الحج عبادة وأسرار

د مراد باخريصة
1432/12/07 - 2011/11/03 18:56PM
يقول الله سبحانه وتعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}.
الحج فريضة العمر فرضه الله سبحانه وتعالى على المستطيعين من أهل الإسلام الذين يجدون من النفقة ما يوصلهم إلى المسجد الحرام {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله : لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم…)) و((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله ورسوله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) ويقول صلى الله عليه وسلم ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
عباد الله
لقد أمر الله نبيه وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد أن فرغ من بناء البيت أن يؤذن في الناس بالحج فأبلغ الله صوته حين نادى بالحج كل مكان وفُرض الحج من ذلك الزمان وجاءت الجموع ملبية نداء الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وصارت تلك الأرض الجرداء القاحلة التي وصفها الله بقوله " بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ" أصبحت محطاً لأنظار العالمين وأرضاً مباركة تهفوا إليها أفئدة المؤمنين {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}.
تذكروا حجة الوداع يوم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج معه مائة ألف من المسلمين فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة الوداع فانشرح صدره بهذه الجموع الغفيرة والألوف المؤلفة التي لبت النداء وجاءوا رجالاً يمشون على أرجلهم وركبانا فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة جامعة شاملة بيّن فيها حرمة دم المسلم وماله وعرضه وعظم الأمانة وخطر الربا وأوصاهم بالنساء خيراً ثم أشهدهم على ذلك فقال ألا هل بلغت فقال المسلمون نعم فرفع صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء وقال اللهم فاشهد.
وقف صلى الله عليه وسلم في حجته خاضعاً لربه منكسراً بين يدي مولاه مكثراً من الدعاء والتضرع والمناجاة يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه وأرضاه واصفاً حال النبي صلى الله عليه وسلم قال " فبدأ بالحَجَر فاستلمه وفاضت عيناه بالبكاء" صلى الله عليه وسلم .
كأنني برسول الله مرتدياً ملابس الطهر بين الناس كالقمر
نور وعن جانبيه من صحابته فيالقٌ وألوف الناس بالأثر
ملبياً رافعاً كفيه في وجل لله في ثوبِ أوّابٍ ومفتقر
يمضي ينادي خذو عني مناسككم لعل هذا ختام العهد والعمُر
وقام في عرفات الله ممتطياً قصواءه ياله من موقف نضِر
تأمل الموقف الأسمى فما نظرت عيناه إلا لأمواج من البشر
فينحني شاكراً لله منّتَه وفضله من تمام الدين والظفر
يشدو بخطبته العصماء زاكيةً كالشهد كالسلسبيل العذب كالدرر
مجلياً روعة الإسلام في جملٍ من رائع من بديع القول مختصر
داعٍ إلى العدل والتقوى وأن بها تفاضل الناس لا بالجنس والصور
مبيناً أن للإنسان حرمته ممرغاً سيّء العادات بالمدر
يا ليتني كنت بين القوم إذ حضروا مُمَتَّعُ القلب والأسماع والبصر
يا رب لا تحرمنا من شفاعته وحوضه العذب يوم الموقف العَسِرِ
هذه حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم حجت حُجت وأطهر نفس أحرمت وأزكى روح هتفت وأفضل قدم طافت وسعت وأعذب شفة كبرت وهللت وأشرف يد رمت واستلمت وأعظم نفس حجت بقلب خاشع وإحرام طاهر وخلق عظيم صلى الله عليه وسلم.
والله إنه لموقف تتجدد فيه الذكريات وتسكب فيه العبرات ويقضي فيه الحجيج عبادة من أعظم العبادات وقربة من أعظم القربات تجرَّدوا فيه لله من المخيط عند الميقات، وهلَّت دموعُ التّوبة على صعيدِ عرفات، وضجَّت بالافتِقار إلى الله كلّ الأصوات بجميع اللُّغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفةَ للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك زحفاً لرمي الجمرات، والطواف بالبيت العتيق، والسعي بين الصفا والمروة {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.
لقد أقبلوا من كل الجهات والأقطار وفارقوا الأوطان والديار وأنفقوا الدرهم والدينار يرجون رحمة الله والعتق من النار فكلهم يطوفون حول بيت واحد ويفيضون إفاضة واحدة ويلبسون لباساً واحداً " لباس الإحرام" ويلبون تلبية واحدة هي تلبية التوحيد فتملأ المكان وتتطرب الزمان وتتصاعد في إخلاصها إلى الواحد الديان (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ).
عباد الله
إن الحج مؤتمر عظيم وملتقى كبير يجمع أهل الإسلام قاطبة ويفد إليه الحجاج من جميع أنحاء المعمورة بألوان مختلفة وأجناس متعددة وألسن متباينة فيشهدون مهبط الوحي ويستذكرون سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وقبله خليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويشاهدون البيت العتيق والأماكن المقدسة فالواجب عليهم أن يتخذوا من هذا الموسم مؤتمراً للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد الجهود وتبادل المنافع والخبرات والتجارب ليخرجوا الأمة من أمواج الفتن التي تحيط بها وقوى الطغيان والعدوان والاستكبار التي تتحداها {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
الخطبة الثانية
عباد الله
إن العشر الأواخر من رمضان فُضلت بليلة القدر وإن العشر الأولى من شهر ذي الحجة فضلت بيوم عرفة – غداً بإذن الله يوم عرفة – وما أدراك ما يوم عرفة.
عرفات يوم تفطرت فيه القلوب لرب البريات، ما طلعت الشمس على يوم أفضلَ عند الله من يوم عرفة، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ)) إنهم أرادوا رحمتك يا أرحم الراحمين فهم في رحمتك طامعين وفي جودك وإحسانك وعظيم كرمك آملين يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((إذا كان يوم عرفة إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم… فما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة)).
غداً يوم عرفة يجتمع الحجاج جميعاً على صعيد عرفات غداً يمضون إلى جبل عرفات ملبين مكبرين خاضعين متذللين {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
عباد الله
أكثروا غداً بإذن الله من الطاعات وعمل الصالحات فإنه يوم أكمل الله فيه الدين وأتم فيه النعمة ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على جبل عرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
ولئن فاتنا الوقوف بعرفة فلا يفوتنا أبداً أن نصوم يوم الغد وأن نحث أبنائنا ونسائنا وأهلنا على صيامه فإنه والله ليحزننا كثيراً أن نرى أناساً من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يعلمون فضل صيام يوم عرفة ثم لا يصومون فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن صوم يوم عرفة، قال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) رواه مسلم.
المشاهدات 2128 | التعليقات 0