الحياة الكريمة

د. محمود بن أحمد الدوسري
1439/03/16 - 2017/12/04 03:31AM
                                                             الحياة الكريمة
                                                د. محمود بن أحمد الدوسري
9/8/1438
     الحمد لله ... النَّاس سواء في الكرامة الإنسانيَّة, قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]. ولعلَّ أسمى صور التَّكريم التي حَظِيَ بها الإنسان - من بين سائر المخلوقات الأرضيَّة – أنَّ الله تعالى «خَلَق آدمَ بيده، وخلق غيرَه بطريق كُنْ فيكون، ومَنْ كان مخلوقاً بيد الله سبحانه؛ كانت العنايةُ به أتمَّ وأكمل، وكان أكْرَمَ وأكمل»(1). ومن تكريم الله تعالى للإنسان: أن جَعَلَه خليفةً في الأرض، وأسجدَ له الملائكة الكرام عليهم السلام، وسخَّر له ما في الكون جميعاً.
       فالله تعالى جَمَعَ للإنسان خَمْسَ مِنَنٍ: كرَّمه, وسخَّر له المراكب في البرِّ، وسخَّر له المراكب في البحر، ورزقه من الطَّيِّبات، وفَضَّله على كثيرٍ من المخلوقات. وقد مَثَّل ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - للتَّكريم: بأنَّ الإنسان يأكل بأصابعه، أي أنَّه لا يَنْتَهِشُ الطَّعام بفمه، بل يرفعه إلى فيه بيده، ولا يكرع في الماء، بل يرفعه إلى فيه بيده، فإنَّ رَفْع الطَّعام والشَّراب من زيادة التَّكريم.
      وأمَّا التَّفضيل على كثير من المخلوقات، فالمراد به تمكين الإنسان من التَّسلُّط على جميع المخلوقات الأرضيَّة برأيه وحِيلتِه، وكفى بذلك تفضيلاً على سائر المخلوقات(2).
       أيها المسلمون .. ليس فيما ورد في القرآن من تكريمٍ للإنسان وتفضيلٍ له على سائر المخلوقات ما يُشير إلى أنَّ المراد بذلك جنس الرِّجال فقط، وإنَّما يراد به الرِّجال والنِّساء على السَّواء، فالمرأة أيضاً داخلةٌ في السِّياق القرآني. فهل بعد هذا التَّكريم لها من تكريم ؟!
        ولا يجوز لهذا الإنسان الذي كرَّمه الله تعالى وفضَّله على سائر المخلوقات أن يسعى في تغيير خَلْق الله تعالى؛ كما يحدث اليوم من عمليَّات استنساخٍ أو تغييرٍ في الذُّكورة أو الأنوثة، وقد نهى المولى عزَّ وجل عن ذلك حفاظاً على كرامة الإنسان واعتبر ذلك اعتداءً على إنسانيَّة الإنسان، وهو عَمَلٌ من استهواء الشَّيطان، الذي قال: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 118-119].
        والمرأة في الإسلام لها حقُّ الرِّعاية والتَّكريم(3)، يقول المستشرق الفرنسي "غوستاف لوبون" مُبيِّناً حرص الإسلام على تكريم المرأة: «كان الإسلام ذا تأثيرٍ عظيم في حال المرأة، قد رَفَع حالها الاجتماعي رفعاً عظيماً، فالقرآن منح المرأة حقوقاً إرثيَّةً بأحسن ممَّا في قوانيننا الأوروبيَّة. إنَّ المرأة في الإسلام تُحترم بنبلٍ وكرمٍ على العموم, ويشمل البعلُ زوجتَه بعين الرِّعاية، ويبلغ الاعتناء بالأمِّ درجة العبادة»(4).
        إخوتي الكرام .. لقد أُهدرت كرامة المرأة خارج دائرة الإسلام؛ ففي الوقت الذي يُقرِّر فيه الإسلام: أنَّ المرأة والرَّجل متساويان في الكرامة الإنسانيَّة، ولا فرق بينهما في ذلك، يحدِّثنا التَّاريخ: عن اليونان في أوَّل دولتهم، كيف كانوا يمتهنون المرأة، ويعدُّونها من سَقَط المتاع، حتى لَتُباع البنت والزَّوجة وتُشترى في الأسواق، وكيف كانوا يسلبونها الكرامة والحرِّيَّة، ويمنعونها من حقوقها المدنيَّة والماليَّة، ويحدِّثنا التَّاريخ: عن الرُّومان في مقتبل دولتهم وإدبارها بمثل ما حدَّثنا عن اليونان، ويحدِّثنا التَّاريخ: عن الهند أيضاً، كيف كانوا يمتهنون المرأة، ولا سيَّما بعد موت زوجها، فإنَّهم يُلقونها معه في بئر؛ حيث لم يبق لهذه الزَّوجة سبب للعيش بعد زوجها - في زعمهم - وإلى عهد قريب كان الهنود الهندوس يحرقون الزَّوجة مع زوجها بعد موته, وما رُفِعَ الحَيف عن المرأة الهنديَّة إلاَّ بحكم الإسلام فيهم، والذي كان يحكم عموم الهند.
      معشر الأحبة .. وليس بخافٍ على الجميع ما فَعَل العرب بالمرأة قبل الإسلام، فهي مملوكة كالمتاع، لا كرامة، ولا رعاية، ولا حقوق، ولا احترام! وفي التَّاريخ المعاصر أُغريت المرأة بالخروج من البيت، وأُجبرت على العمل مع الرَّجل، ومثل الرَّجل أحياناً، ثم لا تُساوى مع الرَّجل في شروط العمل وتعويضه، ولا في الحقوق العامَّة، وفي أوروبا خاصَّة والمجتمع الغربي عامَّة، نجد أنَّ كرامة المرأة - في الغالب - مُهدرة، ومن أعظم أسباب ذلك: هو فساد العقيدة، وفساد الأخلاق، والمساواة غير العادلة بين الجنسين(5).
                                                             الخطبة الثانية
       الحمد لله ... أيها الأحبة .. إنَّ الحياة هبة من الله سبحانه وتعالى، يمنحها لمَنْ شاء، ويستردُّها ممَّنْ شاء، وليس لأحد - كائناً مَنْ كان - أن يسلب الحياة عن أيِّ إنسانٍ دون سببٍ معتبر شرعاً، ومَنْ أقدم على ذلك، فهو معرِّض نفسَه لعقاب الله تعالى في الدُّنيا والآخرة.
        ولا فرق بين الرَّجل والمرأة في حقِّ الحياة؛ لأن الله تعالى ضَمِنَ لها ما  ضَمِنَه للرَّجل من حُرمةِ نفسِها وحمايتها والحفاظ عليها, ومن الآيات التي حرَّمت الاعتداء على حقِّ الحياة، قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33]، ولفظ: {النَّفْس} هنا؛ يشمل الذَّكر والأنثى(6).
        وقد جعل الله تعالى الجزاءَ من جنس العمل في مسألة القتل العمد، فجعل القصاصَ عقاباً رادعاً لمَنْ أقدم على هذه الجريمة الشَّنعاء، فقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، والآية لم تُفرِّق بين المرأة والرَّجل في القصاص ممَّا يدلُّ على المساواة العادلة بينهما في حقِّ الحياة.
       ولقد اعتبر القرآنُ العظيم قَتْلَ النَّفس البشريَّة على اختلاف جنسها جريمةً كبرى تُعادل قتل النَّاس جميعاً، وإحياءَها إحياءً للنَّاس جميعاً(7)، وذلك في قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. و«المقصود من هذا التشبيه: المبالغة في تعظيم أَمْرِ القَتْل العمد, فكما أنَّ قَتْلَ كُلِّ الخَلْقِ أَمْرٌ مُستعظم، فكذلك يجب أن يكون قتلُ الإنسان الواحد مستعظماً مهيباً، وكيف لا يكون مُستعظماً، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]»(8).
      وقد كان بعضُ النَّاس في الجاهلية يُفَرِّقون بين الرَّجل والمرأة، فيظهر على وجه أحدهم الامتعاض لولادة الأنثى، بل يتشاءمون لولادتها؛ لأجل ذلك حرَّم الإسلامُ وَأْد البنات الذي كان منتشراً في الجاهليَّة، فقال سبحانه - واصفاً هذا الفعل الشَّنيع: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58-59].
      «قال المفسِّرون: كان الرَّجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطَّلْق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإنْ كان ذكراً ابتهجَ به، وإنْ كان أنثى حزن حُزناً شديداً ولم يَظْهَر للنَّاس أياماً»(9). وقد يهجر الرَّجل امرأته إذا ولدت أنثى «وهذا من جاهليَّتهم الجهلاء وظلمهم، إذْ يُعاملون المرأة معاملة مَنْ لو كانت ولادة الذُّكور باختيارها، ولماذا لا يحنق على نفسِه إذ يلقح امرأته بأنثى؟»(10). وبسبب كراهيتهم ولادة البنات يقتلونها وهي حيَّة، ويوم القيامة تُسأل هذه الموءودة تبكيتاً وتقريعاً لقاتليها: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8-9].
      وقد وَصَفَ الله تعالى مَنْ قَتَل أولادَه بالخسران المحقَّق في الدُّنيا والآخرة، وسمَّى فِعْلَهم سفهاً - وهو خفَّة العقل واضطرابه - ومع ذلك فهم ضالُّون غيرُ مهتدين؛ فقال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]. «وَصَفَ فِعْلَهم بالخُسران؛ لأنَّ حقيقة الخسران نقصانُ مالِ التَّاجر، والتَّاجر قاصِدُ الرِّبح وهو الزِّيادة، فإذا خسر فقد باء بعكس ما عَمِل لأجلِه... فإنَّ النَّسل نعمةٌ من الله على الوالدين يأنسون به، ويجدونه لكفاية مهمَّاتهم، ونعمةٌ على القبيلة تكثر وتعتزُّ، وعلى العالَم كلِّه بكثرة مَنْ يعمره، وبما ينتفع به النَّاس من مواهب النَّسل وصنائعه، ونعمةٌ على النَّسل نَفْسِه بما يناله من نعيم الحياة وملذَّاتها.
       ولمَّا قَتَل بعضُ العرب بناتِهم بالوَأْد كانوا قد عطَّلوا مصالحَ عظيمةً؛ ولأجل ذلك سمَّى الله فعلَهم: سَفَهاً؛ لأن السَّفَه هو خِفَّة العقل واضطرابه، وفِعْلُهم ذلك سَفَهٌ مَحْض، وأيُّ سَفَهٍ أعظم من إضاعة مصالحَ جمَّة، وارتكاب أضرارٍ عظيمة، وجنايةٍ شنيعة»(11).
      كما شدَّد القرآن العظيم النَّهي عن قتل الأولاد - ذكوراً وإناثاً - خشيةَ الفقر، فقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31]. فقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ} الولد هنا: وصف مشترك بين الذُّكور وبين الإناث(12). والفقر لا يُمكن أن يكون ذريعة وسبباً لقتل الأنفس؛ لأنَّ الله تعالى «لمَّا خَلَق الأولادَ قدَّر رزقهم، فمِنَ الحماقة أنْ يَظُنَّ الأبُ أنَّ عَجْزَه عن رزقهم يُخَوِّله قتلَهم، وكان الأجدر به أن يَكْتَسِبَ لهم»(13).
     وهكذا ساوى القرآن العظيم بين الذَّكر والأنثى في حقِّ الحياة مساواةً عادلة، وحرَّم التَّعدِّي على هذا الحقِّ، وجَعَلَه من أكبر الذُّنوب التي تُضادُّ تكريمَ الله تعالى للإنسان، على حين كان قانون "حمورابي" يُقرِّر: أنَّ مَنْ قَتَل بنتاً لرجلٍ كان عليه أن يُسلم ابنته إليه؛ ليقتلَها أو يمتلكَها، فجاء الإسلام ليقرِّر المساواة العادلة في الكرامة الإنسانيَّة بين المرأة والرَّجل، فحرَّم وَأْدَ البنات خوفَ العار، كما حرَّم قتل الصَّبي خشيةَ الفقر، وقرَّر الفقهاء: أنَّ الرَّجل يُقتل بقتل المرأة عمداً دون شُبهةٍ، كما يُقتل بقتل الرَّجل على مثلِ ذلك(14).
       الدعاء ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التفسير الكبير, للرازي (21/13).
(2) انظر: التحرير والتنوير, لابن عاشور (14/130-131).
(3) انظر: المساواة العادلة بين الجنسين في الإسلام, د. مكارم محمود الديري (ص 160).  ضمن بحوث مؤتمر: «تحرير المرأة في الإسلام» المنعقد في القاهرة، (22، 23) فبراير، 2003م.
(4) حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر (ص 474-87) بتصرف.
(5) انظر: المرأة بين الفقه والقانون, د. مصطفى السباعي (ص 13-14).
(6) انظر: المصدر نفسه, (ص 13-14).
(7) انظر: التحرير والتنوير, (5/89).
(8) التفسير الكبير, (11/168) باختصار يسير. 
(9) المصدر نفسه, (20/45).
(10) التحرير والتنوير, (13/148).
(11) المصدر نفسه, (7/85).
(12) انظر: التفسير الكبير, (20/157).
(13) التحرير والتنوير, (7/118).
(14) انظر: المرأة بين الفقه والقانون, (ص 17)؛ موقف القرآن الكريم من الدعوات المعاصرة لتحرير المرأة, رندة فؤاد حصاونة (ص 39).
 
المرفقات

الكريمة

الكريمة

المشاهدات 1418 | التعليقات 0