الحجّ غايات و أهداف

الشيخ محمّد الشّاذلي شلبي
1436/02/22 - 2014/12/14 21:01PM
الحجّ غايات و أهداف
الحمد لله الذي ندبنا إلى حج بيته الحرام، وشوّقنا إليه بالآيات القرآنية وأحاديث سيد الأنام..
أحمده و نشكره تعالى وهو القائل: و أتمّوا الحج و العمرة لله.. ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وهو القائل: إنّ الصفا و المروة من شعائر الله.. و نشهد أنّ سيّدنا محمدا عبدك و رسولك وهو القائل: جهاد الكبير و الضعيف و المرأة الحجّ المبرور.. فاللهم صلّ و سلّم و بارك على محمد بن عبد الله أفضل قانت و أوّاه، و على آله و صحبه و التابعين لهم بإحسان ما عظّم الحاج ربّه بالتكبير و لبّاه..
[font="] أمّا بعد: فيا أيها الذين آمنوا، لقد مكث الرسول صلى الله عليه و يسلم تسع سنين بالمدينة لم يحجّ فيها، و السنة العاشرة من الهجرة أذّن في الناس، و أعلم عشائر العرب المترامية في أرجاء الجزيرة العربية، و نشر الخبر، أنّه صلى الله عليه و سلّم عازم على الحج.. فتوافد المسلمون ليشهدوا أوّل موسم للحج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم، و تجمّع مائة ألف من أصحابه الأخيار الأبرار، و طهّر الحرم من المشركين و من آثارهم.. و تقرّر من تلكم السنة ألن يحجّ البيت مشرك، ولن يدخلها مستقبلا مشرك.. و نقل أصحابه طريقة أداء مناسك الحجّ، و بقيت صفته و أركانه و أحكامه ثابتة في النّفوس ينقلها الأخلاف عن الأسلاف إلى أن بلغتنا.. فجزاهم الله أفضل الجزاء على أمانة التبليغ..[/font]
و أوّل ما ننبّه إليه حجّاجنا، الميامين، أنّ الشرط الأول لقبول كلّ عبادة، و إجزائها، أن تنفّذ تامّة الأركان على الصفة التي أمر بها الحقّ تبارك و تعالى، و أبرزها للوجود سيّد المرسلين صلّى الله عليه و سلّم.. و كثيرا ما نسمع من الجهّل أنّ العبرة بالنيّة، و أنّ الله يقبل برحمته و فضله عن عبيده الأعمال إذا ما أخلصوا النّيّة فقط.. و إنّما الأعمال بالنيّات.. و هذه كلّها من أباطيل الشيطان يجري بها على ألسنة الجهلة لتضليلهم، فما بعث الله نبيّه و ما أظهر على لسانه و بفعله من تشريع إلاّ ليطبّق شرعه، و ينفّذ وحيه.. و كلّ عمل لم يحدث كامل الأركان، كل عمل مختلّ في تنفيذه هو عمل باطل مردود على صاحبه غير مجزئ، و لا مطمع له في ثواب بل إنّه قد عصى ربّه.. فكم من حاج يذهب إلى البقاع المقدّسة طمعا في الثواب، و يعود مثقلا بالذنوب و الآثام، تضاف إلى ما يرزح تحته من أوزار.. إنّ الدّين الإسلامي هو دين يقدّر العلم و المعرفة، و لا يعتبر الجهل مبرّرا، و لن تفيد النيّة الصّالحة إذا لم يصحبها تطبيق لشرع الله.. إنّه على كلّ من عزم على الحجّ أن يستعدّ كما يجب لأداء الركن بمعرفة مناسكه، و طريقة أدائها.. و اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون..
إنّ هذا الدّين عام لجميع البشر، في كلّ ناحية من نواحي الدّنيا، الأبيض، و الأسود، و الأحمر، و الأصفر، و الغنيّ و الفقير، و العالم و الجاهل، و إنّهم ينقلبون بهذه العقيدة وحدة مترابطة، لا يفرّق بينهم تباعد الدّيار، واختلاف الأوطان، وتنوّع اللغات، لماذا ؟.. لأن مناسكه تؤدّى في وقت واحد، و في أمكنة واحدة، وفي مرّة واحدة تتجدد كل عام..
و الحجّ له أهداف و غايات، ذكرها يزيدنا يقينا بأنّ الإسلام دين جاء من عند الله، و أنّه أفضل تنظيم إجتماعي يهدي النّاس إلى ما يساعدهم على تحمّل أعباء أمانة الاستخلاف في الأرض بما يحقّق الخير و الفلاح في تسيير الكون.. ولا سبيل إلى تحقيق ذلك ما لم يتوفّر شرطان جوهريان:
الأول: التلاقي المولّد للتعارف و ما يتبعه من تناصر..
الثاني: أن لا تطغى الأنانية الفردية أو الإنتمائية الضيّقة على هذه النظرة الشاملة للأخوّة الإيمانية، و أن لا تداس بالسّلوك المشبوه.. و الحجّ يمتاز عن بقيّة العبادات بأنّه الضامن لتحقيق الشرطين في آن واحد.. يقول الحق تبارك و تعالى مخاطبا إبراهيم عليه السلام بعد أن فرغ من بناء الكعبة: " و أذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق "، بمعنى أنّه مناسبة ليتطوّر هذا الملتقى الكبير، و تتمّ الإستفادة منه بلقاءات تتطوّر مع تطوّر المفاهيم الحضارية و المدنية لأهله من المؤمنين و المؤمنات.. وهو بعض ما يشير إليه الحقّ تعالى بقوله: " يأتين من كلّ فجّ عميق، ليشهدوا منافع لهم "، و إنّنا لا نرى أيّ تنظيم من التنظيمات الإجتماعية بلغ هذا المبلغ في حثّ أهله على التلاقي حثّا جعله ركنا من أركان البناء الإيماني من ناحية، و رتّب عليه المثوبة، و حذّر من التراخي عن القيام به كما فعل الإسلام.. روى بن مردويه عن علي رضي الله عنه و كرّم وجهه أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قال: " من ملك زادا و راحلة و لم يحج بيت الله فلا يضرّه مات يهوديا أو نصرانيا "، من ذلك قولهتعالى: " ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين "..
إنّه تحضير كبير و تهديد للقادرين المتكاسلين بهذا الركن لما في هذا التراخي و التكاسل من عدم المسارعة إلى تنفيذ الواجبات، و لما يترتّب عليه من ضياع و إهمال لعامل أساسي من عوامل التآخي و الترابط و الوحدة.. و يمكن القول أنّ هذا التجمّع وضع في إطار من نبذ الذّات و حبّ الظهور، و تحصينه من الإذاية.. فما نعلم تشريعا اعتنى بهذه الجوانب كما اعتنى بها الإسلام..
1 ) شرّع للحجّاج سلاما خاصا بهم، و ذكرا واحدا يتردّد على ألسنتهم كلّما لاقى الحاج رفيقه و أخاه، و كلّما صعد أو نزل.. في مسيره و في مبيته.. هذا الذكر هو التلبية بما فيها من إشراق الإخلاص، و جمال القصد، و شفافية التصوّر.. كلّ حاج يقول و يكرّر و يذكّر نفسه و يعمّق شعوره بأنّه ما جاء إلى هذه البقاع إلاّ استجابة لدعوة إبراهيم و طاعة لنداء ربّ السماوات والأرض، و خضوعا لأمره ( لبيّك اللهم لبيّك ) كلّ فرد يذكّر نفسه و أخاه أنّه ما بلغ ذلكم المكان و ما حضر هذا الاجتماع بقوّة ماله ولا بحزم رأيه، ولا باعتبار مركزه الاجتماعي، و إنّما بلغه بفضل الله ( إنّ الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك )..
2 ) إنّ الحجّاج من الرّجال جميعهم يظهرون في مظهر واحد، يترجم البساطة و الجمال و الوحدة.. تزول بفضله الفوارق.. لباس أبيض يتركّب من إزار و رداء..
3 ) مطلوب من كلّ فرد أن يعدّل سلوكه و مواقفه تعديل يساعد على بلوغ أهداف هذا الإجتماع الإيماني الضّخم، من الصّفاء الباطني الرّوحي، و من بحث دقيق لمشاكل العالم الإسلامي في هدوء لا غوغائية و لا صخب معه، قال تعالى: " الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ "..
إنّها أمور ثلاثة كانت و ما تزال سبب الانحراف و إجهاض اللقاءات، إذ تنحرف عن الاتجاه السويّ، فتكون النتائج تبعا لذلك عكسية و سيئة.. هذا ما سنتعرّف عليه في الخطبة الثانية إن شاء الله..
أقول ما تسمعون واستغفر الله العلي العظيم لي و لكم و للمسلمين..

[font="] الثّانية: ثلاثية الإجها[/font]ز
الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا، وأفاض عليهم من سحائب جوده مددا وعونا.. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له.. وأشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله.. اللهم فصلّ و سلّم عليه وعلى آله و صحبه ما نفر لبيت الله حاج، و لا تحرمنا يا ربّنا فرحة النظر إلى نور وجهه الوهّاج..
أمّا بعد: فيا أيّها الذين آمنوا، هذا شهر تنطلق فيه وفود الله إلى حرمه الأمين.. هذا شهر تلتهب فيه الأشواق إلى مهبط الوحي، إلى تلك البقاع التي قدّسها الله برسالاته و أكرمها بنبيّه فكانت له مولدا و مربى.. قلنا بأنّ الرّفث و الفسوق و الجدال، أمور ثلاثة كانت و لا تزال سبب الانحراف و إجهاض اللقاءات، و يمكن أن نستخلص الآتي:
1 ) قضية الجنس: تفكير الرجل في الجنس، و تفكير المرأة كذلك، ففي هذا الجمع الحاشد المختلط من الرجال و النساء، التحصين الأول هو أن كل مشارك ملتزم بقطع التفكير في قضايا الجنس و أحاديث الشهوة.. و أن لا يقوم بأي عمل فيه استجابة لداعيها.. فهو لا ينظر نظر شهوة، و لا يباشر زوجته و لا غيرها، و لا يغمز بعينيه، و لا ينطق بكلمة فيها تورية أو وعد، و لا يعقد زواجه و لا زواج غيره.. كل مشارك يوطّن نفسه على الخلاص من ضغط الغريزة الجنسية أيام الملتقى العام..
2) الاستقامة في السلوك: استقامة تامّة، فلا ينتهك ما حرّمه الله في الحجّ أو في غيره.. ولا فسوق.. و الفسق يكون بالجوارح.. فالعين لها فسقها، و كذلك اليد، و الرّجل و اللّسان، والسّمع، و حتّى القلب.. فاليقظة على تصرّف الجوارح و الحواس و القلب يقظة كاملة، و الرقابة رقابة حازمة من الفرد نفسه، فالإنسان على نفسه بصيرة..
3 ) المهاترات الكلامية و الجدال و الصخب: و محاولة الفرد أن يظهر على غيره بقوّة حجته و وفرة ما أتاه الله من عقل و بيان. فكل جدال محرّم تعلّق بأمر دنيوي أو أمر أخروي..
إنّ من لم يلتزم هذا المنهج هو مرفوض من جماعة الحجّاج،مطرود من هذه الزمرة المباركة التي يباهي ربّ العالمين بها ملائكته.. و من استقام سلوكا و عقيدة، ظاهرا و باطنا، حقّ له أن يسعد بهذه البشارة التي رواها أصحاب الصحيح و اللفظ للبخاري عن أبي هريرة أنّه سمع الرسول صلى الله عليه و سلم يقول: من حجّ لله فلم يرفث و لم يفسق، رجع كيوم ولدته أمّه..
عباد الله، من اشتاق إلى الحج وهو مستطيع فليبادر بالذهاب، و من كان عاجزا فقيرا فلا يكلّف نفسه المشاق و الأتعاب، و من عزم على الرحيل فليستعدّ بما يحتاج إليه من طعام و شراب و مركوب و ثياب، ممتثلا قول الله جل ذكره: " و تزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى و اتقّون يا أولي الألباب ".. و ما ينبغي لعبد يريد الوقوف بذلكم الباب، أن يحتاج إلى أحد من الناس وهو بين يدي ربّ الأرباب، و من وسّع الله عليه رزقه فلا ينبغي له الإعراض و التشاغل عن هذه العبادة التي دعي إليها بآيات الكتاب، و بها يتعارف المسلمون و يتصل بعضهم ببعض ليشهدوا منافع لهم و تتوثّق بينهم روابط الدين و الآداب.. أمّا أنت أيها الفقير فحجّك أن تتوجه إلى الله بالإنابة و تسأله الرزق و المعونة و التوفيق للصواب، و ربّ فقير يريد الحج فلا يستطيع يكتبه الله من الواقفين الفائزين و يعظم له الأجر و الثواب..
اللهم أهدنا بالهدى و نقّنا بالتقوى، اللهم أبسط علينا من بركاتك و رحمتك و فضلك و رزقك.. اللهم إنّا نسألك النعيم المقيم الذي لا يحول و لا يزول أبدا.. يا مالك الملك، يا حيّ يا قيّوم، يا ذا الجلال و الإكرام، يا من فتحت بالباقيات الصالحات لنا جنّاتك، يا من أغلقت برحمتك في وجوهنا أبواب نيرانك.. و آخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين..
المشاهدات 1898 | التعليقات 0