الحرّيةُ المزعومةُ 1445/6/9ه

يوسف العوض
1445/06/06 - 2023/12/19 11:12AM

الخطبة الأولى

عبادَ الله:جاءَ منْ حديثِ النَّعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه قال : قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ :" مَثَلُ القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا" إنَّ اسمَ الحرّيةِ اليومَ أَضْحَى مَثَارَ جَدَلٍ والْتِبَاس، حتى اخْتَلَطَ أمْرُها على أكثرِ الناس، بل صَارَ هذا الاسمُ الحسنُ الجذّابُ، يتذرّعُ به أصحابُ الأهواءِ والشهواتِ، لِلانْحِلَالِ مِن القِيَم، والتّجرُّدِ مِن الشّرائعِ، والانفِلاتِ مِن الأخلاقِ والمحاسِن.

فَبَيْنَمَا نَرَى الأسيرَ المظلومَ أو مَن حقُّه مَهْضُومٌ يَرْنُو إلى الحريّةِ ويتمنّاها، إذْ نَجِدُ مريضَ القلبِ يتذرّعُ بها إلى الإفسادِ، والشاذَّ يتّكئُ عليها ليُسمَحَ له بالفُجُورِ، والزنديقَ يدعُو إليها لِيُعلِنَ كُفرَه وإلحادَه.

فما أَحْوَجَ هذهِ الحريّةَ إلى أن تُحرَّرَ، فيُمَحَّصَ نقيُّها عن الزّيف، وتُوزَنَ بميزانِ الشرعِ الّذي لا جَوْرَ فيه ولا حَيْف.

عبادَ الله: إنَّ الإنسانَ مهما حاوَلَ أن يَسْتَغنيَ عن خالقِه فلا سبيلَ له إلى ذلك، لأنّه مخلوقٌ مُحتاجٌ إلى ربِّه في إيجادِه، ثمّ هو فقيرٌ إليه في رزقِه وعلمِه وعافيتِه وفي كلِّ شؤونِه، لا يَسْتَغْنِي عن "اللهِ في إمدادِه أو إعدادِه، فهُو لا يَنْفَكُّ عن الفقرِ إلى اللهِ والحاجةِ إليه، وهُو مَفْطُورٌ على الخضوعِ له والافتقارِ إليه قال تعالى:" يَا أيُّهَا النّاسُ أنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ واللهُ هُو الغَنِيُّ الحمِيدُ.

وإذا كانَ الأمرُ كذلكَ، فإنّ حرّيّةَ المخلوقِ محدودةٌ محكومةٌ بإرادةِ سيّدِه الذي لا غِنى له عنه، وليس له أن يكونَ خَصِيمًا له، مُعانِدًا لِـحُكمِه، وهو سبحانه الذي خَلَقَه مِن سُلالَةٍ مِن طِين، ثمّ مِن مَاءٍ مَهِين، فَجَعَلَهُ نُطفَةً في قَرَارٍ مَكِين، فأنَّى له هذا العِنادُ الـمُبين؟! " أَوَلـَمْ يَرَ الإِنسَانُ أنّا خَلَقْنَاهُ مِن نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين؟!"

عبادَ الله: وعبوديةُ الإنسانِ للهِ هي غايةُ الشَّرَفِ والكرامةِ له، لأنّه ينقادُ للخالقِ الكريمِ العظيمِ، الذي يدعُوهُ إلى مَحَاسِنِ الأعمالِ، ويَأمرُه بِشَرِيفِ الخِصَالِ، ويتولّاهُ بالنّصرِ والتأييدِ، والتوفيقِ والتسديدِ، ثمّ يَهَبُهَ بذلك الرِّزقَ الكريمَ، والفضلَ العظيمَ، ويُدخلُه جنّاتِ النّعيم، فهُو ينتقلُ في ولايةِ اللهِ مِن كرامةٍ إلى كرامةٍ، ومِن عِزٍّ إلى عِزّ، " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ".

وأمّا إنْ أبى العبوديّةَ للهِ واستَكبرَ عنها فإنّه لا يُحقّقُ الحرّيّةَ كما يَظُنّ، بل يَقَعُ في عبوديةٍ مقيتةٍ، ينقادُ فيها لِـهَوَاهُ ونفسِهِ الأمّارةِ بالسّوءِ، ويَخضعُ فيها لِشَيطانٍ خبيثٍ مَريدٍ، يأمرُه بالمنكرِ فيُطيعُه بِلا عِصْيَانٍ، ويدعُوه إلى الفحشاءِ والرَّذِيلةِ فَيَتْبَعُهُ بِلا نُكرانٍ.

فمَن لم يَسْتَسْلِم للهِ اسْتَسْلَمَ للشَّيْطَانِ، " يَا أيُّهَا الّذِينَ آمنُوا ادخُلُوا في السِّلْمِ كافَّةً ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان" فَحَالُهُ معَ الشيطانِ، مِن صَغَارٍ إلى صَغَارٍ، ومِن هَوَانٍ إلى هَوَانٍ، فما أتْعَسَه وأَشْقَاه!

 

الخطبة الثانية

عبادَ الله: إنّ على المسلمِ أن يكونَ فَطِنًا عَاقِلًا، لا يَغْتَرُّ بالألفاظِ قَبْلَ فَهْمِهَا، ولا يَنْخَدِعُ بِالدَّعَاوَى قَبْلَ العلمِ بِـمّضَامِينِهَا، فالحرّيّةُ لم تَكُنْ يومًا تَحَرُّرًا عن الإسلامِ لله، بل هذه حريّةُ إبليسَ الذي استكبَرَ عن طاعةِ خالقِه فقال:" لَـمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ .." ، فتعزَّزَ اللعينُ واستَعْلَى على ربِّه، ثمّ أوْحَى إلى أوليائِه مِن الإِنسِ ألّا يُطِيعُوا ربَّهم، وسوَّلَ إليهم أنّ تِلكَ هي الحرّيّة.

فصارَ منهُم مَن يَكشِفُ عَوْرَتَه بِاسمِ الحرّيّةِ الشخصيّةِ، ومَن يَطعَنُ في اللهِ ورسولِه وشريعتِه بِاسمِ حرّيّةِ الرأيِ، ومَن يُشَكِّكُ في ثوابتِ الإيمانِ بِاسمِ حرّيّةِ التفكيرِ والاعتِقاد، ومَن يأتي الذُّكرانَ مِن العالَمين بِاسمِ حُرّيةِ العَلاقاتِ واختيارِ الجِنس.

كُلّمَا دُعُوا إلى اللهِ تعالى لِيُطِيعُوه ويَلتزمُوا شريعتَه تَبَاكَوا على الحرّيّةِ، وإنّما يَتَبَاكَونَ على عبوديةِ اللَّذّاتِ المحرَّمَةِ وطاعةِ الشيطان.

لَقَد جاءَ الإسلامُ لِيُحَرِّرَ العِبَادَ مِن هذه العبوديةِ السّافلةِ المهينةِ إلى عبادَةِ الخالقِ العظيمِ، فلا يرضَى لك اللهُ أنْ تكونَ عَبْدًا لِبَطْنِكَ أو فَرْجِك، أو تكونَ عبدًا للشّياطين، أو إمَّعَةً مُطِيعًا لِأَذواقِ الكافرين، يُرُونَك القبيحَ حسنًا فتَسْتَحْسِنُه مُطيعًا لهم، ويُرُونَكَ الحسنَ قبيحًا فتَسْتَشْنِعُه إذْعَانًا لِرَأيِهِم، بل الذي يرضاه لك اللهُ ألّا تكونَ عبدًا إلا له، لأنّه ربُّك وخالقُك، الذي يريدُ الخيرَ لك، ويحبُّ إيصالَ الهُدى إليك، وهو الجليلُ العظيمُ، والغفورُ الرحيمُ، والجوادُ الكريمُ، مَن له المحَامِدُ كلُّها سبحانه وتعالى.

المشاهدات 555 | التعليقات 0