الحياء وصوره

د. منصور الصقعوب
1445/07/13 - 2024/01/25 11:12AM

 

الخطبة الأولى                    

عباد الله: خلقٌ من أخلاقِ الإسلام، هو قرينُ الإيمان، وأمارةٌ صادقة على طبيعة الإنسان، يكشفُ عن قيمةِ إيمانهِ ومقدار أدبهِ, هو خيرٌ كله، وكلهُ خير، ولا يأتي إلا بخير .

هو صفةٌ من صفات الله كما يليق بجلاله, وخلقٌ من أخلاق الملائكة، وسمةٌ من سمات الأنبياءِ وأتباع الأنبياء

خلقٌ من أسمى الصفات الإنسانية، وأنبلِ الأخلاق الفاضلة، خلقٌ مرّغه الإعلام بالتراب, وداسه البعض في الحدائق والأسواق, وفي ذات الوقت فهو خلقٌ تمثله كثير من شبابنا وفتياتنا, ونساءنا ورجالنا, إنَّهُ خلقُ الحياء، الخُلق الذي اتصفَ به الأنبياء، فإنَّ مما أدركَ الناس من كلامِ النبوةِ الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت، إنه خلق قدوتنا محمد r والذي كان أشد حياءً من العذراءِ في خدرها، إنَّهُ الخلقُ الذي يبعثُ على فعلِ الحسن وترك القبيح، ويمنعُ من التقصيرِ في حقِ ذي الحق .

إنَّهُ الحياءُ ما كان في شيءٍ إلا زانه، وما نُزع من شيءٍ إلا شانه، ولولا هذا الخلق لم يُقرى الضيف، ولم يوف بالوعد، ولم تؤد الأمانة، ولم تقض لأحد حاجة، ولا تحرى الرجلُ الجميلَ فآثره، والقبيحَ فتجنبه، ولا سترَ له عورةً، ولا امتنع عن فاحشة، ولربما لولا الحياء لم يؤد المرء شيئاً من الأمور المفترضة عليه، ولم يرع لمخلوق حقاً ولم يصل له رحماً، فإن الباعث على هذه الأفعال إما حياء من الله أو حياء من خلقه

ورب قبيحة ما حال بيني       وبين ركوبها إلا الحياءُ

فكان هو الدواء لها ولكن     إذا ذهب الحياء فلا دواء

وحين يذكر الحياء فالله من صفاته الحياء, وفي الحديث " إن الله حيى كريم يستحي أن يرفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين " قال ابن القيم: وأما حياء الرب ّ تعالى من عبده، فذاك نوع آخر لا تدركه الأفهام، ولا تكفيه العقول فإنه حياءُ كرم وبرّ وجود وجلال .

فإنه تبارك وتعالى حييٌ كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراَ، ويستحي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام, فالله ﻷ مع كمال غناه عن الخلق كلهم ، من كرمه يستحي من هتك العاصي وفضيحته وإحلال العقوبة به, فيستره بما يقيض له من أسباب الستر, ويعفو عنه، ويغفر له، ويتحبب إليه بالنعم ويستحي لمن يمد يديه إليه سائلا متذللاً أن يردهما خاليتين خائبتين.

وأما حياء الخلق فأشرفه حياء المصطفى ;, وقد كان ق أشدّ حياءً من العذراء في خدرها, فإذا رأى شيئاً يكرهه عُرفِ في وجهه, جاءت إليه امرأة فسألته كيف تغتسل من حيضتها؟ فأعلمها كيف تغتسل وأنها تأخذ فِرصة من مسك فتطهر بها، قالت : كيف أتطهر بها ؟ قال: تطهري بها-سبحان الله - !! واستتر بيده على وجهه، قالت عائشة: واجتذبتها إلي، وعرفت ما أراد النبي ق فقلت: تتبعي بها أثر الدم, فصلى الله عليه كم كان يفيض حياء, استحيى حتى من ربه, فحين تردد بين موسى وبين ربه في ليلة الإسراء قال لموسى: قد سألت ربي حتى استحييت منه.

عباد الله: وأعظم ما يجب على العبد تحقيقه في الحياء أن يستحي من ربه, الذي أسبغ عليه النعم وتابع عليه الخيرات, وهداه للدين وكفاه الشرور, (وما بكم من نعمة فمن الله) وهو مع كل هذا يراه ويسمعه, فحقُّه عليك أن تستحي منه سبحانه, وقد قال المصطفى r "استحيوا من الله حق الحياء"

قال الجنيد: "الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء".

والموفّق يستحي من ربه أن يراه وهو يقارف معصية, أو يفرط في طاعة, ويستعظم الجناية لذلك, ولما احتضر الأسود بن يزيد بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: وما لي لا أجزع؟ والله لو أوتيت المغفرة من الله لأهمني الحياء منه مما صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحيياً منه.

يا كرام: والحياء من الملائكة صفة الموفقين, فيستحي العبد أن يقارف المعاصي والملائكة معه شاهدة, تُحصِي أنفاسه, وترصُد أعماله, وإذا كان المرء يستحي من الناس أن يروه على المعاصي, فالملائكة شأنهم أشد, قال بعض الصحابة: "إن معكم مَنْ لا يُفارقكم، فاستحيوا منهم"

والحياء من الناس من جميل الشيم والأخلاق, وقد قال حذيفة بن اليمان: (لَا خَيْرَ فِيْمَنْ لَا يَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ)

ومن سِمات الحيي أنه يحفظ لسانه عن بذيء القول, يتمثل قول نبيه عليه السلام «مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ، وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ»

بل وقد يستحي مما هو أيسر من هذا, حياءً, وقد استحيا علي ط أن يسأل النبي r عن المذي, لأنه والد زوجته, وذاك أمرٌ متعلق بالشهوة, فما بال البعض يسوق بملء فيه الأحاديث والأخبار التي تنافي الحياء في مجالس العامة بصفاقة وقلة حياء.

ويتجلى الحياء يا كرام حين يحفظ المرء عورته ويسترها عن الناس, وفي مقول النبي r"إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ"

 

 


 

الخطبة الثانية: الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد: وإذا كان الحياء في الرجال جميلاً, فهو في حق المرأة من آكد ما يُطلَب، إذ هو زينتها, وإذا اختلّ حياءُ المرأة عصفت بها الفتن، وأصبحت سلعةً رخيصةً، (وليس لمن سُلِبَ الحياءَ صادٌّ عن قبيح، ولا زاجرٌ عن محظور؛ فهو يُقدِم على ما يشاء ، ويأتي ما يهوى) وقديماً قال الشاعر :

فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ

يعيش المرء ما استحيا بخير ..ويبقى العود ما بقي اللحاءُ.

وكم تكبر في عيون الناس, بل قبل ذلك تعظم عند الله تلكم المرأة الحيية التي تجملت بحجابها الكامل, لم تخالط الرجال, ولم تتساهل بالستر عندهم, ولم تخلو مع رجل ولا في سيارة ولا عيادة, إن قابلت الرجال غضت طرفها, وسترت وجهها, ولم يظهر منها تعطر, ولم تنطق بالحديث معهم إلا فيما له حاجة, دستورها قول ربها (ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض)

وإذا وجدت من هذا النوع من نساءٍ قلّ حياؤهن, فإن من تمثلن الحياء من نسائنا بحمد الله اليوم كثير, وهن الأصل.

عباد الله: ويُهدَم الحياء بكثرة مخالطة أو رؤية من قل حياءهم أو حياؤهن, وكم ستسمع عن نساء ورجال قلّ حياؤهم في برامج التواصل, أو المنتديات العامة, وأتوا بما يناقض الحياء قولاً أو فعلاً أو لباساً أو تصرفاً, والتسمح برؤيتهم تعصف بشجرة الحياء, ومع كثرة الإمساس يقل الإحساس.

وسماع الغناء يا كرام مكدرٌ للحياء, وفي ذلك يقول يزيد بن الوليد: (يا بني أمية إياكم والغناء، فإنه يذهب الحياء، ويثير الشهوة، ويهدم المرؤة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل المسكر).

عباد الله: وإذا كان الأصل في الحياء أنه لا يأتي إلا بخير, فإن ثمة ما قد يظن أنه حياءٌ لكنه ليس كذلك إذ هو مما يُذَمُّ

فالامتناع عن السؤال والتعلم في أمور الدين حياءً هو مما يذم, وبه يفوت العلم, ولا يرتفع الجهل, وقد قال مجاهد: لا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر.

وقالت عائشة عن نساء الأنصار: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ؛ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ"

وبعد: فالحياء من صفات الباري سبحانه, وأحب الخلق إليه من اتصف بما يحب من الصفات, فهنيئاً لمن تمثل ذلك.

فاستحيا من ربه حياءً وفقه لصالح القول والعمل.

واستحيا من خلقه حياءً أكسبه كريم الأخلاق وحسن التعامل.

واستحيا من نفسه حياءً جعله يحاسبها على كل قول وفعل, وترفع بها عن مواطن النقص والريب والزلل.

 

 

 

المشاهدات 908 | التعليقات 0