الحياء شعبة من الإيمان
مبارك العشوان
1436/12/25 - 2015/10/08 21:36PM
إن الحمد لله... ورسوله: أما بعد: فقد روى الإمام مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ ).
عباد الله: الحياء خصلة حميدة، وخلق كريم اتصف به كرام الخلق، حتى قال أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه يصف أكرمَ الناس وأتقاهم وأحسنَهم خُلقا: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا؛ فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ ) رواه البخاري. واشتُهر بالحياء ذلكم الصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فما ذُكر الحياءُ إلا ذُكر عثمانُ ولا ذُكر عثمان إلا ذكر الحياء، ولحيائِهِ رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحي منه ويقول: ( أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ ) رواه مسلم.
صحت الأحاديث عباد الله بأنَّ الحياءَ خيرٌ كله، وأن الحياء لا يأتي إلا بخير، وكذا : ( الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الجَنَّةِ وَالبَذَاءُ مِنَ الجَفَاءِ، وَالجَفَاءُ فِي النَّارِ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني. ومَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ ) رواه البخاري. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ ) أخرجه الترمذي وقال الألباني صحيح.
من وُفق للحياء وفق لعظيم، ومن حُرم الحياء حُرم خيرا كثيرا
الحياء عباد الله يحمل صاحبَه على فعل ما يَزِينُه ويكفُه عن فعل ما يشينه.
يكون الحياء بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى، ويكون بين العبد وبين الناس، فحياءُ العبد من ربه عز وجل يحمله على فعل أمره واجتناب نهيه، يستحي من ربه أن يفتقده حيث أمره يستحي من ربه أن يراه حيث نهاه، يستحي من ربه أن يراه على معصيته ومخالفته؛ فيجتنبها في أقواله وأفعاله وجميع أحواله في حال حضوره مع الناس وغيبته عنهم.
متى خلا بمحارم الله منعه خوفُه من الله والحياءُ منه سبحانه من الوقوع فيها:
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمـــــة ٍ *** والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
من لم يستحي من الله تجرأ على محارمه إذا غاب عن أعين الناس، ولهؤلاء جاء الوعيد الشديد في قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ) أخرجه ابن ماجه وقال الألباني صحيح.
عباد الله: حيا المؤمن حياء عبودية وخوف وخشية، يستحي من الله إجلالا له وتعظيما، وعلمًا بقربه سبحانه من عباده واطلاعه عليهم، وعلمِه تعالى بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال بعض السلف: استحيى من الله على قدر قربه منك، وخف الله على قدر قدرته عليك؛ وهذا الحياء من أعلى مراتب الدين كما في حديث جبريل لما سأل النبيَ صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: ( أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ..) رواه البخاري ومسلم.
وأما الحياء الذي بين العبد وبين الناس فإنه يكفه عن فعل مالا يليق به؛ يكره أن يطلع الناس منه على عيب ومذمة فيجتنب القبائحَ ودنيءَ الأخلاق، ويبتعد عن كل ما يُذمُ من الأقوال والأعمال فلا يكون سبابا ولا نماما ولا مغتابا، ولا يكون فاحشا ولا متفحشا ولا يجاهر بمعصية ولا يتظاهر بقبيح.
وكلا الأمرين عباد الله محمود ومطلوب، فالحياء من الله يمنع فسادَ الظاهر والباطن، والحياء من الناس يمنع فسادَ الظاهر و بذلك تصلح سريرة العبد وعلانيته، ويستقيم ظاهره وباطنه.
عباد الله: ومن سُلب الحياء لم يمنعه من ارتكاب القبائح مانع فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْـــتَ ) رواه البخاري. ومعناه أن من لم يستح صنع ما شاء من القبائح والنقائص، وهذا مشاهد فيمن قل حياؤهم أو فقدوه لا يتورعون عن محرم ولا يخافون من إثم، لا يكفون ألسنتهم عن قبيح، ولا أبصارهم عن عورة، ولا أسماعهم عن لهو ولغو، قلَّ حياؤهم فكثرت فيهم المنكرات، وظهرت العورات، وقلت الغيرة على المحارم، حتى وجُد من الناس من يحمل في جواله المقاطع المخزية ويتناقلها مع أصحابه، وجُد من الناس من يشتري الأفلام الخليعة ويعرضها في بيته أمام نسائه وأولاده بما فيها من مناظر الفجور وقتل الأخلاق وإثارة الشهوة والدعوة إلى الفحشاء والمنكر، بل وجُد منهم من يفتخر بقلة حيائه ويجاهر بفضائحه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ) رواه البخاري ومسلم.
عباد الله: أما عن النساءِ والحياءِ فهو فيهن كثيرٌ والحمد لله، وفي الوقت نفسه هو عند بعضهن قليل أو مفقود، ولذلك صور: فمنها التساهل في أمر اللباس الضيق أو القصير أو الشفاف أو المشابه لألبسة الرجال أو لألبسة الكافرات أو الفاسقات، تهاون كثير من النساء بما يَلبسن وبما يُلبسن بناتهن حتى صار مع الأيام أمرا عاديا، وقد قال الشيخ ابن عثيمين رحمه قبل سنوات وهو يتحدث عن هذا، قال: ( إننا إذا لم نقاوم هذه الألبسة، ونمنع منها بناتنا، فسوف تنتشر في بلدنا، وتعم الصالح والفاسد، كالنار إن أطفأتها من أول أمرها قضيت عليها، ونجوت منها، وإن تركتها تستعر التهمت، ما تستطيع مقاومتها ولا الفرار منها فيما بعد لأنها تكون أكبر من قدرتك ) . أ هـ
ومن ذلك كثرة كلام المرأة لغير محارمها من غير حاجة، بل ومصافحتهم وممازحتهم، وكثيرًا ما يحصل هذا مع أقاربها من غير المحارم وأقارب زوجها، وقد ( سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمو ـ وهو أخو الزوج أو قريبه ـ فقال: الحمو الموت ) رواه البخاري ومسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: ( لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ) رواه الطبراني والبيهقي وقال الألباني حسن صحيح.
ومن ذلك ما يحصل بين النساء بعضهن مع بعض من المزاح بالكلام أو الرسائل البذيئة عبر الجوال وغيره.
ومن ذلك ركوب المرأة مع السائق دون محرم، ومن ذلك خروج المرأة إلى السوق متطيبة متجملة، لا تبالي بنظر الرجال إليها بل ربما افتخرت بذلك، ومنهن من تتستر في الشارع فإذا دخلت المحل كشفت الحجاب أو بعضه أمام البائع ومازحته بالكلام وخضعت له بالقول؛ عند ذلك يطمع الذي في قلبه مرض ويحصل ما لم يكن في الحسبان.
فاتقوا الله عباد الله، في أنفسكم وفيمن ولاكم الله أمرهم، قوموا على رعاية دينهم وأخلاقهم فإنكم مسؤولون عنهم يوم القيامة: ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) رواه البخاري ومسلم.
بارك الله لي ولكم ... أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ... أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها الناس واعلموا أن الحياءَ الممدوح إنما هو الحياءُ الذي يكف صاحبه عن مساوئ الأخلاق ويحمله على فعل ما يجمله ويزينه، أما الحياء الذي يمنع صاحبه من السعي فيما ينفعه في دينه ودنياه، أو يمنعه أن يقول كلمة الحق ويصدع بها أو أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يمنعه من السؤال عن أمور دينه، أو يمنعه من تطبيق سنة من السنن؛ الحياء في هذا حياء مذموم، وهو ضعف وخور وتخذيل من الشيطان.
ولهذا قال مجاهد رحمه الله تعالى: لا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ؛ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ ) فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَعْنِي وَجْهَهَا وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟! قَالَ نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا ). قال الإمام النووي رحمه الله: قيل معناه إن الله لا يأمر بالحياء في الحق ولا يُبيحه.
فلتتقوا الله عباد الله، حق التقوى، ولتستحيوا منه حق الحياء، فإنه تعالى رقيب عليكم أينما كنتم يسمع ويرى، ويعلم السر والنجوى، لا تخفى عليه خافية، ولا تغيب عن علمه غائبة: { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } التغابن 4
ثم صلوا وسلموا... عباد الله: اذكروا الله ...
عباد الله: الحياء خصلة حميدة، وخلق كريم اتصف به كرام الخلق، حتى قال أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه يصف أكرمَ الناس وأتقاهم وأحسنَهم خُلقا: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا؛ فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ ) رواه البخاري. واشتُهر بالحياء ذلكم الصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فما ذُكر الحياءُ إلا ذُكر عثمانُ ولا ذُكر عثمان إلا ذكر الحياء، ولحيائِهِ رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحي منه ويقول: ( أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ ) رواه مسلم.
صحت الأحاديث عباد الله بأنَّ الحياءَ خيرٌ كله، وأن الحياء لا يأتي إلا بخير، وكذا : ( الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الجَنَّةِ وَالبَذَاءُ مِنَ الجَفَاءِ، وَالجَفَاءُ فِي النَّارِ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني. ومَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ ) رواه البخاري. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ ) أخرجه الترمذي وقال الألباني صحيح.
من وُفق للحياء وفق لعظيم، ومن حُرم الحياء حُرم خيرا كثيرا
الحياء عباد الله يحمل صاحبَه على فعل ما يَزِينُه ويكفُه عن فعل ما يشينه.
يكون الحياء بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى، ويكون بين العبد وبين الناس، فحياءُ العبد من ربه عز وجل يحمله على فعل أمره واجتناب نهيه، يستحي من ربه أن يفتقده حيث أمره يستحي من ربه أن يراه حيث نهاه، يستحي من ربه أن يراه على معصيته ومخالفته؛ فيجتنبها في أقواله وأفعاله وجميع أحواله في حال حضوره مع الناس وغيبته عنهم.
متى خلا بمحارم الله منعه خوفُه من الله والحياءُ منه سبحانه من الوقوع فيها:
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمـــــة ٍ *** والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
من لم يستحي من الله تجرأ على محارمه إذا غاب عن أعين الناس، ولهؤلاء جاء الوعيد الشديد في قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ) أخرجه ابن ماجه وقال الألباني صحيح.
عباد الله: حيا المؤمن حياء عبودية وخوف وخشية، يستحي من الله إجلالا له وتعظيما، وعلمًا بقربه سبحانه من عباده واطلاعه عليهم، وعلمِه تعالى بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال بعض السلف: استحيى من الله على قدر قربه منك، وخف الله على قدر قدرته عليك؛ وهذا الحياء من أعلى مراتب الدين كما في حديث جبريل لما سأل النبيَ صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: ( أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ..) رواه البخاري ومسلم.
وأما الحياء الذي بين العبد وبين الناس فإنه يكفه عن فعل مالا يليق به؛ يكره أن يطلع الناس منه على عيب ومذمة فيجتنب القبائحَ ودنيءَ الأخلاق، ويبتعد عن كل ما يُذمُ من الأقوال والأعمال فلا يكون سبابا ولا نماما ولا مغتابا، ولا يكون فاحشا ولا متفحشا ولا يجاهر بمعصية ولا يتظاهر بقبيح.
وكلا الأمرين عباد الله محمود ومطلوب، فالحياء من الله يمنع فسادَ الظاهر والباطن، والحياء من الناس يمنع فسادَ الظاهر و بذلك تصلح سريرة العبد وعلانيته، ويستقيم ظاهره وباطنه.
عباد الله: ومن سُلب الحياء لم يمنعه من ارتكاب القبائح مانع فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْـــتَ ) رواه البخاري. ومعناه أن من لم يستح صنع ما شاء من القبائح والنقائص، وهذا مشاهد فيمن قل حياؤهم أو فقدوه لا يتورعون عن محرم ولا يخافون من إثم، لا يكفون ألسنتهم عن قبيح، ولا أبصارهم عن عورة، ولا أسماعهم عن لهو ولغو، قلَّ حياؤهم فكثرت فيهم المنكرات، وظهرت العورات، وقلت الغيرة على المحارم، حتى وجُد من الناس من يحمل في جواله المقاطع المخزية ويتناقلها مع أصحابه، وجُد من الناس من يشتري الأفلام الخليعة ويعرضها في بيته أمام نسائه وأولاده بما فيها من مناظر الفجور وقتل الأخلاق وإثارة الشهوة والدعوة إلى الفحشاء والمنكر، بل وجُد منهم من يفتخر بقلة حيائه ويجاهر بفضائحه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ) رواه البخاري ومسلم.
عباد الله: أما عن النساءِ والحياءِ فهو فيهن كثيرٌ والحمد لله، وفي الوقت نفسه هو عند بعضهن قليل أو مفقود، ولذلك صور: فمنها التساهل في أمر اللباس الضيق أو القصير أو الشفاف أو المشابه لألبسة الرجال أو لألبسة الكافرات أو الفاسقات، تهاون كثير من النساء بما يَلبسن وبما يُلبسن بناتهن حتى صار مع الأيام أمرا عاديا، وقد قال الشيخ ابن عثيمين رحمه قبل سنوات وهو يتحدث عن هذا، قال: ( إننا إذا لم نقاوم هذه الألبسة، ونمنع منها بناتنا، فسوف تنتشر في بلدنا، وتعم الصالح والفاسد، كالنار إن أطفأتها من أول أمرها قضيت عليها، ونجوت منها، وإن تركتها تستعر التهمت، ما تستطيع مقاومتها ولا الفرار منها فيما بعد لأنها تكون أكبر من قدرتك ) . أ هـ
ومن ذلك كثرة كلام المرأة لغير محارمها من غير حاجة، بل ومصافحتهم وممازحتهم، وكثيرًا ما يحصل هذا مع أقاربها من غير المحارم وأقارب زوجها، وقد ( سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمو ـ وهو أخو الزوج أو قريبه ـ فقال: الحمو الموت ) رواه البخاري ومسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: ( لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ) رواه الطبراني والبيهقي وقال الألباني حسن صحيح.
ومن ذلك ما يحصل بين النساء بعضهن مع بعض من المزاح بالكلام أو الرسائل البذيئة عبر الجوال وغيره.
ومن ذلك ركوب المرأة مع السائق دون محرم، ومن ذلك خروج المرأة إلى السوق متطيبة متجملة، لا تبالي بنظر الرجال إليها بل ربما افتخرت بذلك، ومنهن من تتستر في الشارع فإذا دخلت المحل كشفت الحجاب أو بعضه أمام البائع ومازحته بالكلام وخضعت له بالقول؛ عند ذلك يطمع الذي في قلبه مرض ويحصل ما لم يكن في الحسبان.
فاتقوا الله عباد الله، في أنفسكم وفيمن ولاكم الله أمرهم، قوموا على رعاية دينهم وأخلاقهم فإنكم مسؤولون عنهم يوم القيامة: ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) رواه البخاري ومسلم.
بارك الله لي ولكم ... أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ... أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها الناس واعلموا أن الحياءَ الممدوح إنما هو الحياءُ الذي يكف صاحبه عن مساوئ الأخلاق ويحمله على فعل ما يجمله ويزينه، أما الحياء الذي يمنع صاحبه من السعي فيما ينفعه في دينه ودنياه، أو يمنعه أن يقول كلمة الحق ويصدع بها أو أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يمنعه من السؤال عن أمور دينه، أو يمنعه من تطبيق سنة من السنن؛ الحياء في هذا حياء مذموم، وهو ضعف وخور وتخذيل من الشيطان.
ولهذا قال مجاهد رحمه الله تعالى: لا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ؛ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ ) فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَعْنِي وَجْهَهَا وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟! قَالَ نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا ). قال الإمام النووي رحمه الله: قيل معناه إن الله لا يأمر بالحياء في الحق ولا يُبيحه.
فلتتقوا الله عباد الله، حق التقوى، ولتستحيوا منه حق الحياء، فإنه تعالى رقيب عليكم أينما كنتم يسمع ويرى، ويعلم السر والنجوى، لا تخفى عليه خافية، ولا تغيب عن علمه غائبة: { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } التغابن 4
ثم صلوا وسلموا... عباد الله: اذكروا الله ...