الحلف بالطلاق بين الشرع والواقع!

د. محمد بن سعود
1440/04/27 - 2019/01/03 18:29PM

...

الحمد لله، الحمد لله عمَّت رحمتُه كلَّ شيءٍ ووسِعَت، وذلَّت لعزَّته الرِّقابُ وخضَعَت، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه تمَّت آلاؤُه على عباده وتتابَعَت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدَّخِرُها ليومٍ تذهلُ فيه كل مُرضعةٍ عما أرضعَت، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، جاهَدَ في الله حتى انتشَرَت أعلامُ الملَّةِ وارتفَعَت، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى عِترتِه الطيبين الطاهرين بنسبِه شرُفَت، وعلى صحابتِه الذين على هديِه سارَت ولدينِه نشرَت، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما أشرَقَت شمسٌ وغرَبَت، وظهرَت نجومٌ وأفَلَت، أما بعد:-

فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فتقوى الله خيرُ زاد، وهي بتوفيق الله حارسٌ لا ينام، من استغنَى زانَتْه، ومن افتقَرَ صبَّرَتْه، ومن ابتُلِي حفِظَته )فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(

أيها المسلمون: لقد أكرم الله الإنسان بنعم عظيمة، وآلاء عميمة، وفضَّلَه على كثير ممن خلق تفضيلا، ووهبه بيانا يمتاز به عن غيره، ويُبين به مرادَه، ويحقق غايتَه، (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) وما كان لمثل هذا البيان أن ينبثق من فؤاد الإنسان لولا أن جعل الله له لسانًا يحرِّك به الحروفَ، وشفتينِ يُتقن بهما مخارجَها، (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ)

إنه اللسان -عباد الله-، جسم لحميٌّ، بين فكي الإنسان، يُظهر للملأ ما زوَّرَه في نفسه من كلام، ويُطلعهم على حجم ما يملكه من عقل بقدر ما يملكه من بيان؛ فإن اللسان غشاء القلب، وبريده الناطق، وبه يختار المرء مصيره؛ إما إلى هلاك وإما إلى نجاة، كيف لا والمصطفى -r- هو من قال: "وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟" (رواه الترمذي وصححه).

عباد الله: اللسانُ سلاحٌ ذو حدين، مَنْ أحسن استعمالَه نال به ما يُحمد، ومن أساء استعمالَه عاد عليه بالحسرة والوبال، وإن كثيرا من البيوت تهدمت بسبب اللسان وعثراته، بل إن الإنسان يَخرج بسببه من الإسلام، وإنَّ تحققَ التقوى لا يتم إلا إذا كان اللسانُ ذا قول سديد، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ(

لسان الفتى حتفُ الفتى حين يجهلُ *** وكلُّ امرئٍ ما بين فكّيه مقتلُ

وإن خطرَ الكلمة لا يكمن في مبناها، وإنما يكمن الخطر في معناها، فلكم أن تروا كم في كلمة "أُفٍّ" من عقوق بالوالدين بالغ، وهي كلمة صغيرة لا تحمل إلا حرفين اثنين، )فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(، وكذلك كلمة الطلاق، تفرّق بين الزوجين، وهي أربعةُ أحرف.

والعاقلُ يقود عقلُه لسانَه، فله عقلٌ حاضرٌ، ودِينٌ زاجِرٌ، يعرف مواضعَ الإكرام باللسان ومواضعَ الإهانة به، يعلم الكلام الذي به يندم، والذي به يَفرح، وهو على ردِّ ما لم يَقُلْ أقدرُ منه على ردِّ ما قال، فمثلُه يعلم أنه إذا تلكم بالكلمة مَلَكَتْه، وإن لم يتكلم بها مَلَكَها، وربما صار حكيما بالكلام تارةً، وبالصمت تاراتٍ أخرى.

فإنك لا تسْطِيعُ ردّ الذي مضى *** إذا القولُ عن زلاته فارق الفما

 أيها المؤمنون: وإن من أكثر ما تنطق به ألسنةُ الناس اليوم، الحلفَ واليمينَ، ومن أعظم آدابها، ألا يكثر المسلمُ منها؛ فالأصل في المؤمن هو الصدق، وربما جر الإكثار من اليمين إلى الكذب فيها، قال جل وعلا: )وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ( وقال سبحانه: )وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ(

قليل الألايا حافظٌ ليمينه *** وإن سبقت منه الأليَّةُ برّتِ

وبسبب كثرة الكذب، والغش في البيع والشراء، صار أكثر الناس لا يصدقك إلا إذا حلفتَ له، وهكذا يفعل الكذبُ بالمجتمعات؛ فما أقبحه من خِصلة، بل إنه أساس الفجور، ولهذا قال العلامة الذهبي: (يُطبع المسلم على الخصال كلّها إلّا الخيانةَ والكذب)

ودعِ الكذوب ولا يكن لك صاحبا *** إنّ الكذوبَ لبئس خلّا يُصحب

 وإن المتأمل لواقع كثيرٍ ممن حولنا، يراهم منغمسين في الحلف بغير الألفاظ الشرعية، وهم يعلمون أنه لا يجوز الحلف إلا بالله -جل وعلا-، أو بأسمائه وصفاته؛ فإن الحلفَ بغير الله شرك أصغر، قال r: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كفر أو أَشْرَكَ". رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.وقال r: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ". متفق عليه.

عباد الله: يتألم المؤمن ويندى جبينه، حين يرى كثيرًا ممن حوله يحلف بالله إذا كان الأمر تافهًا، في حينِ يحلفُ بالطلاق وغيرِه إذا أراد مزيدًا من التأكيد، أو كان الأمرُ عظيمًا، فتسمعُه يقول: (عليّ الطلاق) أو يقول: (عليّ الحرام)، أو (علي الملازيم)، ونحو ذلك، وما هذا إلا من جهلهم بالله وعظمته، وبالشرع وحكمته، (وما قدَروا الله حق قدره). إن اسمَ اللهِ سبحانه: إذا ذُكر على الذبيحة، أحلّها، وإذا سبقَ الكلامَ، أكّده، وإذا دُخل به المكانُ، طهّره، وإذا أُكل به الطعامُ، باركه، بل إن بركته شملت الإنس والجن؛ قال النبي r: «أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ» قَالَ ابن مسعود t: فَانْطَلَقَ بِنَا رسول الله r فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَله الجنُّ الزَّادَ، فَقَالَ r: " لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ". رواه مسلم.

فَسُبْحَانَ مَنْ لاَ يَعْرِفُ الْخَلْقُ قَدْرَهُ *** وَمَنْ هُو فَوْقَ الْعَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدُ

تُسَبِّحُهُ الطَّيْرُ الكَوَامِنُ فِي الْخَفَا *** وَإِذْ هِيَ فِي جَوِ السَّمَاءِ تُصَعَّدُ

وَأنَّى يَكُوْنُ الْخَلْقُ كَالْخالِقِ الَّذِي *** يَدُومُ وَيِبْقَى والْخَلِيقَةُ تَنْفَدُ

هُوَ اللهُ بَارِي الْخَلْقِ والْخَلْقُ كُلُّهُم *** إِمَاءٌ لَهُ طَوْعاً جَمِيعاً وَأَعْبُدُ

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم،

الخطبة الثانية:

الحمد لله المحمودِ على كل حال، أحمدُه -سبحانه- على مزيدِ الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العظمة والعزَّة والجلال، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، ختمَ به النبوَّةَ والإرسال، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى الصحبِ الأكرَمين والطيبين الآل، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ الغدوُّ والآصال، أما بعد:-

 فاتقوا الله -معاشر المسلمين-، وراقِبوه فيما تنطقون به وما تسكتون عنه، فإن اللسان العفيف يَهدي صاحبَه إلى الجنة، كما أن اللسان البذيءَ يهدي صاحبَه إلى النار، ومِن دعاء النبي -r-: " اللهم اجعل في لساني نورا) (رواه البخاري، ومسلم).

ثم اعلموا -يا رعاكم الله- أن الحلف بالطلاق، يقعُ به الطلاقُ إذا حنِثَ الحالف، وذلك عند عامة فقهاء الإسلام، وهو قول الإمامِ أبي حنيفة والإمامِ مالك والإمامِ الشافعي والإمامِ أحمد -وهؤلاء هم أئمة الدنيا في زمانهم- بل نُقل على ذلك الإجماع.

فيجب على المسلم أن يحذر من الحلف بالطلاق، حتى وإن شُهر القول المخالفُ لعامة الأئمة، وإنه ليمر بالمفتين سيل جارف من أسئلة المستفتين عن يمين الطلاق؛ لكثرة الناطقين به، حتى صار عادةً عند كثيرٍ من المسلمين اليوم، وليست هذه الخطبةُ لترجيح قول على آخر، وليست مقامًا للفتوى، بل للتحذير من مغبة التهاون في يمين الطلاق. والله المستعان.

وإن السلامة من خطر اللسان لا يعدلها شيءٌ؛ عن عقبة بن عامر -t- قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ: "ما النجاة؟ قال: اِمْلِكْ عليكَ لسانَكَ، ولْيَسَعْكَ بيتُكَ، وابْكِ على خطيئتِكَ" (رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم).

إن اللسانَ إذا حللتَ عقالَه *** ألقاكَ في شنعاءَ ليسَ تقالُ

ثم الهجوا بالصلاة والسلام، على أفضل الأنام، محمد بنِ عبد الله بن عدنان، خيرِ من نطق باللسان، وأزكى الإنس والجان، كما أمركم بذلك القدوسُ السلام، فقال في محكم القرآن....

 

...

المرفقات

بالطلاق-بين-الشرع-والعادة

بالطلاق-بين-الشرع-والعادة

المشاهدات 1835 | التعليقات 0