الحفاظ على الأعمال الصالحة في زمن الفتنة الجامحة
عنان عنان
1436/07/24 - 2015/05/13 12:28PM
[size="5"]" الخطبة الأولى "
معاشر المؤمنين: إنَّ الناظر في حال الأمة الأسلامية، وحال الناس، وحال الفتن، يراها تزداد يوماً بعد يوم، فتن تمهد الأخرى، فتكون الأخرى أكبرَ من الأولى، عن عبد الله بن عمرٍو بن العاص-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " فتنٌ يرقق بعضها بعضاً، يقول المؤمن: هذه مُهلكتي، ثم تنكشف، فتأتي الأخرى، فيقول: هذه مُهلكتي، ثم تنكشف، فتأتي الأخرى، فيقول: هذه هذه " [رواه ابن ماجه].
زمن الفتن، كما أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم-: " لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قُتل " [رواه البخاري]. ما من عامٍ يأتي إلا وبعده شرٌّ منه، كما قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " لا يأتيكم زمان إلا وكان بعده شرٌّ منه حتى تلقوا ربَّكم " [رواه البخاري]. أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم-بهذه الفتن، وأنها ستكون كمواقع القطر.
ولكن ما هو موقف المؤمن من هذه الفتن؟ وماذا يعمل إتجاها؟ أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- بالمرض، ودل على العلاج، فالمرض هو هذه الفتن، والعلاج هو ما ستسمع، حثَّ النبي-صلى الله عليه وسلم-على الدعاء، وعلى التعوذ بالله من شرِّ هذه الفتن، وحثَّ على الإنشغال بالأعمال الدنيوية كالزراعة والرعيِّ وغير ذلك، وحذر من الوجود فيها، والخوض فيها، والإستشراف لها.
ومما حثَّ عليه النبي-صلى الله عليه وسلم-المسلمين، أمام هذه الفتن، وهو أهمها الإقبال على طاعة الله، الإكثار من الأعمال الصالحة، من صلاةٍ وصيامٍ وقيامٍ وذكرٍ لله-عز وجل-وقرءاة للقرءان إلى غير ذلك، عن أمِّ سلمةَ-رضي الله عنه-قالت: إستيقظ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فزعاً وهو يقول: " سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ يوقظ صواحب الحجرات يريد أزواجه كي يصلينَ، رب كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الأخرة " [رواه مسلم].
في هذا الحديث، عدة فوائد، منها الإقبال على الأعمال الصالحة أيامَ الفتن، وعلى وجه الخصوص قيامِ الليل، ففيه بإذن الله يعصم العبد من الفتن، وينجو، وفي هذا الحديث، أنَّ أساس الفتن وأكثرها بسبب المال، ولذا قرن النبي-صلى الله عليه وسلم-بين الأموال وبين الفتن، بقوله: " سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ والخزائن هي الأموال، والغنى، والفتوحات،
ولقد كانت أوَّلُ بدعة في الإسلام، هي بدعة الخارجي، ذي الخُويصرة التميمي، الذي جاء إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وقال يا محمد: اعدلْ، فإن هذه قسمةٌ ما أُريدَ بها وجهُ الله، أول بدعة في هذه الأمة بالمال، فعلى المال يقتتلون، وعلى المال يهجر المسلم أخاه، وعلى المال يسفك دمه، وعلى المال يدخل بالفتن، على المال، وعلى المنصب، وعلى الجاه، إلى غير ذلك، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: " لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال " [رواه الترمذي].
الشاهد من هذا الحديث، الإقبال على قيام الليل، والتضرع في الثلث الليل الأخير، فالدعاء هو النجاة من الفتن، فإن هذه الفتن تهلك الحرث والنسل، فالمسابقةَ والمسارعةَ بالأعمال الصالحة قبل الإنشغال بالفتن، حث النبي-عليه الصلاة والسلام-بالمسابقة والمبادرة بالأعمال الصالحة، قبل أن ينشغل العبد بهذه الفتن، عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المُظلم، يصبح الرجل مؤمنا، ويُمسي كافراً، ويُمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يُبيع دينه بعرَض من الدنيا قليل " [رواه مسلم].
بادروا بالأعمال: أي سابقوا بالأعمال الصالحة، سابقوا الفتن بهذه الأعمال، قبل أن تنشغلوا، فتناً شبَّهها كقطع الليل المظلم، لشدة ظُلمتها وسوادها، حتى أن كثيراً من الناس لا يتبين لهم الحق من الباطل، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، بسبب الفتن، إنقلبت عليه الحقائق، بسبب الفتن، أصاب قلبه الرَّان، والغفلة، وربما الشقاوة، وقال بعضهم: " يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، بمعنى: أنه يصبح لا يستحيل دم أخيه وعرضه وماله، ويمسي وقد إستحل دم أخيه وماله وعرضه ". والذي يستحل ما حرَّم الله كافر، واختار هذا القول الحسن البصري-رحمه الله-. يصبح يحرم دمه أخيه، ويمسي وقد إستحل وقد إنتهك، وهذا عين ما نشاهده في هذا الأيام.
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " بادروا بالأعمال سِتاً، طلوعَ الشمس من مغربها، أوِ الدجال، أو الدخان، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أوِ العامة " [رواه مسلم]. سابقوا بالأعمال قبل أن تشغلكم هذه السِت، فإن بعضها إذا جاء " لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ". طلوع الشمس، أو الدجال، أو الدخان، أو الدابة، أو خاصة أحدكم وهو الموت، " حتى إذا جاء أحدَهم الموتُ قال ربِّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا ". أو العامة، قال بعضهم: " حتى لا تُشغلوا بإمارة العَوام، فتنشغلوا عن الأعمال الصالحة ". وقال بعضهم: " العامة هي يوم القيامة، يعم الناس جميعاً ".
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " بادروا بالأعمال سِتاً، إمارةَ السُفهاء، وكثرة الشُرط، وبيع الحُكم، إستخفافاً بالدم، وقطيعة الرحم، ونشؤاً يتخذون القرءان مزاميرَ يجعلون أحدهم يقرأ لهم وإن كان أقلَّهم فِقهاً " [رواه الطبراني]. سارعوا بالأعمال الصالحة قبل أن تنشغلوا بهذه الست، منها إمارة السُفهاء، والسفيه هو ناقص العقل، فسابق بالأعمال قبل أن يتولَّى عليك السُفهاء، فيطفشون ويمنعون من العبادات، ومن الأعمال الصالحة.
وكثرة الشُرط، وهم أعوان الأمراء، على أبوابهم، فإن كثرتهم على أبواب الأمراء من أسباب الظُلم، وإستخفافاً بالدم، يستخف بالدم لا قيمة له عند الناس، حتى لا يقاد للمقتول ولا للقاتل، ولا تقامَ الحدودُ على الجِناء، وقطيعة الرحم، بالأذية والقطيعة والهجر، ونشؤاً يقرءون القرءان يتغنون به، بقصد الألحان، ألحان تخرج عن أوضاع القرءان، وعن مخارجه وصفاته، بادروا بالأعمال قبل مجيء هذه الفتن.
فإن الذي يستغل وقته وشابه وعمره بالأعمال الصالحة، ينتفع بها أيامَ الفتن، ويقيه الله من هذه الفتن، عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " من سرَّه أن يستجيب الله له عند الكرب والشدائد، فليكثرْ من الدعاء عند الرخاء " [رواه الترمذي]. أكثرْ من الدعاء، والدعاء هو العمل الصالح، قال أبو هريرة: " فتناً كقطع المظلم، تصير الأمور مظلمةً على الناس، لا يتبين الحق من الباطل، إلا من بادر الفتنَ بالأعمال الصالحة، وسابقها، فإن الله يقذف في قلبه نوراً يتميز له الحق من المبتدع ".
لأن الفتن إذا دخلت القلوب أعمتها، وصارت لا تعرف معروفاً، ولا تُنكر منكراً، إلا ما وافق الهوى، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " تُعرضُ الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما عبدٍ أنكرها نُكِتتْ في قلبه نُكتةٌ بيضاءُ، وأيما عبدٍ أُشرِبها نُكِتتْ في قلبه نكتةٌ سوداءُ، حتى تصيرَ القلوب على قلبين، أبيضَ مثلَ الصفا، لا تضره فتنة ما دامتِ السموات والأرض، وأسودَ مُرباداً-مظلماً-كالكوزِ مُجخياً-كالإبريق المثقوب-
لا يعرف معروفاً، ولا يُنكر منكراً، إلا ما أُشرِبَ من هواه " [رواه مسلم].
نجا الله يونس-عليه السلام- وأنقذه من ظلماتٍ ثلاثٍ بصلاحه وعبادته حالَ الرخاء، وقبل أن يدخل بطن الحوت، قال سبحانه: " فلولا أنه كان من المُسبحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون ". هذا قبل المحنة، أما وقت المحنة، وهو في بطن الحوت، فإنه من المسبحين، " وذا النون إذ ذهب مُغاضباً فظنَّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ". رجاعاً إلى الله في حال الرخاء، وفي حال الشدة، فأنجاه الله-سبحانه وتعالى- فجعله الله من المرسلين، وأصطفاه الله، وأرسله الله إلى مائة الفٍ بل يزيدون.
" الخطبة الثانية "
معاشر المؤمنين: الأعمال الصالحة في هذه الأيام مضاعفة، لماذا؟ لأن الناس مشغولون بالفتن، والسياسات والتحليلات، وأنت مشغول بطاعة الله، الناس يذكرون الرؤوساء والملوك، وأنت تذكر ملك الملوك، العبادة في هذه الأيام كهجرة إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- وفضل الهجرة معلومة بالكتاب والسنة، قال تعالى: " الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أولئك أعظم درجةً عند الله وأولئك هم الفائزون ".
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " العبادة في الهرج كهجرةٍ إلي " [رواه مسلم]. والهرج هي أيام الفتن والقتل وإختلاط أمور الناس.
رُتِب على الذكر عند دخول السوق أجورٌ عظيمة، لأن المكان مكان فتن، وأن الوقت وقت فتن، القتل والقتال والسرقة والكذب والتحايل والتبرج والسُفور والفساد إلى غير ذلك، وقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " أبغض البلاد إلى الأسواق " [رواه مسلم]. لما تحصل فيه من المخالفات الشرعية، ومع هذا من ذكر الله في السوق فقد أعد الله له أجراً عظيماً، عن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له يُحي ويُميت وهو حيٌّ لا يموت، إلا كتب الله له ألفَ ألفِ حسنةٍ، ومحا عنه الفَ الفِ خطيئة، ورفع له ألفَ ألفِ درجةٍ " [رواه الترمذي]. ثلاثة ملايين فائدة، في لحظاتٍ يقولها العبد في السوق، يذكر ربه حالَ إنشغال الناس، وحالَ غفلتهم وتلاعنهم، فالعبادة في هذه الأيام أجرها عظيم،
معاشر المؤمنين: أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم-بأجور عظيمة، لمن ثبت على الأعمال الصالحة في أيام الفتن، لأن الثابت على دين الله، وعلى سنة رسول الله، في هذه الأيام قليل، ولأنه سيؤذى ويُرمى بالأقاويل والأكاذيب، وقد تصيبه الفاقة، إلى غير ذلك، عن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " إن من وراءكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن أجر خمسين شهيداً، وفي رواية: أجر خمسين رجلاً، قالوا يا رسول الله: منا أو منهم؟ قال: بل منكم " [رواه الطبراني]. أنظر الصحبة لا يعدلها شيء، والصحابة-رضي الله عنهم-أفضل مما بعدهم، ولكن الذي يتمسك بدينه وبسنة نبيه-صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الأيام، أيام الفتن، له أجر خمسين شهيداً، أو خمسين رجلاً.
وهذا لا يثبت عليه إلا من وفقه الله وثبته، وعصمه الله وأعانه، لأن كثيراً من الناس يتذبذب، وقتَ الفتن، فيخافون، ويتساهلون بالسنن، ويقصرون في الطاعات، بل ويرتكبون المخالفات، بل ويتشبهون بأعداء الإسلام، إلا ما رحم الله، عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " لياتينَّ على الناس زمان، المتمسك بدينه كالقابض على الجمر " [رواه الترمذي]. المتمسك بالدين في هذه الأيام كالقابض على الجمر، والقابض على الجمر، يؤذيه حرُّها، ويحاول أن يتخلص منها، فهكذا الذي يتمسك بدينه، يحتاج أن يجاهد نفسه، وأن يتمسك بدينه، وأن يصبر على أذى الناس، على أقوالهم وعلى أفعالهم، عن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " المتمسك بسنتي عند إختلاف أمتي كالقابض على الجمر ". المتمسك بالسنة في مثل هذه الأيام كالقابض على الجمر، وكثير من السنن يستهزأ بها من الناس، كاللحى، والأثواب القصيرة، والسواك، المتمسك بهذه السنن كالقابض على الجمر وهنيئاً له.
هذا هو المخرج، وهذا هو الحل، أن نتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ليس لنا مخرج غيرَ ذلك، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " فإنه من يعشْ منكم فسيرى إختلافاً كثيراً
وجد الخلاف، وهذا هو المرض، فما هو العلاج يا رسول الله؟ قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار " [رواه الترمذي]. لم يقل بسنة الغرب، ولا بسنة الشرق، ولا بسنة الملوك، ولا بسنة الأغنياء والأثرياء، فقال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ. قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " تركت فيكم أمرين إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً، كتابَ الله وسُنتي " [رواه البخاري].
فإن لم تستطع أن تتمسك بدينك، وسنة نبيك، فالعزلة خير لك، وقد أشار رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إلى ذلك، لمن لم يستطع أن يقيم دينه بين الناس، وجبن أو خاف، أو كثر عليه الأذى، عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم، يتتبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر، يفرُّ بدينه من الفتن " [رواه البخاري]. يعتزل الناس على رأس الجبل، يعبد ربه حتى يأتيه الموت، لماذا؟ سلامةً لدينه يفر بدينه من الفتن، لأن العقوبات والمحن ستنزل، وتأخذ الصالح والطالح، عن زينب زوجة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث " [رواه البخاري] فارجعوا إلى الله عباد الله وأكثروا من الإستغفار حتى لا يصيبكم البلاء الذي ينزل على الناس، قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: " لو نزلت صاعقة من السماء ما أصابت مُستغفراً ". نسأل الله العفو والعافية.
وصلِّ اللهمَّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[/size]
معاشر المؤمنين: إنَّ الناظر في حال الأمة الأسلامية، وحال الناس، وحال الفتن، يراها تزداد يوماً بعد يوم، فتن تمهد الأخرى، فتكون الأخرى أكبرَ من الأولى، عن عبد الله بن عمرٍو بن العاص-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " فتنٌ يرقق بعضها بعضاً، يقول المؤمن: هذه مُهلكتي، ثم تنكشف، فتأتي الأخرى، فيقول: هذه مُهلكتي، ثم تنكشف، فتأتي الأخرى، فيقول: هذه هذه " [رواه ابن ماجه].
زمن الفتن، كما أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم-: " لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قُتل " [رواه البخاري]. ما من عامٍ يأتي إلا وبعده شرٌّ منه، كما قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " لا يأتيكم زمان إلا وكان بعده شرٌّ منه حتى تلقوا ربَّكم " [رواه البخاري]. أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم-بهذه الفتن، وأنها ستكون كمواقع القطر.
ولكن ما هو موقف المؤمن من هذه الفتن؟ وماذا يعمل إتجاها؟ أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- بالمرض، ودل على العلاج، فالمرض هو هذه الفتن، والعلاج هو ما ستسمع، حثَّ النبي-صلى الله عليه وسلم-على الدعاء، وعلى التعوذ بالله من شرِّ هذه الفتن، وحثَّ على الإنشغال بالأعمال الدنيوية كالزراعة والرعيِّ وغير ذلك، وحذر من الوجود فيها، والخوض فيها، والإستشراف لها.
ومما حثَّ عليه النبي-صلى الله عليه وسلم-المسلمين، أمام هذه الفتن، وهو أهمها الإقبال على طاعة الله، الإكثار من الأعمال الصالحة، من صلاةٍ وصيامٍ وقيامٍ وذكرٍ لله-عز وجل-وقرءاة للقرءان إلى غير ذلك، عن أمِّ سلمةَ-رضي الله عنه-قالت: إستيقظ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فزعاً وهو يقول: " سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ يوقظ صواحب الحجرات يريد أزواجه كي يصلينَ، رب كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الأخرة " [رواه مسلم].
في هذا الحديث، عدة فوائد، منها الإقبال على الأعمال الصالحة أيامَ الفتن، وعلى وجه الخصوص قيامِ الليل، ففيه بإذن الله يعصم العبد من الفتن، وينجو، وفي هذا الحديث، أنَّ أساس الفتن وأكثرها بسبب المال، ولذا قرن النبي-صلى الله عليه وسلم-بين الأموال وبين الفتن، بقوله: " سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ والخزائن هي الأموال، والغنى، والفتوحات،
ولقد كانت أوَّلُ بدعة في الإسلام، هي بدعة الخارجي، ذي الخُويصرة التميمي، الذي جاء إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وقال يا محمد: اعدلْ، فإن هذه قسمةٌ ما أُريدَ بها وجهُ الله، أول بدعة في هذه الأمة بالمال، فعلى المال يقتتلون، وعلى المال يهجر المسلم أخاه، وعلى المال يسفك دمه، وعلى المال يدخل بالفتن، على المال، وعلى المنصب، وعلى الجاه، إلى غير ذلك، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: " لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال " [رواه الترمذي].
الشاهد من هذا الحديث، الإقبال على قيام الليل، والتضرع في الثلث الليل الأخير، فالدعاء هو النجاة من الفتن، فإن هذه الفتن تهلك الحرث والنسل، فالمسابقةَ والمسارعةَ بالأعمال الصالحة قبل الإنشغال بالفتن، حث النبي-عليه الصلاة والسلام-بالمسابقة والمبادرة بالأعمال الصالحة، قبل أن ينشغل العبد بهذه الفتن، عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المُظلم، يصبح الرجل مؤمنا، ويُمسي كافراً، ويُمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يُبيع دينه بعرَض من الدنيا قليل " [رواه مسلم].
بادروا بالأعمال: أي سابقوا بالأعمال الصالحة، سابقوا الفتن بهذه الأعمال، قبل أن تنشغلوا، فتناً شبَّهها كقطع الليل المظلم، لشدة ظُلمتها وسوادها، حتى أن كثيراً من الناس لا يتبين لهم الحق من الباطل، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، بسبب الفتن، إنقلبت عليه الحقائق، بسبب الفتن، أصاب قلبه الرَّان، والغفلة، وربما الشقاوة، وقال بعضهم: " يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، بمعنى: أنه يصبح لا يستحيل دم أخيه وعرضه وماله، ويمسي وقد إستحل دم أخيه وماله وعرضه ". والذي يستحل ما حرَّم الله كافر، واختار هذا القول الحسن البصري-رحمه الله-. يصبح يحرم دمه أخيه، ويمسي وقد إستحل وقد إنتهك، وهذا عين ما نشاهده في هذا الأيام.
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " بادروا بالأعمال سِتاً، طلوعَ الشمس من مغربها، أوِ الدجال، أو الدخان، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أوِ العامة " [رواه مسلم]. سابقوا بالأعمال قبل أن تشغلكم هذه السِت، فإن بعضها إذا جاء " لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ". طلوع الشمس، أو الدجال، أو الدخان، أو الدابة، أو خاصة أحدكم وهو الموت، " حتى إذا جاء أحدَهم الموتُ قال ربِّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا ". أو العامة، قال بعضهم: " حتى لا تُشغلوا بإمارة العَوام، فتنشغلوا عن الأعمال الصالحة ". وقال بعضهم: " العامة هي يوم القيامة، يعم الناس جميعاً ".
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " بادروا بالأعمال سِتاً، إمارةَ السُفهاء، وكثرة الشُرط، وبيع الحُكم، إستخفافاً بالدم، وقطيعة الرحم، ونشؤاً يتخذون القرءان مزاميرَ يجعلون أحدهم يقرأ لهم وإن كان أقلَّهم فِقهاً " [رواه الطبراني]. سارعوا بالأعمال الصالحة قبل أن تنشغلوا بهذه الست، منها إمارة السُفهاء، والسفيه هو ناقص العقل، فسابق بالأعمال قبل أن يتولَّى عليك السُفهاء، فيطفشون ويمنعون من العبادات، ومن الأعمال الصالحة.
وكثرة الشُرط، وهم أعوان الأمراء، على أبوابهم، فإن كثرتهم على أبواب الأمراء من أسباب الظُلم، وإستخفافاً بالدم، يستخف بالدم لا قيمة له عند الناس، حتى لا يقاد للمقتول ولا للقاتل، ولا تقامَ الحدودُ على الجِناء، وقطيعة الرحم، بالأذية والقطيعة والهجر، ونشؤاً يقرءون القرءان يتغنون به، بقصد الألحان، ألحان تخرج عن أوضاع القرءان، وعن مخارجه وصفاته، بادروا بالأعمال قبل مجيء هذه الفتن.
فإن الذي يستغل وقته وشابه وعمره بالأعمال الصالحة، ينتفع بها أيامَ الفتن، ويقيه الله من هذه الفتن، عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " من سرَّه أن يستجيب الله له عند الكرب والشدائد، فليكثرْ من الدعاء عند الرخاء " [رواه الترمذي]. أكثرْ من الدعاء، والدعاء هو العمل الصالح، قال أبو هريرة: " فتناً كقطع المظلم، تصير الأمور مظلمةً على الناس، لا يتبين الحق من الباطل، إلا من بادر الفتنَ بالأعمال الصالحة، وسابقها، فإن الله يقذف في قلبه نوراً يتميز له الحق من المبتدع ".
لأن الفتن إذا دخلت القلوب أعمتها، وصارت لا تعرف معروفاً، ولا تُنكر منكراً، إلا ما وافق الهوى، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " تُعرضُ الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما عبدٍ أنكرها نُكِتتْ في قلبه نُكتةٌ بيضاءُ، وأيما عبدٍ أُشرِبها نُكِتتْ في قلبه نكتةٌ سوداءُ، حتى تصيرَ القلوب على قلبين، أبيضَ مثلَ الصفا، لا تضره فتنة ما دامتِ السموات والأرض، وأسودَ مُرباداً-مظلماً-كالكوزِ مُجخياً-كالإبريق المثقوب-
لا يعرف معروفاً، ولا يُنكر منكراً، إلا ما أُشرِبَ من هواه " [رواه مسلم].
نجا الله يونس-عليه السلام- وأنقذه من ظلماتٍ ثلاثٍ بصلاحه وعبادته حالَ الرخاء، وقبل أن يدخل بطن الحوت، قال سبحانه: " فلولا أنه كان من المُسبحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون ". هذا قبل المحنة، أما وقت المحنة، وهو في بطن الحوت، فإنه من المسبحين، " وذا النون إذ ذهب مُغاضباً فظنَّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ". رجاعاً إلى الله في حال الرخاء، وفي حال الشدة، فأنجاه الله-سبحانه وتعالى- فجعله الله من المرسلين، وأصطفاه الله، وأرسله الله إلى مائة الفٍ بل يزيدون.
" الخطبة الثانية "
معاشر المؤمنين: الأعمال الصالحة في هذه الأيام مضاعفة، لماذا؟ لأن الناس مشغولون بالفتن، والسياسات والتحليلات، وأنت مشغول بطاعة الله، الناس يذكرون الرؤوساء والملوك، وأنت تذكر ملك الملوك، العبادة في هذه الأيام كهجرة إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- وفضل الهجرة معلومة بالكتاب والسنة، قال تعالى: " الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أولئك أعظم درجةً عند الله وأولئك هم الفائزون ".
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " العبادة في الهرج كهجرةٍ إلي " [رواه مسلم]. والهرج هي أيام الفتن والقتل وإختلاط أمور الناس.
رُتِب على الذكر عند دخول السوق أجورٌ عظيمة، لأن المكان مكان فتن، وأن الوقت وقت فتن، القتل والقتال والسرقة والكذب والتحايل والتبرج والسُفور والفساد إلى غير ذلك، وقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " أبغض البلاد إلى الأسواق " [رواه مسلم]. لما تحصل فيه من المخالفات الشرعية، ومع هذا من ذكر الله في السوق فقد أعد الله له أجراً عظيماً، عن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له يُحي ويُميت وهو حيٌّ لا يموت، إلا كتب الله له ألفَ ألفِ حسنةٍ، ومحا عنه الفَ الفِ خطيئة، ورفع له ألفَ ألفِ درجةٍ " [رواه الترمذي]. ثلاثة ملايين فائدة، في لحظاتٍ يقولها العبد في السوق، يذكر ربه حالَ إنشغال الناس، وحالَ غفلتهم وتلاعنهم، فالعبادة في هذه الأيام أجرها عظيم،
معاشر المؤمنين: أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم-بأجور عظيمة، لمن ثبت على الأعمال الصالحة في أيام الفتن، لأن الثابت على دين الله، وعلى سنة رسول الله، في هذه الأيام قليل، ولأنه سيؤذى ويُرمى بالأقاويل والأكاذيب، وقد تصيبه الفاقة، إلى غير ذلك، عن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " إن من وراءكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن أجر خمسين شهيداً، وفي رواية: أجر خمسين رجلاً، قالوا يا رسول الله: منا أو منهم؟ قال: بل منكم " [رواه الطبراني]. أنظر الصحبة لا يعدلها شيء، والصحابة-رضي الله عنهم-أفضل مما بعدهم، ولكن الذي يتمسك بدينه وبسنة نبيه-صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الأيام، أيام الفتن، له أجر خمسين شهيداً، أو خمسين رجلاً.
وهذا لا يثبت عليه إلا من وفقه الله وثبته، وعصمه الله وأعانه، لأن كثيراً من الناس يتذبذب، وقتَ الفتن، فيخافون، ويتساهلون بالسنن، ويقصرون في الطاعات، بل ويرتكبون المخالفات، بل ويتشبهون بأعداء الإسلام، إلا ما رحم الله، عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " لياتينَّ على الناس زمان، المتمسك بدينه كالقابض على الجمر " [رواه الترمذي]. المتمسك بالدين في هذه الأيام كالقابض على الجمر، والقابض على الجمر، يؤذيه حرُّها، ويحاول أن يتخلص منها، فهكذا الذي يتمسك بدينه، يحتاج أن يجاهد نفسه، وأن يتمسك بدينه، وأن يصبر على أذى الناس، على أقوالهم وعلى أفعالهم، عن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " المتمسك بسنتي عند إختلاف أمتي كالقابض على الجمر ". المتمسك بالسنة في مثل هذه الأيام كالقابض على الجمر، وكثير من السنن يستهزأ بها من الناس، كاللحى، والأثواب القصيرة، والسواك، المتمسك بهذه السنن كالقابض على الجمر وهنيئاً له.
هذا هو المخرج، وهذا هو الحل، أن نتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ليس لنا مخرج غيرَ ذلك، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " فإنه من يعشْ منكم فسيرى إختلافاً كثيراً
وجد الخلاف، وهذا هو المرض، فما هو العلاج يا رسول الله؟ قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار " [رواه الترمذي]. لم يقل بسنة الغرب، ولا بسنة الشرق، ولا بسنة الملوك، ولا بسنة الأغنياء والأثرياء، فقال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ. قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " تركت فيكم أمرين إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً، كتابَ الله وسُنتي " [رواه البخاري].
فإن لم تستطع أن تتمسك بدينك، وسنة نبيك، فالعزلة خير لك، وقد أشار رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إلى ذلك، لمن لم يستطع أن يقيم دينه بين الناس، وجبن أو خاف، أو كثر عليه الأذى، عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم، يتتبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر، يفرُّ بدينه من الفتن " [رواه البخاري]. يعتزل الناس على رأس الجبل، يعبد ربه حتى يأتيه الموت، لماذا؟ سلامةً لدينه يفر بدينه من الفتن، لأن العقوبات والمحن ستنزل، وتأخذ الصالح والطالح، عن زينب زوجة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث " [رواه البخاري] فارجعوا إلى الله عباد الله وأكثروا من الإستغفار حتى لا يصيبكم البلاء الذي ينزل على الناس، قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: " لو نزلت صاعقة من السماء ما أصابت مُستغفراً ". نسأل الله العفو والعافية.
وصلِّ اللهمَّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[/size]