الحرص على هداية الناس
إبراهيم بن صالح العجلان
1433/06/19 - 2012/05/10 10:21AM
الْحَمْدُ للهِ جَلَّ فِي عُلَاهُ، لَا رَبَّ غَيْرَهُ وَلَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ سِوَاهُ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَفَاضَ مِنْ خَيْرِهِ وَأَبْقَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَا يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَكْرَمَهُ رَبُّهُ وَاجْتَبَاهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ نَلْقَاهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ حَقَّ التَّقْوَى، فَبِتَقْوَى اللهِ تَزْكُو الْأَعْمَالُ وَيَتَتَابَعُ الْإِنْعَامُ وَالْإِفْضَالُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: مَا أَعْذَبَ الْكَلِمَاتِ حِينَمَا تَتَعَطَّرُ بِذِكْرِ الْحَبِيبِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَمَا أَجْمَلَ الْمَجَالِسَ حِينَ تُزَيَّنُ بِأَخْبَارِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَالْحَيَاةُ فِي ظِلَالِهِ حَيَاةٌ، وَأَرْضٌ لَا تَرْتَوِي بِهَدْيِهِ رَمْسٌ وَقَبْرٌ.
لَقَدْ كَانَتْ حَيَاتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ - نَهْجًا وَمَثَلاً لِلْأُمَّةِ بَعْدَهُ؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور: 54]، وَلَا تَزَالُ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا دَامَتْ تَقْتَفِي أَثَرَهُ، وَتَتَحَسَّسُ خُطَاهُ.
نَقِفُ إِخْوَةَ الْإِيمَانِ مَعَ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَانِبٍ عَاشَ لَهُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاذِلاً لَهُ جُهْدَهُ وَوَقْتَهُ وَذِهْنَهُ وَصِحَّتَهُ؛ حَتَّى جَرَى مِنْهُ مَجْرَى الدَّمِ فِي الْعِرْقِ وَالنَّفْسِ فِي الْوَرِيدِ، جَانِبٍ عَلَتْ مِنْ أَجْلِهِ هِمَّتُهُ، وَتَحَسَّرَتْ بِسَبَبِهِ نَفْسُهُ، حَتَّى قَالَ لَهُ رَبُّهُ: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [فاطر: 8] (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف: 6].
إِنَّهُ جَانِبٌ حَرَصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هِدَايَةِ النَّاسِ، وَإِنقْاَذِهِمْ مِنَ النَّارِ، فَتَعَالَوْا مَعَ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ النَّبَوِيَّةِ الْفَرِيدَةِ الَّتِي تُجَلِّي لَنَا الرَّحْمَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ، وَتُبْرِزُ لَنَا الْرَأْفَةَ وَالْحِرْصَ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ جَنْبَيْهِ تُجَاهَ الْآخَرِينَ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
هَا هِيَ دَعْوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَهْدِهَا تَلْقَى مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْرَاضِ وَالْمُعَادَاةِ مَا تَلْقَى، مَاتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمُّهُ وَنَصِيرُهُ، وَنَالَتْ قُرَيْشٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَابَتِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ وَالْإِيذَاءِ شَيْئًا لَا تَحْتَمِلُهُ النُّفُوسُ.
هَنَا بَدَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْحَلَ إِلَى الطَّائِفِ لِيُبْلِغَ ثَقِيفًا كَلِمَةَ اللهِ، وَيَسْتَنْصِرَ بِهِمْ لِنُصْرَةِ دِينِ اللهِ، فَخَرَجَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَرِّ الصَّيْفِ يَسِيرُ بَيْنَ الشِّعَابِ وَالْجِبَالِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى الطَائِفِ.
فَعَرَضَ دَعْوَتَهُ عَلَى زُعَمَائِهِمْ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ كَذَّبُوهُ وَرَدُّوا عَلَيْهِ بِأَقْبَحِ رَدٍّ، عِنْدَهَا طَلَبَ مِنْهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكْتُمُوا عَنْهُ وَلَا يَنْشُرُوا خَبَرَهُ، خَرَجَتْ ثَقِيفٌ مِنْ صَوَابِهَا وَجَرَّأَتْ سُفَهَاءَهَا وَعَبِيدَهَا يَشْتُمُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْا قَدَمَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ.
وَمَضَى الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَارِكًا دِيَارَهُمْ تُلَاحِقُهُ مُظَاهَرَةُ السُّفَهَاءِ خَلْفَهُ صَاخِبَةً نَابِحَةً، حَتَّى آوَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بُسْتَانٍ؛ فَجَعَلَ يُجَفِّفُ الدَّمَ عَنْ عَقِبَيْهِ، قَدْ تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ الغُمُومُ وَالْهُمُومُ.
فَيَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ السَّمَاءِ، وَبَثَّ شِكَايَتَهُ لِرَبِّ الْبَشَرِ، وَابْتَهَلَ إِلَى رَبِّهِ بِهَذِهِ الابْتِهَالَاتِ «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمَرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ».
وَيُبْصِرُ صَاحِبَا الْبُسْتَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَقَّا لِحَالِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَأَرْسَلَا خَادِمًا لَهُمَا نَصْرَانِيًّا بِطَبَقٍ مِنْ عِنَبٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْتِي الْغُلَامُ النَّصْرَانِيُّ وَيَضَعُ الْعِنَبَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَغْمُرُهُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْتِسَامَتِهِ الشَّاكِرَةِ، ثُمَّ قَالَ مَعَ أَكْلِهِ: «بِسْمِ اللهِ».
فَتَعَجَّبَ النَّصْرَانِيُّ مِنْ كَلِمَةِ البَسْمَلَةِ الَّتِي مَا عَرَفَهَا فِي أَرْضِهِ، وَمَعَ هَذِهِ الدَّهْشَةِ وَاللَّحَظَاتِ القَلِيلَةِ الَّتِي وَقَفَ فِيهَا النَّصْرَانِيُّ، وَجَدَهَا الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُرْصَةً لِدَعْوَةِ هَذَا الرَّجُلِ إِلَى الإِسْلاَمِ.
لَقَدْ ذَهَبَتْ غُصَصُ الغُمُومِ وَجَرَعَاتُ الحُزْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ فِي حِوَارٍ هَادِئٍ وَدَعْوَةٍ حَكِيمَةٍ مَعَ الخَادِمِ النَّصْرَانِيِّ، انْتَهَتْ بِدُخُولِ الفَتَى النَّصْرَانِيِّ فِي دِينِ هَذَا الرَّجُلِ العَظِيمِ؛ (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [البقرة: 213].
وَيَمْضِي المُصْطَفَى إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ خَبَرَهُ مَعَ أَهْلِ الطَّائِفِ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَكَيْفَ سَيَدْخُلُ بَلَدَهُ؟ وَكَيْفَ سَيَلْقَى قَوْمَهُ وَلاَ نَصِيرَ لَهُ هُنَاكَ وَلاَ ظَهِيرَ.
فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي قَدْ عَلاَهُ الغَمُّ لَمْ يَفْجَأْهُ إِلاَّ سَحَابَةٌ قَدْ أَظَلَّتْهُ، فَإِذَا هُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وَمَعَهُ رِسَالَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَنَادَاهُ جِبْرِيل: «يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ»، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مَلِكُ الجِبَالِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ»، وَهُمَا جَبَلاَنِ عَظِيمَانِ بِمَكَّةَ، فَقَالَ الرَّؤُوفُ الرَّحيِمُ الحَرِيصُ عَلَى هِدَايَةِ الآخَرِينَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».
وَقَعَ لِلْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَاهُ، وَلَمْ يُخَيِّبِ اللهُ لَهُ مَا رَجَاهُ؛ فَخَرَجَ مِنْ أَصْلابِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قَادَةُ الإِسْلاَمِ وَأَبْطَالُ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ؛ خَرَجَ مِنْ صُلْبِ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ سَيْفُ اللهِ المَسْلُولِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، وَخَرَجَ مِنْ ظَهْرِ العَاصِ بْنِ وَائِلٍ: عَمْرُو بْنُ العَاصِ، وَخَرَجَ مِنْ عَقِبِ أَبِي جَهْلٍ: عِكْرَمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ الَّذِي اسْتُشْهِدَ فِي اليَرْمُوكِ، وَخَرَجَ مِنْ صُلْبِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَصَدَقَ اللهُ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
_ وَمَشْهَدٌ آخَرُ مِنْ مَشَاهِدِ الحِرْصِ النَّبَوِيِّ عَلَى هِدَايَةِ الآخَرِينَ، هَا هُوَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصِلُ سَمْعَهُ أَنَّ ذَاكَ الْفَتَى اليَهُودِيَّ قَدْ زَادَ مَرَضُهُ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ سَقَمُهُ، وَحَانَ فِرَاقُهُ وَلاَحَ عَنِ الدُّنْيَا وَدَاعُهُ، فَأَسْرَعَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - يَزُورُهُ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِلْإِسْلَامِ!
وَيَجْلِسُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ رَأْسِ الغُلاَمِ وَعِنْدَهُ أَبُوهُ المَكْلُومُ، فَجَعَلَ المُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَى الْفَتَى اليَهُودِيِّ نَظَرَ المُشْفِقِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، قُلْ: «أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، تَلَقَّى اليَهُودِيُّ هَذِهِ الكَلِمَاتِ مِنْ مُحَمَّدٍ الَّذِي عَرَفَهُ وَخَبَرَهُ، فَعَرَفَ فِيهِ خُلُقَ الأَنْبِيَاءِ وَشِيَمَ الصَّادِقِينَ.
وَلَكِنْ يَأْبَى الابْنُ إِلاَّ أَنْ يَبْقَى مَأْسُورًا تَحْتَ سُلْطَةِ أَبِيهِ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ طَرَفَهُ نَحْوَ أَبِيهِ كَأَنَّمَا يَنْتَظِرُ مِنْهُ الرَّدَّ، وَظَلَّ الأَبُ اليَهُودِيُّ صَامِتًا سَاكِتًا، وَإِذَا الحَرِيصُ عَلَى هِدَايَةِ البَشَرِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعِيدُ مَقَالَتَهُ السَّابِقَةَ: «أَسْلِمْ»، قُلْ: «أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، وَكَأَنَّمَا يُسَابِقُ المُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَقِي مِنْ لَحَظَاتِ حَيَاةِ اليَهُودِيِّ عِنْدَهَا وَأَمَامَ هَذَا المَوْقِفِ وَهَذَا الصِّدْقِ فِي الإِلْحَاحِ قَالَ اليَهُودِيُّ لابْنِهِ: "أَطِعْ أَبَا القَاسِمَ"!
فَمَا كَادَ الأَبُ يَقُولُ هَاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ إِلاَّ وَكَلِمَاتُ الحَقِّ تَصْدَحُ مِنْ شَفَتَيِ الغُلاَمِ المَجْهُودِ بِالْمَرَضِ، فَنَطَقَ الغُلاَمُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَمَا كَادَ يَسْتَكْمِلُهَا إِلاَّ وَقَدِ اسْتَكْمَلَ مَعَهَا بَقِيَّةَ أَنْفَاسِهِ مِنْ دُنْيَاهُ فَخَرَجَتْ رُوحُهُ إِلَى بَارِيهَا، وَوَدَّعَ دُنْيَاهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ!
أَمَّا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلاَ تَسَلْ عَنْ فَرَحِهِ وَسُرُورِهِ بِهَذِهِ الخَاتِمَةِ، تَهَلَّلَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَعَلاَ مُحَيَّاهُ البِشْرُ الغَامِرُ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللهَ وَيَشْكُرُهُ وَيَقُولُ: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ، الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ»، ثُمَّ قَالَ لِصَحَابَتِهِ: «صَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ».
وَأَمَامَ هَذَا المَنْظَرِ وَالمَشْهَدِ فَإِنَّ المَرْءَ لَيَقَفُ مُتَعَجِّبًا وَحُقَّ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّبَ، وَمُتَسَائِلاً وَحُقَّ لَهُ أَنْ يَتَسَاءَلَ: مَاذَا اسْتَفَادَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فَتًى يَهُودِيٍّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَحْظَتِهِ؟ فَهَذَا الفَتَى لَنْ يَشْهَدَ مَعَهُمْ مَعْرَكَةً، وَلَنْ يَنْصُرَهُمْ فِي قَضِيَّةٍ، وَلَنْ يُكَثِّرَ لَهُمْ جَمْعًا أَوْ يَجْمَعَ لَهُمْ مَالاً!
وَيَزُولُ عَجَبُكَ وَيَتَلاَشَى تَسَاؤُلُكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ هِدَايَةَ النَّاسِ وَاسْتِنْقَاذَهُمْ مِنْ دَرَكَاتِ النَّارِ كَانَتْ قَضِيَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي عَاشَ لَهَا وَارْتَبَطَتْ مَشَاعِرُهُ بِهَا وَأَوْقَفَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا مِنْ أَجْلِهَا، وَصَدَقَ اللهُ تَعَالَى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
وَمَشْهَدٌ آخَرُ يَتَجَلَّى فِيهِ حِرْصُ المُصْطَفَى عَلَى هِدَايَةِ الآخَرِينَ، يَأْتِي شَابٌّ قَدِ امْتَلَأَ نَشَاطًا وَحَيَوِيَّةً إِلَى مَجْلِسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ جُلُوسٌ حَوْلَهُ، لَمْ تَمْنَعْ هَذَا الشَّابَّ مَهَابَةُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الَّذِي أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ المَهَابَةُ أَنْ يَقْصِدَهُ وَيَسْأَلَهُ مَا يُخَفِّفُ مُعَانَاتِهِ مَعَ شَهْوَتِهِ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا!
لَمْ يَتَحَامَلْ صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْمَةَ السُّؤَالِ حَتَّى صَاحُوا بِالرَّجُلِ، وَهَمُّوا أَنْ يَبْطِشُوا بِهِ، وَلَكِنْ مَاذَا صَنَعَ خَيْرُ الخَلْقِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَامَ هَذَا السُّؤَالِ الفَجِّ الجَرِيءِ؟ هَلْ شَتَمَ الرَّجُلَ وَوَبَّخَهُ ، وَعَنَّفَهُ وَبَكَّتَهُ؟ هَلْ أَمَرَ بِهِ فَأُخِذَ قَبْلَ أَنْ يَفِرَّ؟ هَلِ اعْتَبَرَ هَذَا السُّؤَالَ كَلامًا يَسْتَنْقِصُ مَقَامَ النُّبُوَّةِ الشَّرِيفِ؟ كَلاَّ.. كَلاَّ!
لَقَدْ أَسْكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحَابَتَهُ، وَقَالَ: مَهْ دَعُوهُ، دَعُوهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الشَّابِّ، فَقَالَ: «اُدْنُ»، فَدَنَا الشَّابُّ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَاَلَ لَهُ المُوَجِّهُ النَّاصِحُ وَالمُشْفِقُ بِضْعَ كَلِمَاتٍ حَرَّكَتْ فِي الرَّجُلِ مَعَانِيَ الغَيْرَةِ الَّتِي كَانَتْ وَقَّادَةً عِنْدَ العَرَبِ آنَذَاكَ.
قال: «يَا هَذَا أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟»، فَقَالَ الرَّجُلُ: لاَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ»؟! قَالَ: لاَ، قَالَ: «وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ »؟!، قَالَ: لاَ، قَالَ: «وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ..».
وَبَعْدَ هَذَا الحِوَارِ الهَادِئِ وَالنِّقَاشِ المُقْنِعِ عَرَفَ الرَّجُلُ أَنَّ مَا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَقَالَهُ لِرَسُولِ اللهِ خَطِيئَةٌ وَجُرْمٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبِي، فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ الشَّرِيفَةَ عَلَى صَدْرِ الرَّجُلِ وَقَالَ: «اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»، وَمَضَى الشَّابُّ إِلَى حَالِهِ، وَرَمَقَ النَّاسُ سِيرَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ.
كُلُّ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى ثُمَّ بِفَضْلِ التَّوْجِيهِ المُحَمَّدِيِّ وَالإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ المُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى.
أَمَّا بَعْدُ فَيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ: إِنَّ قَضِيَّةَ الحِرْصِ عَلَى هِدَايَةِ النَّاسِ ، وَإِيصَالِ الخَيْرِ لَهُمْ لَيْسَتْ وَقْفًا عَلَى فِئَةٍ دُونَ فِئَةٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَنُوطٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَحْمِلُ نُورَ الإيمَانِ ، وَالحُبِّ لِلْإِسْلامِ، أَنْ يَدُلَّ النَّاسَ عَلَى الخَيْرِ وَالمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ هُوَ، وَأَنْ يُحَذِّرَهُمْ مِنَ المُنْكَرِ وَالخَطَأِ وَإِنْ زَلَّتْ فِيهِ قَدُمُهُ تَارَةً أَوْ تَارَاتٍ.
تَذَكَّرْ أَيُّهَا الأَخُ المُبَارَكُ أَنَّكَ وَإِنْ حَصَلَ مِنْكَ تَقْصِيرٌ فَلاَ تَزَالُ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ الخَيِّرَةِ المُبَارَكَةِ المُصْطَفَاةِ المُخْتَارَةِ، وَالَّتِي مَا اسْتَحَقَّتْ هَذَا الشَّرَفَ وَذَاكَ الوِسَامَ إِلاَّ لِأَنَّهَا تَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُ بِاللهِ.
أَنْتَ أَيُّهَا الأَبُ المُبَارَكُ سُلْطَانٌ فِي مَمْلَكَتِكَ ، فَانْشُرِ الخَيْرَ فِي بَيْتِكَ، وَأَصْلِحْ مَا تَرَاهُ مُعْوَجًّا، وَقَوِّمْ مَا تُبْصِرُهُ خَلَلاً.
أَيُّهَا الأَبُ المُبَارَكُ: أَوْلاَدُكَ وَفَلَذَاتُ أَكْبَادِكَ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِنَصَائِحِكَ وَتَوْجِيهَاتِكَ فَإِذَا لَمْ تَحْرِصْ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَحْرِصُ؟!
إِذَا لَمْ تَنْصَحْ وَلَدَكَ عَلَى تَقْصِيرِهِ فِي وَاجِبَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْ أَهَمِّهَا الصَّلاَةُ، فَمَتَى تَنْصَحُ وَتُرْشِدُ؟! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا...) [التحريم: 6].
ثُمَّ يَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ: كَمْ يَعِيشُ بَيْنَنَا فِي مُجْتَمَعِنَا مَنْ لاَ يَدِينُ بِديِنِ الإِسْلاَمِ، فَهَلْ قَدَّمْنَا لَهُمْ وَاجِبَ الدَّعْوَةِ لِلْإِسْلامِ؟ هَلْ تَحَرَّكَتْ فِينَا أَوَاصِرُ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ فَانْتَشَلْنَاهُمْ مِنْ مُسْتَنْقَعِ الكُفْرِ بِاللهِ؟!
عَجَبًا مِنْ حَالِنَا يَعِيشُ بَيْنَ أَظْهُرِنَا أَعْوَامًا عَدِيدَةً مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْإِسْلاَمِ دِينًا وَمَعَ ذَلِكَ لاَ يَسْمَعُ مِنَّا كَلِمَةً فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَأَيْنَ مَحَبَّةُ الإِسْلاَمِ يَا ابْنَ الإِسْلاَمِ؟!
أَخِي المُبَارَكَ لاَ تَظُنَّ أَنَّ الدَّعْوَةَ لِلدِّينِ تَحْتَاجُ إِلَى لُغَةٍ عَالِيَةٍ وَأُسْلُوبٍ فِي الإِقْنَاعِ، كَلاَّ يَا أَخِي فَرُبَّ كَلِمَةٍ مِنْ لِسَانٍ صَادِقٍ يَفْتَحُ اللهُ بِهَا مَغَالِيقَ القُلُوبِ، وَلَئِنْ يَهْدِي اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ مَبَاهِجِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا.
فَادْعُ يَا عَبْدَ اللهِ إِلَى دِينِ اللهِ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ ، وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ، وَالمُجَادَلَةِ الهَادِئَةِ المُقْنِعَةِ.
ادْعُ يَا عَبْدَ اللهِ إِلَى دِينِ اللهِ بِالخُلُقِ الحَسَنِ ، وَالابْتِسَامَةِ المُشْرِقَةِ ، وَالقُدْوَةِ الحَسَنَةِ.
ادْعُ يَا عَبْدَ اللهِ إِلَى دِينِ اللهِ بِلِسَانِكَ وَمَقَالِكَ، وَمَالِكَ ، وَجَاهِكَ.
فَإِنْ قَعَدْتَ عَنْ هَذِهِ المَعَانِي وَدَنَتْ هِمَّتُكَ عَنْ هَذِهِ المَعَالِي، فَلاَ تُشَوِّهْ إِسْلامَكَ بِسُوءِ فِعْلِكَ وَدَنَاءَةِ خُلُقِكَ.
كُفَّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ وَظُلْمِكِ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَعْمَلَ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا فَهِيَ صَدَقَةٌ تَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ.
عِبَادَ اللهِ صَلُّوا عَلَى الرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ وَالنِّعْمَةِ المُسْدَاةِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ حَقَّ التَّقْوَى، فَبِتَقْوَى اللهِ تَزْكُو الْأَعْمَالُ وَيَتَتَابَعُ الْإِنْعَامُ وَالْإِفْضَالُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: مَا أَعْذَبَ الْكَلِمَاتِ حِينَمَا تَتَعَطَّرُ بِذِكْرِ الْحَبِيبِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَمَا أَجْمَلَ الْمَجَالِسَ حِينَ تُزَيَّنُ بِأَخْبَارِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَالْحَيَاةُ فِي ظِلَالِهِ حَيَاةٌ، وَأَرْضٌ لَا تَرْتَوِي بِهَدْيِهِ رَمْسٌ وَقَبْرٌ.
لَقَدْ كَانَتْ حَيَاتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ - نَهْجًا وَمَثَلاً لِلْأُمَّةِ بَعْدَهُ؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور: 54]، وَلَا تَزَالُ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا دَامَتْ تَقْتَفِي أَثَرَهُ، وَتَتَحَسَّسُ خُطَاهُ.
نَقِفُ إِخْوَةَ الْإِيمَانِ مَعَ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَانِبٍ عَاشَ لَهُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاذِلاً لَهُ جُهْدَهُ وَوَقْتَهُ وَذِهْنَهُ وَصِحَّتَهُ؛ حَتَّى جَرَى مِنْهُ مَجْرَى الدَّمِ فِي الْعِرْقِ وَالنَّفْسِ فِي الْوَرِيدِ، جَانِبٍ عَلَتْ مِنْ أَجْلِهِ هِمَّتُهُ، وَتَحَسَّرَتْ بِسَبَبِهِ نَفْسُهُ، حَتَّى قَالَ لَهُ رَبُّهُ: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [فاطر: 8] (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف: 6].
إِنَّهُ جَانِبٌ حَرَصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هِدَايَةِ النَّاسِ، وَإِنقْاَذِهِمْ مِنَ النَّارِ، فَتَعَالَوْا مَعَ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ النَّبَوِيَّةِ الْفَرِيدَةِ الَّتِي تُجَلِّي لَنَا الرَّحْمَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ، وَتُبْرِزُ لَنَا الْرَأْفَةَ وَالْحِرْصَ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ جَنْبَيْهِ تُجَاهَ الْآخَرِينَ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
هَا هِيَ دَعْوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَهْدِهَا تَلْقَى مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْرَاضِ وَالْمُعَادَاةِ مَا تَلْقَى، مَاتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمُّهُ وَنَصِيرُهُ، وَنَالَتْ قُرَيْشٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَابَتِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ وَالْإِيذَاءِ شَيْئًا لَا تَحْتَمِلُهُ النُّفُوسُ.
هَنَا بَدَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْحَلَ إِلَى الطَّائِفِ لِيُبْلِغَ ثَقِيفًا كَلِمَةَ اللهِ، وَيَسْتَنْصِرَ بِهِمْ لِنُصْرَةِ دِينِ اللهِ، فَخَرَجَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَرِّ الصَّيْفِ يَسِيرُ بَيْنَ الشِّعَابِ وَالْجِبَالِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى الطَائِفِ.
فَعَرَضَ دَعْوَتَهُ عَلَى زُعَمَائِهِمْ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ كَذَّبُوهُ وَرَدُّوا عَلَيْهِ بِأَقْبَحِ رَدٍّ، عِنْدَهَا طَلَبَ مِنْهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكْتُمُوا عَنْهُ وَلَا يَنْشُرُوا خَبَرَهُ، خَرَجَتْ ثَقِيفٌ مِنْ صَوَابِهَا وَجَرَّأَتْ سُفَهَاءَهَا وَعَبِيدَهَا يَشْتُمُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْا قَدَمَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ.
وَمَضَى الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَارِكًا دِيَارَهُمْ تُلَاحِقُهُ مُظَاهَرَةُ السُّفَهَاءِ خَلْفَهُ صَاخِبَةً نَابِحَةً، حَتَّى آوَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بُسْتَانٍ؛ فَجَعَلَ يُجَفِّفُ الدَّمَ عَنْ عَقِبَيْهِ، قَدْ تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ الغُمُومُ وَالْهُمُومُ.
فَيَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ السَّمَاءِ، وَبَثَّ شِكَايَتَهُ لِرَبِّ الْبَشَرِ، وَابْتَهَلَ إِلَى رَبِّهِ بِهَذِهِ الابْتِهَالَاتِ «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمَرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ».
وَيُبْصِرُ صَاحِبَا الْبُسْتَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَقَّا لِحَالِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَأَرْسَلَا خَادِمًا لَهُمَا نَصْرَانِيًّا بِطَبَقٍ مِنْ عِنَبٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْتِي الْغُلَامُ النَّصْرَانِيُّ وَيَضَعُ الْعِنَبَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَغْمُرُهُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْتِسَامَتِهِ الشَّاكِرَةِ، ثُمَّ قَالَ مَعَ أَكْلِهِ: «بِسْمِ اللهِ».
فَتَعَجَّبَ النَّصْرَانِيُّ مِنْ كَلِمَةِ البَسْمَلَةِ الَّتِي مَا عَرَفَهَا فِي أَرْضِهِ، وَمَعَ هَذِهِ الدَّهْشَةِ وَاللَّحَظَاتِ القَلِيلَةِ الَّتِي وَقَفَ فِيهَا النَّصْرَانِيُّ، وَجَدَهَا الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُرْصَةً لِدَعْوَةِ هَذَا الرَّجُلِ إِلَى الإِسْلاَمِ.
لَقَدْ ذَهَبَتْ غُصَصُ الغُمُومِ وَجَرَعَاتُ الحُزْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ فِي حِوَارٍ هَادِئٍ وَدَعْوَةٍ حَكِيمَةٍ مَعَ الخَادِمِ النَّصْرَانِيِّ، انْتَهَتْ بِدُخُولِ الفَتَى النَّصْرَانِيِّ فِي دِينِ هَذَا الرَّجُلِ العَظِيمِ؛ (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [البقرة: 213].
وَيَمْضِي المُصْطَفَى إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ خَبَرَهُ مَعَ أَهْلِ الطَّائِفِ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَكَيْفَ سَيَدْخُلُ بَلَدَهُ؟ وَكَيْفَ سَيَلْقَى قَوْمَهُ وَلاَ نَصِيرَ لَهُ هُنَاكَ وَلاَ ظَهِيرَ.
فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي قَدْ عَلاَهُ الغَمُّ لَمْ يَفْجَأْهُ إِلاَّ سَحَابَةٌ قَدْ أَظَلَّتْهُ، فَإِذَا هُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وَمَعَهُ رِسَالَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَنَادَاهُ جِبْرِيل: «يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ»، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مَلِكُ الجِبَالِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ»، وَهُمَا جَبَلاَنِ عَظِيمَانِ بِمَكَّةَ، فَقَالَ الرَّؤُوفُ الرَّحيِمُ الحَرِيصُ عَلَى هِدَايَةِ الآخَرِينَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».
وَقَعَ لِلْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَاهُ، وَلَمْ يُخَيِّبِ اللهُ لَهُ مَا رَجَاهُ؛ فَخَرَجَ مِنْ أَصْلابِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قَادَةُ الإِسْلاَمِ وَأَبْطَالُ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ؛ خَرَجَ مِنْ صُلْبِ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ سَيْفُ اللهِ المَسْلُولِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، وَخَرَجَ مِنْ ظَهْرِ العَاصِ بْنِ وَائِلٍ: عَمْرُو بْنُ العَاصِ، وَخَرَجَ مِنْ عَقِبِ أَبِي جَهْلٍ: عِكْرَمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ الَّذِي اسْتُشْهِدَ فِي اليَرْمُوكِ، وَخَرَجَ مِنْ صُلْبِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَصَدَقَ اللهُ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
_ وَمَشْهَدٌ آخَرُ مِنْ مَشَاهِدِ الحِرْصِ النَّبَوِيِّ عَلَى هِدَايَةِ الآخَرِينَ، هَا هُوَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصِلُ سَمْعَهُ أَنَّ ذَاكَ الْفَتَى اليَهُودِيَّ قَدْ زَادَ مَرَضُهُ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ سَقَمُهُ، وَحَانَ فِرَاقُهُ وَلاَحَ عَنِ الدُّنْيَا وَدَاعُهُ، فَأَسْرَعَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - يَزُورُهُ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِلْإِسْلَامِ!
وَيَجْلِسُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ رَأْسِ الغُلاَمِ وَعِنْدَهُ أَبُوهُ المَكْلُومُ، فَجَعَلَ المُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَى الْفَتَى اليَهُودِيِّ نَظَرَ المُشْفِقِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، قُلْ: «أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، تَلَقَّى اليَهُودِيُّ هَذِهِ الكَلِمَاتِ مِنْ مُحَمَّدٍ الَّذِي عَرَفَهُ وَخَبَرَهُ، فَعَرَفَ فِيهِ خُلُقَ الأَنْبِيَاءِ وَشِيَمَ الصَّادِقِينَ.
وَلَكِنْ يَأْبَى الابْنُ إِلاَّ أَنْ يَبْقَى مَأْسُورًا تَحْتَ سُلْطَةِ أَبِيهِ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ طَرَفَهُ نَحْوَ أَبِيهِ كَأَنَّمَا يَنْتَظِرُ مِنْهُ الرَّدَّ، وَظَلَّ الأَبُ اليَهُودِيُّ صَامِتًا سَاكِتًا، وَإِذَا الحَرِيصُ عَلَى هِدَايَةِ البَشَرِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعِيدُ مَقَالَتَهُ السَّابِقَةَ: «أَسْلِمْ»، قُلْ: «أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، وَكَأَنَّمَا يُسَابِقُ المُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَقِي مِنْ لَحَظَاتِ حَيَاةِ اليَهُودِيِّ عِنْدَهَا وَأَمَامَ هَذَا المَوْقِفِ وَهَذَا الصِّدْقِ فِي الإِلْحَاحِ قَالَ اليَهُودِيُّ لابْنِهِ: "أَطِعْ أَبَا القَاسِمَ"!
فَمَا كَادَ الأَبُ يَقُولُ هَاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ إِلاَّ وَكَلِمَاتُ الحَقِّ تَصْدَحُ مِنْ شَفَتَيِ الغُلاَمِ المَجْهُودِ بِالْمَرَضِ، فَنَطَقَ الغُلاَمُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَمَا كَادَ يَسْتَكْمِلُهَا إِلاَّ وَقَدِ اسْتَكْمَلَ مَعَهَا بَقِيَّةَ أَنْفَاسِهِ مِنْ دُنْيَاهُ فَخَرَجَتْ رُوحُهُ إِلَى بَارِيهَا، وَوَدَّعَ دُنْيَاهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ!
أَمَّا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلاَ تَسَلْ عَنْ فَرَحِهِ وَسُرُورِهِ بِهَذِهِ الخَاتِمَةِ، تَهَلَّلَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَعَلاَ مُحَيَّاهُ البِشْرُ الغَامِرُ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللهَ وَيَشْكُرُهُ وَيَقُولُ: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ، الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ»، ثُمَّ قَالَ لِصَحَابَتِهِ: «صَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ».
وَأَمَامَ هَذَا المَنْظَرِ وَالمَشْهَدِ فَإِنَّ المَرْءَ لَيَقَفُ مُتَعَجِّبًا وَحُقَّ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّبَ، وَمُتَسَائِلاً وَحُقَّ لَهُ أَنْ يَتَسَاءَلَ: مَاذَا اسْتَفَادَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فَتًى يَهُودِيٍّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَحْظَتِهِ؟ فَهَذَا الفَتَى لَنْ يَشْهَدَ مَعَهُمْ مَعْرَكَةً، وَلَنْ يَنْصُرَهُمْ فِي قَضِيَّةٍ، وَلَنْ يُكَثِّرَ لَهُمْ جَمْعًا أَوْ يَجْمَعَ لَهُمْ مَالاً!
وَيَزُولُ عَجَبُكَ وَيَتَلاَشَى تَسَاؤُلُكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ هِدَايَةَ النَّاسِ وَاسْتِنْقَاذَهُمْ مِنْ دَرَكَاتِ النَّارِ كَانَتْ قَضِيَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي عَاشَ لَهَا وَارْتَبَطَتْ مَشَاعِرُهُ بِهَا وَأَوْقَفَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا مِنْ أَجْلِهَا، وَصَدَقَ اللهُ تَعَالَى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
وَمَشْهَدٌ آخَرُ يَتَجَلَّى فِيهِ حِرْصُ المُصْطَفَى عَلَى هِدَايَةِ الآخَرِينَ، يَأْتِي شَابٌّ قَدِ امْتَلَأَ نَشَاطًا وَحَيَوِيَّةً إِلَى مَجْلِسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ جُلُوسٌ حَوْلَهُ، لَمْ تَمْنَعْ هَذَا الشَّابَّ مَهَابَةُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الَّذِي أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ المَهَابَةُ أَنْ يَقْصِدَهُ وَيَسْأَلَهُ مَا يُخَفِّفُ مُعَانَاتِهِ مَعَ شَهْوَتِهِ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا!
لَمْ يَتَحَامَلْ صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْمَةَ السُّؤَالِ حَتَّى صَاحُوا بِالرَّجُلِ، وَهَمُّوا أَنْ يَبْطِشُوا بِهِ، وَلَكِنْ مَاذَا صَنَعَ خَيْرُ الخَلْقِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَامَ هَذَا السُّؤَالِ الفَجِّ الجَرِيءِ؟ هَلْ شَتَمَ الرَّجُلَ وَوَبَّخَهُ ، وَعَنَّفَهُ وَبَكَّتَهُ؟ هَلْ أَمَرَ بِهِ فَأُخِذَ قَبْلَ أَنْ يَفِرَّ؟ هَلِ اعْتَبَرَ هَذَا السُّؤَالَ كَلامًا يَسْتَنْقِصُ مَقَامَ النُّبُوَّةِ الشَّرِيفِ؟ كَلاَّ.. كَلاَّ!
لَقَدْ أَسْكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحَابَتَهُ، وَقَالَ: مَهْ دَعُوهُ، دَعُوهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الشَّابِّ، فَقَالَ: «اُدْنُ»، فَدَنَا الشَّابُّ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَاَلَ لَهُ المُوَجِّهُ النَّاصِحُ وَالمُشْفِقُ بِضْعَ كَلِمَاتٍ حَرَّكَتْ فِي الرَّجُلِ مَعَانِيَ الغَيْرَةِ الَّتِي كَانَتْ وَقَّادَةً عِنْدَ العَرَبِ آنَذَاكَ.
قال: «يَا هَذَا أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟»، فَقَالَ الرَّجُلُ: لاَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ»؟! قَالَ: لاَ، قَالَ: «وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ »؟!، قَالَ: لاَ، قَالَ: «وَكَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ..».
وَبَعْدَ هَذَا الحِوَارِ الهَادِئِ وَالنِّقَاشِ المُقْنِعِ عَرَفَ الرَّجُلُ أَنَّ مَا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَقَالَهُ لِرَسُولِ اللهِ خَطِيئَةٌ وَجُرْمٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبِي، فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ الشَّرِيفَةَ عَلَى صَدْرِ الرَّجُلِ وَقَالَ: «اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»، وَمَضَى الشَّابُّ إِلَى حَالِهِ، وَرَمَقَ النَّاسُ سِيرَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ.
كُلُّ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى ثُمَّ بِفَضْلِ التَّوْجِيهِ المُحَمَّدِيِّ وَالإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعْدُ فَيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ: إِنَّ قَضِيَّةَ الحِرْصِ عَلَى هِدَايَةِ النَّاسِ ، وَإِيصَالِ الخَيْرِ لَهُمْ لَيْسَتْ وَقْفًا عَلَى فِئَةٍ دُونَ فِئَةٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَنُوطٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَحْمِلُ نُورَ الإيمَانِ ، وَالحُبِّ لِلْإِسْلامِ، أَنْ يَدُلَّ النَّاسَ عَلَى الخَيْرِ وَالمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ هُوَ، وَأَنْ يُحَذِّرَهُمْ مِنَ المُنْكَرِ وَالخَطَأِ وَإِنْ زَلَّتْ فِيهِ قَدُمُهُ تَارَةً أَوْ تَارَاتٍ.
إِذَا لَمْ يَعِظْ فِي النَّاسِ مَنْ هُوَ مُذْنِبٌ = فَمَنْ يَعِظُ العَاصِينَ بَعْدَ مُحَمَّدِ؟!
أَنْتَ أَيُّهَا الأَبُ المُبَارَكُ سُلْطَانٌ فِي مَمْلَكَتِكَ ، فَانْشُرِ الخَيْرَ فِي بَيْتِكَ، وَأَصْلِحْ مَا تَرَاهُ مُعْوَجًّا، وَقَوِّمْ مَا تُبْصِرُهُ خَلَلاً.
أَيُّهَا الأَبُ المُبَارَكُ: أَوْلاَدُكَ وَفَلَذَاتُ أَكْبَادِكَ هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِنَصَائِحِكَ وَتَوْجِيهَاتِكَ فَإِذَا لَمْ تَحْرِصْ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَحْرِصُ؟!
إِذَا لَمْ تَنْصَحْ وَلَدَكَ عَلَى تَقْصِيرِهِ فِي وَاجِبَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْ أَهَمِّهَا الصَّلاَةُ، فَمَتَى تَنْصَحُ وَتُرْشِدُ؟! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا...) [التحريم: 6].
ثُمَّ يَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ: كَمْ يَعِيشُ بَيْنَنَا فِي مُجْتَمَعِنَا مَنْ لاَ يَدِينُ بِديِنِ الإِسْلاَمِ، فَهَلْ قَدَّمْنَا لَهُمْ وَاجِبَ الدَّعْوَةِ لِلْإِسْلامِ؟ هَلْ تَحَرَّكَتْ فِينَا أَوَاصِرُ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ فَانْتَشَلْنَاهُمْ مِنْ مُسْتَنْقَعِ الكُفْرِ بِاللهِ؟!
عَجَبًا مِنْ حَالِنَا يَعِيشُ بَيْنَ أَظْهُرِنَا أَعْوَامًا عَدِيدَةً مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْإِسْلاَمِ دِينًا وَمَعَ ذَلِكَ لاَ يَسْمَعُ مِنَّا كَلِمَةً فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَأَيْنَ مَحَبَّةُ الإِسْلاَمِ يَا ابْنَ الإِسْلاَمِ؟!
أَخِي المُبَارَكَ لاَ تَظُنَّ أَنَّ الدَّعْوَةَ لِلدِّينِ تَحْتَاجُ إِلَى لُغَةٍ عَالِيَةٍ وَأُسْلُوبٍ فِي الإِقْنَاعِ، كَلاَّ يَا أَخِي فَرُبَّ كَلِمَةٍ مِنْ لِسَانٍ صَادِقٍ يَفْتَحُ اللهُ بِهَا مَغَالِيقَ القُلُوبِ، وَلَئِنْ يَهْدِي اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ مَبَاهِجِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا.
فَادْعُ يَا عَبْدَ اللهِ إِلَى دِينِ اللهِ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ ، وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ، وَالمُجَادَلَةِ الهَادِئَةِ المُقْنِعَةِ.
ادْعُ يَا عَبْدَ اللهِ إِلَى دِينِ اللهِ بِالخُلُقِ الحَسَنِ ، وَالابْتِسَامَةِ المُشْرِقَةِ ، وَالقُدْوَةِ الحَسَنَةِ.
ادْعُ يَا عَبْدَ اللهِ إِلَى دِينِ اللهِ بِلِسَانِكَ وَمَقَالِكَ، وَمَالِكَ ، وَجَاهِكَ.
فَإِنْ قَعَدْتَ عَنْ هَذِهِ المَعَانِي وَدَنَتْ هِمَّتُكَ عَنْ هَذِهِ المَعَالِي، فَلاَ تُشَوِّهْ إِسْلامَكَ بِسُوءِ فِعْلِكَ وَدَنَاءَةِ خُلُقِكَ.
كُفَّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ وَظُلْمِكِ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَعْمَلَ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا فَهِيَ صَدَقَةٌ تَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ.
عِبَادَ اللهِ صَلُّوا عَلَى الرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ وَالنِّعْمَةِ المُسْدَاةِ.
محمد بن سامر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فجزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم وجعل ذلك في ميزان حسناتكم.
تعديل التعليق