الحقيقة التي نغفل عنها كثيراً. 140/5/5هـ موعظة
عبد الله بن علي الطريف
ما بعد أيها الإخوة يقول الله تعالى منادياً المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] قال السعدي: هذه الآية بيان لما يستحقه الله تعالى من التقوى، وهي أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات، فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته، منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة..
أحبتي: الحقيقة الثابتة التي أجمع عليها البشر والموقف الرهيب الذي يواجه كل حيِّ.. المؤمن والكافر.. البر والفاجر.. يذكره الله تعالى في كتابه.. ويؤكد على ضرورة التنبه لما بعده من الحساب والجزاء فيقول سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185] نعم.. كل نفوس الخلائق ستذوق الموت، وهو كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى، وعمّر سنين.. لكننا نسهو ونلهو عن ذكره وتذكره.. مع أن رَسُولَنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا بالإكثار من ذكره، فَقَالَ "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ" يعني قاطعها.. رواه ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وقال الألباني حديث حسن صحيح.. وقال الغزالي رحمه الله معناه: نغصوا بذكره اللذات حتى ينقطع ركونكم إليها فتقبلوا على الله تعالى.. وفي رواية: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ" رواه بن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وقال الألباني حسن صحيح. -يَعْنِي الْمَوْتَ- ورواه ابن حبان والطبراني في الأوسط والبيهقي وحسنه الألباني. "فَإِنَّهُ مَا ذَكَرُهُ أَحَدٌ فِي ضِيقٍ إِلَّا وَسَّعَهُ اللهُ، وَلَا ذَكَرُهُ فِي سَعَةٍ إِلَّا ضَيَّقَهَا عَلَيْهِ".
قال السندي: هاذم اللَّذَّات بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بِمَعْنى قاطعها.. أَو بِالْمُهْمَلَةِ من هدم الْبناء وَالْمرَاد الْمَوْت وَهُوَ هَادِم اللَّذَّات أما لِأَن ذكره يزهد فِيهَا أَو لِأَنَّهُ إِذا جَاءَ مَا يبْقى من لذائذ الدُّنْيَا شَيْئا وَالله تَعَالَى أعلم..
أيها الإخوة: كم من الناس لا يعير للرحلة الكبرى اهتمامه.. بل كم منهم من نسيها وكأنها لن تأتيه.. مع إنه ما تذكر أحد تلك الساعة الرهيبة وخاف من عاقبتها إلا نجا عندما تذكرها فعمل لها.. وما لَـهَا عنها أحدٌ إلا تحسر وندم حين قرب أجله، ودنا فراقه، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [العنكبوت:57].
إذاً لا بد من الموت لأنه إظهارٌ لقدرة الله، وبرهانٌ على البعث، ودليلٌ على الوقوفِ أمام رب العالمين.. لابد من الموت ليتعظَ الناس، وتستقرَ أحوالهم، فهو أقوى عظةً وأفظعُ خطباً وأشنعُ أمراً وأمر كأساً.
فأعدوا للأمر الشديد عدته، وتأهبوا للرحيل، واعملوا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل:
تزود من التـــــــقوى فإنَّك لا تدري إذا جنَّ ليـــــــــلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم من صحيحٍ ماتَ من غيرِ علةٍ وكم من عليلٍ عاشَ حيناً من الدهرِ
وكم من صبيٍ يرتجى طـــولُ عمره وقد نســـــجتْ أكفانُه وهو لا يدري
وكم من عروسٍ زينوهــــــــا لزوجها وقد قُبضت روحــُــــــــها ليلةَ القدرِ
وكم من ساكنٍ عند الصباحِ بقصرِهِ وعند المسا قد كان من ساكنِ القبرِ
فكن مخلصاً واعمل الخـــــــــــيرَ دائماً لعلك تحـــــــــــــــــظى بالمثوبةِ والأجرِ
وداوم على تقوى الإلـــــــــــــــــــــــه فإنها أمانٌ من الأهوالِ في موقـــــفِ الحشرِ
فما ظنك -رحمنا الله وإياك- بنازل ينزل بك، فيذهب رونقك وبهاك، ويغير منظرك ورؤياك، ويمحو صورتك وجمالك، ويمنع من اجتماعك واتصالِك، ويردك بعد النعمةِ والنضرة والسطوة والقدرة والنخوة والعزة، إلى حالةٍ يبادرُ فيها أحبُ الناسِ إليك، وأرحمهم بك، وأعطفهم عليك، فيقذفُك في حفرةٍ من الأرض، قريبةٍ أنحاؤها، مظلمةٍ أرجاؤها. قال زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في ليس لبغريب:
وَأَنْزَلـــــــــــــــــــــــــــوني إلى قَبري على مَهَــــلٍ وَقَدَّمُــــــــــــــــــــــــــــــوا واحِداً مِنهم يُلَحِّدُني
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني وَأَسْبَلَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيــــــــــــــــــــهِ أَغْرَقَني
فَقامَ مُحتَرِماً بِالعَزْمِ مُشْتَمِــــــــــــــــــــــــــــلاً وَصَفَّفَ اللَّبْنَ مِنْ فَـــــــــــــــــوْقِي وفارَقَني
وقَالَ هُلُّوا عليه التُّرْبَ واغْتَنِمــــــــــــــــوا حُـــــــــــــــــسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ
وأودعوني ولجوا في سؤالهمــــــــــــــــــــــــوا مالي سواك إلهـــــــــــــــــــــــــي من يخلصني
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هنـــــــــــــــــــاك ولا أَبٌ شَفيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني
عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا. رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
أيها الأحبة: وصف أحد الكتاب حاله بعد موته وصفاً يجعل القارئ يراجع نفسه ويتأمل هذه الحياة وأنها دار ممر فقال مع تصرف مني في بعض الوصف لما يناسب مقام الخطبة: عند موتي لن اقلق ولن اهتم بجسدي البالي، فإخواني من المسلمين سيقومون باللازم سيجردونني من ملابسي... يغسلونني... يكفنونني.. يخرجونني من بيتي.. يذهبون بي لمسكني الجديد القبر.. وسيأتي الكثيرون لتشييع جنازتي.. بل سيلغي الكثير منهم أعماله ومواعيده لأجل دفني.. وقد يكون الكثير منهم لم يفكر في نصيحتي يوما من الأيام.. أشيائي سيتم التخلص منها.. مفاتيحي.. كتبي.. حقيبتي.. أحذيتي.. ملابسي وهكذا.. وإن كان أهلي موفقين فسوف يتصدقون بها لتنفعني.. تأكدوا بأن الدنيا لن تحزن علي... ولن تتوقف حركة العالم.. والاقتصاد سيستمر.. ووظيفتي سيأتي غيري ليقوم بها... وأموالي ستذهب حلالاً للورثة... بينما أنا الذي سأحاسب عليها! القليل والكثير.. النقير والقطمير.. وإن أول ما يسقط مني عند موتي هو اسمي.! لذلك عندما اموت سيقولون عني أين "الجثة".؟ ولن ينادوني باسمي.! وعندما يريدون الصلاة علي سيقولون الصلاة على "جنازة رجل".. فلن ينادوني باسمي.! وعندما يشرعون بدفني سيقولون قربوا الميت أنزلوا الميت صفوا اللبن جيداً على الميت سدوا الفتحات جيداً على الميت ولن يذكروا اسمي.! لذلك لن يغرني نسبي ولا قبيلتي ولن يغرني منصبي ولا شهرتي.. فما أتفه هذه الدنيا وما أعظم ما نحن مقبلون عليه..
فيا ايها الحي الآن.. اعلم ان الحزن عليك سيكون على ثلاثة أنواع: الناس الذين يعرفونك سطحياً سيقولون الله يرحمه ربما ككلمة عابرة.. صدقاؤك سيحزنون ساعات أو أياماً ثم يعودون إلى حديثهم بل وضحكهم.. الحزن العميق في البيت سيحزن أهلك أسبوعا أو أسبوعين.. شهراً أو شهرين أو حتى سنة وبعدها سيضعونك في أرشيف الذكريات.!
انتهت قصتك بين الناس أما قصتك الحقيقية فقد بدأت من حين خروج روحك إلى بارئها فالقبر أول منازل الآخرة فَقَد كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ» الترمذي وابن ماجة واللفظ له وأحمد. لقد زال عنك: الجمال.. والمال.. والصحة.. والولد.. وفارقت الدور.. والقصور والزوج.. ولم يبق معك الا عملك وبدأت الحياة الحقيقية والسؤال هنا لنا جميعاً: ماذا أعددنا لقبورنا وآخرتنا من الآن.؟ هذه حقيقة تحتاج الى تأمل.. ووقفة مع النفس نؤكد فيها عليها على الحرص على أداء الفرائض.. والإكثار من النوافل.. والاهتمام بصدقة السر وعدم تركها ومما يحسن بالمسلم أن يخصص لها مبلغاً كل شهر، ذلك أن عدم تخصيص مبلغٍ كلَ شهر ينسي المسلم الصدقة ويصعبها عليه لفقد المال أو البخل به.. قال الله تعالى حاثاً على النفقة في سبيله (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون:10] قال العلماء: ما ذكر الميت الصدقة إلا لعظيم ما رأى من أثرها بعد موته..