المحسنين وتتعثر بمصارع الظالمين، وفي طياته تبصر عقبى المؤمنين وعقبى الكافرين...

 

القرآن يجدد القلب حينًا بعد حين، وينقيه مما قد يعلق به من فتور أو بذور يأس أو أفكار نكوص واستسلام ومداهنة... القرآن يخبرك -مهما كنت غريبًا مضطهدًا منبوذًا- أنك لست وحيدًا؛ فقد سبقك في قافلة المؤمنين الكثير والكثير من الرفقاء ما بين نبي مرسل وصالح تقي وولي صفي... في القرآن ترى من هم على شاكلتك ممن حمل هَمَّ الدين والدعوة إلى الله وابتغاء مرضاته وإيثار اليوم الآخر... فكيف إذًا تحس أو تشعر بالغربة... وهل يحس بالغربة ممسك بحبل طرفه في الأرض والطرف الآخر في السماء؟!

 

إنه لا يتزلزل مؤمن ولن يضل ولن ينزوي ما دام متمسَّكًا بحبل الله، وعند مسلم: "ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله -عز وجل- هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة"([8])، وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله"([9]).

 

وفي كتاب الله تجد: البشرى والأمل وأن العاقبة للمتقين: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الأعراف: 128]، وفي القرآن الأسوة والقدوة والعزاء: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 146-148]، وفي القرآن الروح والريحان والشفاء من كل داء: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء: 82]، ومرة أخرى: (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ)[يونس: 57]، والشعور بالغربة والجفوة وخز في الصدر والقلب وجرح في الوجدان.

 

وبناءً على ذلك فإن تلاوة القرآن وتدبره أوثق وسائل التثبيت والخروج من الغربة، فعلى الخطيب اللبيب أن يدل الغرباء على التزام القرآن والالتحام به والذوبان داخله، ليكون صاحبهم ليلًا ونهارًا في بيتهم وفي عملهم وفي شأنهم كله... فإن فعل فقد نجح في وضع أقدامهم على أول الطريق الصحيح للخروج من الغربة، وقد نال أجر المصلحين؛ (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)[الأعراف: 170].

 

البند الثاني: مطالعة سير السلف وتراجمهم:

هو رجل متخصص في التاريخ، بلغ به السن ولم يتزوج، سئل ذات مرة فقيل له: مع من تعيش؟ فأجاب: أعيش مع عمر بن عبد العزيز في ولايته العادلة، وأعيش مع هارون الرشيد في مملكته مترامية الأطراف، وأعيش مع صلاح الدين الأيوبي في فتحه لبيت المقدس، وأعيش مع قطز في كفاحه ضد التتار... وأخذ يعدد كثيرًا من الشخصيات التاريخية القديمة والحديثة... فاتهمه بعض الناس ساعتها بالتهرب من إجابة السؤال، وفهم آخرون مقصده لكنهم اتهموه بالمبالغة...

 

لكنني لا أرى في كلامه أي نوع من أنواع الهروب أو المبالغة -وإن قصد معنى مجازيًا-، بل أجده صادقًا تمام الصدق، جادًا تمام الجد؛ ومن جرب عرف، فإن المرء إذا استغرق في سير الأولين وأحداث حياتهم صار منتميًا لهم قلبًا وقالبًا، فتراه معك بجسده ولكنه معهم بروحه وكيانه وشعوره ووجدانه وانتمائه، فلو قُدِر للإنسان -فرضًا- أن يخترع آلة للانتقال بين الأزمنة -كما يتخيل علماء الفيزياء- لما كان عملها بأبلغ ولا بأروع مما نَصِفُ من حال ذلك الرجل.

 

فكذلك -إخواني الخطباء- حال المؤمن الملتزم بدينه إذا ما عاش بين تراجم الأولين من الصحابة والتابعين والصالحين والفاتحين والحفاظ والعلماء...، إنه لن يشعر بغربة في حياته أبدًا؛ إذ سيعيش مع قدواته بقلبه وقالبه، ولن يكون لمن حوله من أهل الزمان إلا صورته فقط...

 

ولو اتهمتني بالمبالغة فيما أقول، فتذكر حال نفسك حين يشغل بالك أمر مهم، فيكلمك أولادك فكأنك لا تسمع، وتخاطبك زوجتك فكأنك لا تعي، فأنت بينهم بجسدك لكنك شارد الذهن مشغول البال هائم الوجدان... فإن لم يحدث لك ذلك يومًا، فخذها من أخيك كلمة: إنه يحدث لغيرك حتى إنه لا ينتبه لما حوله إلا حين نمد أيدينا فنهزه هزًا، فينتفض كأنما كان نائمًا فأفزعناه ونحن نوقظه!

 

فإذا شَعَر أحدهم بالغربة لأذى أصابه من الناس فانتقل معه إلى مكة حيث قال الصحابة يومًا: "والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟" فيقول ابن مسعود: "أنا"، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلًا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، فيقول: "دعوني فإن الله -عز وجل- سيمنعني"، فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها فقام عند المقام، ثم قال: "بسم الله الرحمن الرحيم، رافعًا صوته: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ)[الرحمن: 1-2]... فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك قال: "ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها"، قالوا: حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون([10]).

 

وإن شعر أحدهم بالغربة لأن الناس ينفرون منه ويعتزلونه، فخذه -أخي الخطيب- واذهب به إلى شعب أبي طالب ليرى كيف حاصروا المسلمين هناك ونبذوهم وقاطعوهم ومنعوا الناس منهم ثلاث سنوات كاملة...

 

فأحيهم -إذا شعروا بالغربة- في أزمنة أخرى يرون فيها لهم قدوة وأسوة ومثلًا يحتذى، ليجدوا عزاءً عما يصيبهم وشبيهًا لهم صُنع به مثلما يُصنَع بهم.

 

البند الثالث: تمنية النفس بالجنة:

ترى العامل الذي يُصلح السيارات وقد افترش تحت السيارة على الأرض المتسخة، وهو يخرج من تحتها وقد غطت الزيوت والشحوم والأتربة ثيابه، فتتعجب كيف يرضى بذلك وكيف يحتمله؟!... وترى التلميذ يعتكف على كتابه طوال النهار وشيئًا من الليل ورفقاءه يلهون ويلعبون ويتمتعون بأوقاتهم، فتتعجب كيف يكبح نفسه أن تلهو مثل لهوهم؟!... وتراقب الشاب يغترب عن بلده السنون الطوال مفارقًا أهله ووطنه وبيته، فتتعجب؛ أي شيء يصبِّره على هذا؟!...

 

ولو تأمل المتعجب قليلًا لتبين له أن كل واحد من هؤلاء يمني نفسه بشيء يحبه، فيصبِّره ذلك على ما يكره لينال ما يحب؛ فعامل السيارات يمنى نفسه الأجرة الكثيرة، والتلميذ يمني نفسه النجاح والتفوق، والشاب المغترب يمنى نفسه الرجوع غنيًا فيؤسس منزلًا ويتزوج... فكذلك المؤمن لو ملكت عليه الجنة لبه، فصارت هدفه الأوحد وغايته الأسمى، لصبَّره تمنيها على المكاره كلها، ومنها الوحشة والغربة التي يحس في دنياه، بل لتسامى عليها فكأنه لا يحس بها.

 

وأيضًا، فإنه إن تخيل نعيمها هان عليه ورخص في عينيه ما يلاقيه في دنياه، وأيقن أنه مع أول قدم في الجنة تزول عنه غربته ووحشته وشقاؤه وبؤسه... فعن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "...ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط"([11]).

 

فيا أخي الخطيب: صِفْ للغرباء الجنة، وشوِّقهم إليها، وأحيهم بين أنهارها وأغصانها وحورها وقصورها... وكلما أصابتهم لأواء أو شدة فصبِّرهم بها؛ تجد همهم قد زال، وغربتهم قد تلاشت، ومُرَهُم قد صار حُلْوًا، وحالك ليلهم قد صار أبلجًا.

 

***

 

وها قد انتهت صفحاتنا ولم تنتهِ بنودنا، فإلى لقاء مع الجزء الثاني وبنود أخرى.

 

 

 

([1]) وهذا ما أمر الله -تعالى- به نبيه يحيي: (يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)[مريم: 12]، وأمر به نبيه موسى: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ)[الأعراف: 145]، كما أمر به قومه: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)[البقرة: 93]... قال زيد بن أسلم موضحًا كيف يكون أخذ الكتاب بقوة: "العلم به، والحفظ له والعمل به، وهو الالتزام لأوامره، والكف عن نواهيه"(تفسير القرطبي)، وعند ابن كثير: بقوة أي بـ"حزم وهمة وامتثال"(تفسير ابن كثير).

([2]) المراد بـ"غمة النوى": حزن الفراق وألمه.

([3]) ينظر: الوافي بالوفيات للصفدي (7/208)، المحقق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، ط: دار إحياء التراث - بيروت، 1420هـ.

([4]) البخاري واللفظ له (3060)، مسلم (149).

([5]) مسلم (148).

([6]) البخاري (7068).

([7]) البخاري (7068).

([8]) مسلم (2408).

([9]) مسلم (1218).

([10]) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (2/837)، وسيرة ابن إسحاق (ص: 186) ط: دار الفكر - بيروت 1398هـ.

([11]) مسلم (2807).

المشاهدات 535 | التعليقات 0