الحيـــاة الطيِّـــــبة
إبراهيم بن صالح العجلان
1432/12/27 - 2011/11/23 20:42PM
الحياة الطيبة
أما بعد ..... فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ،
هل تبحث عن انشراح الصدر ، وطمأنينة النفس ، وراحة البال ؟أما بعد ..... فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ،
هل تتألم كثيراً من تراكم الهموم ، وتتأفف ملياً من تتابع الغموم ؟
هل تريد أن يهنأ لك العيش ، وتبسم لك الحياة ؟
لست وحدك ذلك الرجل ، فكل من على هذه البسيطة يبحث عما تبحث عنه ، ويتمنى العيش في هذه الجنة المنشودة .
فأين نجد هذه الحياة الطيبة المستقرَّة ؟ كيف نتذوقها في أنفسنا ؟ كيف نعيشها في مجتمعاتنا ، ونؤمنها لأجيالنا وأبناءنا ؟
أبشر أُخيَّ فكتاب ربِّك، وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم فيهما الهدى والشفاء ، فمن أتبع النور الذي فيهما، وتمسك وعضَّ عليهما، أخذ بحظ وافر من العيش الهنيئ، والحياة الطيبة (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون )
لقد فقه رجالات من أئمة الإسلام هذه الكنوز في الوحيين ، فطابت حياتهم ، وذاقوا حلاوتها ، وأحسوا بنشوتها ، حتى نطقت ألسنتهم بما غار في مكنوناتهم فها هو أحدهم يقول : إننا لنحس بسعادة لو يعلم بها الملوك ، وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيف .
وآخر يعبر عن طيب عيشه فيقول: إنه لتمر عليَّ ساعات أقول فيها : لو
أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن لكانوا إذاً في عيش طيب .
يا من تطلب انشراح الصدر ، وسعادة القلب .... اعلم رعاك الله أن مفتاح السعادة وأُسَّها وأساسها هو في الإيمان بالله تعالى رباً ، وخالقاً ، ومدبَّراً .
إذا عرف العبد ربَّه بأسمائه وصفاته ، وأنه المالك المدبِّر بيده نواصي العباد ، حينئذٍ تطمئن نفسه ، ويثبت جأشه ، ويقوى قلبه ، لأنه يعلم أنَّه يأوي إلى ركن شديد ، ويحتمي بملِك عظيم ، قد توكل عليه ، وفوَّض أمره إليه .
ومن مقتضيات هذا الإيمان .... أن يعرف العبد أنَّ ربه تعالى قد خلقه لغاية ، وأنه سبحانه شرع شرائع وحدَّ حدوداً ، فمن أطاع ربه أفلح ونجح ، ومن أعرض خاب وخسر، فحينئذ يعلم العبد أنَّه يعيش لهدف ، ويسير إلى هدف .
فلا أمر يُحزنه، ولا شيئ يقلقه، لأنه يسير في الدَّرب الذي رسمه له مولاه وخالقه .
إنه إيمان غيبي لربٍّ ملِك عظيم ، إيمانٌ يورث المحبة والرجاء والخوف ،
فتنطق حينها الجوارح بهذا لإيمان ، فتنطلق في بحار الأعمال الصالحة ، ( من عمل صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )
وحين يتعلق قلب العبد بخالقه تعظيماً ورجاء وخوفاً ، وتعمل من الصالحات جوارحه اتِّباعاً وإخلاصاً ، فقد أصاب العبد حينها نور التقى ، وإذا استقر في القلب التُّقى ، فلْيبْشُرِ العبد بعدها بالراحة والهناء ، يقول الله تعالى واعداً ومؤكداً (ألا إنَّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون)
ووالله إنك لترى المؤمن التقي من أطيب الناس عيشاً ، وأشرحهم صدراً ، وأسرهم قلباً ، وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة .
أخي المبارك .... إن ضاقت بك الهموم ، وأحاطتك الغموم ، فافزع إلى الصلاة ، يشرح الله صدرك ، ويُذهب عنك ضيق نفسك ، ويرسل في قلبك نبضات الطمأنينة والأمن ، عرف ذلك أعلم الناس بربه صلى الله عليه وسلم فقال : ( وجعلت قُرَّة عيني في الصلاة ) وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وفي محكم التنزيل : ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ).
إخوة الإيمان : ما أعظم الذكر ، وما أسهله على اللسان ، وما أثقله في الميزان ، وما أنجعه لشفاء كل جنان .
فيا كل متكدِّر مضطرب متنغص ، الأمان أمامك ، والراحة بين يديك ، فاغرُف منها كيفما شئت ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب )
يا أهل الإيمان : ومن أسباب نوال الراحة والطمأنينة والاستقرار ، لزوم التوبة والاستغفار .
فبالاستغفار تُدفع الكوارث والقلائل ( وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون )
وبالاستغفار تستمطر الخيرات والنعم المباركات ( استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً )
وبالاستغفار تُدرك ألوان الزينة ، وأنواع النعيم التي تهنأ معها النفوس ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً ) بالاستغفار تتقشع الأحزان ، وتزول الأشجان .
وأيم الله إنك لتجد عند المدمن على الاستغفار من طيب العيش ، وتسهيل الأمور ما لا تجده عند غيره ، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً : ( استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمَّى ويؤتِ كل ذي فضل فضله )
عباد الله :
سِرُّ الحياة الطيبة : القناعة بالرزق ، والرضا بما قسم الله ، وإذا رُزق العبد القناعة أشرقت عليه شمس السعادة ، وما قلَّ وكفى خير مما كثُر وألهى .
خذ القناعة من دنياك وارض بها ***** لو لم يكن لك إلا راحة البدنِ
وانظر لمن حوى الدنيا بأجمعـها ***** هل راح منها بغير الطيب والكفنِ
إنَّ عدم القناعة بالأرزاق يورث الهموم والأحزان ، والخوف من المستقبل الغائب ، فيؤمل العبد ويؤمل حتى يغدوَ في القبر مع آماله ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( قد أفلح من أسلم ، ورُزق كَفافاً ، وقنَّعه الله بما آتاه ) رواه مسلم .
إخوة الإيمان: ومن أعظم أبواب السعادة وأوسعها: اصطناع المعروف ، وإغاثة الملهوف
وربَّ صدقة لمسكين ، أو مسحة لرأس يتيم ، أو مشية في حاجة غريم تكون سبباً لدعوات لك في ظهر الغيب ، تسعد معها دنيا وآخرة .
نحن نرى أنه كلما كان الإنسان أعظم بناء لمستقبله ارتاحت نفسه ، وطاب عيشه ، فكيف بمن يستعين على بناء الآخرة بصنائع المعروف ، والإحسان إلى عباد الله ، وفي الحديث :( كل امرء في ظل صدقته يوم القيامة ) رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان
يا كلَّ طالب للحياة الهنية ، كظم الغيظ ، والعفو عن المسيئ سبب لنوالها والتلذذ بطعمها ، فأطفئ أُخيَّ نار الغضب في قلبك بماء الصفح والمسافحة ، واجعلها تاجاً على رأسك ، أما إن طفقت تغضب لكل كبير وصغير ، وتحاسب على كل عظيم وحقير فأنت تزرع كوابيس القلق بيديك،وتتعايش بين أشباح النَّكد والهم باختيارك وإرادتك.
تيقن رعاك المولى وحباك ... أن مسامحة الخلق رفعة لك بين الخلق ، وصيانة لك من العداوة التي توغر الصدور ، وتجعلها أفراناً مضطرمة بجمر الكراهية والحقد ، وفي الحديث : ( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ) رواه مسلم
فيا كل مسامح أبشر بالعز والرفعة ، وأبشر بالرضا والمغفرة ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) ، وأبشر أيضاً بجنة عالية قطوفها دانية ، أعدها الله لعبادٍ قال عنهم ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (ادفع بالتي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يُلقَّاها إلا الذين صبروا وما يُلقَّاها إلا ذو حظ عظيم )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد فيا أيها الناس : وكما أنَّ لانشراح الصدر ، وطيب العيش أسباب ، فكذلك تكدُّر الحياة وتنغُّصها لها أسباب عدَّة ذكرها المولى سبحانه ، من أعظمها وأكبرها :
ـ أن يختار الإنسان طريق الشقاء ، وسبيل الضلال ، فيقع في الشرك ، أو الكفر ، أو في شيء منهما ، قال الله تعالى مبيِّناً حال أهل الضلال :( ومن يرد الله أن يضلَّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعَّد من السماء ) ، والجزاء من جنس العمل ، وما ربك بظلاًّم للعبيد ، فحين ضاقت نفوسهم عن الحق والهدى ، جازاهم ربهم بضيق في صدورهم ، ووحشة في قلوبهم ، جزاء وفاقاً ( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ).
ـ ومن أسباب ضِيق النَّفْس ، وكربة القلب : عصيان الخالق جلَّ جلاله ، فالمعاصي تورث في القلب ظلمه ، وفي الصدر كآبة ، لا يشعر معها العاصي بسعادة ، ولا يهنأ بعيش ، وإن حصل له معها سرور فهو فرح عابر ، سرعان ما يزول ، وتبقى الحسرة والكَمَد .
قال ابن القيم رحمه الله : ( وسِرُّ ذلك أنَّ الطاعة توجب القرب من الله ، فكلما قوي القرب قوي الأُنس ، والمعصية توجب البعد من الربِّ ، وكلما ازداد البعد قويت الوحشة ، ولهذا يجد العبد وحشة بينه وبين عدوِّه للبعد الذي بينهما ).
ويكفي المعصية شُؤماً أنَّ الله سمَّاها ضلالاً مبيناً ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً ) .
ـ ومن أسباب تكدُّر العيش : الإعراض عن طاعة الرحمن ، والغفلة عن ذكر الملك الديَّان ، وكما أنَّ حياة القلب وأُنْسَه وطمأنينتَه بذكر الله ، فإنَّ موته وقبره في الإعراض عن ربِّه ومولاه ، قال تعالى : ( ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ) ، وهذه المعيشة الضَّنْك ذكر بعض أهل التفسير أنَّها في عذاب القبر ، وذهب آخرون أنها في الحياة الدنيا ، قال ابن القيم : ( والصحيح أنَّها تتناول معيشة في الدنيا ، وحالة في البرزخ )
فاتقوا الله أيها المؤمنون ، واحرصوا على أسباب السعادة وتشبثوا بها يطيب عيشكم ، وتهنأ حياتكم ، نسأل الله بمنه وكرمه أن يُصلح عيشنا وحالنا في الدنيا ، وأن يجعل لذتها موصولة بلذة الآخرة ، وأن يُباعد عنَّا أسباب الضِّيق والعناء ، وأن لا يجعلنا من أهل دار الشقاء .