الحج بين غالٍ وجافٍ

أحمد عبدالعزيز الشاوي
1445/11/08 - 2024/05/16 08:06AM

الحمد لله على نعمائه والشكر له على أفضاله وآلائه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وصفاته وأسمائه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صفوة خلقه وسيد أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأوليائه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون وعظموا شعائره، [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ]

وبدأت الأشهر الحرم .. أيام عظمها الله وحرم فيها القتال وعظم فيها الإثم والانحلال ( قتال فيه كبير ) وحذر من ظلم النفوس فيها بارتكاب الذنوب والآثام ( فلاتظلموا فيهن أنفسكم ) فذنب فيها ليس كذنب في غيرها ، كما أن الطاعة فيها تضاعف أكثر من غيرها ، فعظموا ماعظمه الله ، وتجنبوا محارم الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين

وفي هذه الأيام تتزين مكة والبلد الحرام لاستقبال ضيوف الرحمن من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ، وبدأت الرحلة المباركة إلى الديار المباركة، وتتابع وفود الرحمن إلى أطهر مكان في موسم من أعظم المواسم، يرجون تجارة لن تبور.

ومازال في الأمة محرومون تمر الأيام وتتصعب الأمور وهم لم يفكروا بأداء الفريضة والمسارعة لبراءة الذمة وإلى هؤلاء أسوق هذا الموقف لعلهم يذكرون

عثمان مسلم من جامبيا يحدث عن رحلته الطويلة قبل خمسين عاماً إلى البيت العتيق ماشياً على قدميه مع أربعة من أصحابه رحلة استغرقت أكثر من سنتين قاطعين أفريقيا من غربها إلى شرقها لم يركبوا فيها إلا مرات قليلة متقطعة على بعض الدواب، رحلة مليئة بالعجائب والمواقف الغريبة يقول : تذاكرنا ذات يوم قصة إبراهيم الخليل عليه السلام عندما ذهب بأهله إلى واد غير ذي زرع، فقال أحدنا : نحن الآن شباب أصحاء ،أقوياء، فما عذرنا عند الله تعالى إن قصرنا في المسير إلى بيته المحرم خاصة أننا نظن أن الأيام لن تزيدنا إلا ضعفاً فلماذا التأخير .

خرج الخمسة من دورهم وليس معهم إلا قوت لا يكفيهم أكثر من أسبوع والدافع الرئيس لذلك هو تحقيق أمر الله تعالى لهم بحج بيته العتيق وأصابهم في طريقهم من المشقة والضيق والكرب ما الله عليم، فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكوا. وكم من ليلة طاردتهم السباع وفارقهم لذيذ المنام، وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان فقطاع الطرق يعرضون للمسافرين في كل واد. ثم قال عثمان لدغت ذات ليلة في أثناء السفر فأصابتني حمى شديدة وألم عظيم أقعدني وأسهرني وشممت رائحة الموت تسري في عروقي فكان أصحابي يذهبون للعمل وكنت أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار فكان الشيطان يوسوس في صدري : أما كان الأولى أن تبقى في أرضك لماذا تكلف نفسك مالا تطيق، ألم يفرض الله الحج على المستطيع فقط، فثقلت نفسي وكدت أضعف، فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفت إليه ومسحت دمعة غلبتني فكأنه أحس ما بي فقال :قم فتوضأ وصل ولن تجد إلا خيراً بإذن الله وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخاشعين ) فانشرح صدري وأذهب الله عني الحزن .

كان الشوق للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدوهم في كل أحوالهم ويخفف عليهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، مات ثلاثة منهم في الطريق كان أخرهم في عرض البحر، واللطيف أن وصيته لصاحبيه أن قال لهما، إذا وصلتما إلى المسجد الحرام فاخبرا الله تعالى شوقي للقائه وأسألاه أن يجمعني ووالدتي في الجنة مع النبي

قال عثمان ولما مات صاحبنا الثالث نزلني هم شديد وغم عظيم وكان ذلك أشد ما لاقيت في رحلتي، فقد كان أكثرنا صبراً وقوة وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى بيت الله، فكنت أحسب الأيام والساعات على أحر من الجمر.

فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً وخشيت أن أموت قبل أن أصل إلى المسجد الحرام فأوصيت صاحبي أنني إذا مت أن يكفتني في إحرامي ويقربني قدر طاقته إلى مكة .

مكثنا في جدة أيام ثم واصلنا الطريق إلى مكة، كانت أنفاسي تتسارع والبشر يملأ وجهي والشوق يهزني ويشدني إلى أن وصلت إلى المسجد الحرام . قال عثمان وهو يكفكف عبراته، أقسم بالله أني لم أر لذة في حياتي كتلك اللذة التي غمرت قلبي لما رأيت الكعبة المشرفة، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال فما أشرفه من بيت وأعظمه من مكان .

ثم تذكرت أصحابي الذين لم يتيسر لهم الوصول إلى المسجد الحرام فحمدت الله تعالى على نعمته وفضله علي، ثم سألته أن يكتب خطواتهم وألا يحرمهم الأجر والثواب .

قرأت هذه القصة فرددت ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عرضها السموات والأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) .

إقبال جاد على الطاعة، إقبال لا يعرض له التكاسل أو التسويف إقبال تتساقط تحته العراقيل والعقبات إقبال بمهمة صادقة وعزيمة عالية تنبع من قلب متعلق بمحبة الله والامتثال لأمره .

قرأت هذه القصة ثم رددت من قلب آسف على التقصير : ياليت الأصحاء الأقوياء الأغنياء الآمنين يعلمون ولربهم يسارعون وإنك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين

أقول هذا القول ....

 

الخطبة الثانية ... أما بعد :

فالناس تجاه هذه الفريضة العظيمة فريقان

فريق أقعدهم الكسل ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف متعللين بأعذار واهية من غلاء الأسعار وبعد الديار واقعين في شَرَك التسويف ومصيدة الأماني معللين أنفسهم بالحج إذا تيسرت الأمور متناسين أن الأعمار ليست بأيديهم وأن الصوارف تزداد ولا تنقص .. أولئك قوم كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين

يُسوفون ويتباطؤون، و همتهم تقوى وعزيمتهم تنشط حينما تكون الرحلة إلى الصحاري ولو بعدت وإلى القفار ولو نأت ألا فيتذكر أولئك قول النبي صلى الله عليه وسلم من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة

يستكثرون البذل لأداء فريضة وإحياء شعيرة واجبة عاقبتها ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته الأمه والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) لكنهم لايبالون أن ينفقوا الآلاف لشراء جوال ، وأضعافها لنزهة خارج البلاد ،  لايبالي أحدهم أن ينفق بسخاء لترويح أو تسوق أو كماليات لكنه حين يأتي الحديث عن فريضة الحج يبدعون في التنظير عن المعوقات والغلاء وأن الله لايحب المسرفين وأن الحج لمن استطاع إليه سبيلا

أما الفريق الآخر فقوم غرقوا في الشوق لبيت الله والحج للبيت العتيق .. تتحرك مشاعرهم كلما سمعوا صوت تلبية أو شاهدوا صورة حجاج لكنهم غفلوا عن فقه الأولويات وعن المصالح الشرعية فهم لايتركون الحج عاما ولو كان ذلك بتتبع الرخص وارتكاب الحيل واقتراف المحظور الشرعي والنظامي فهم يتحايلون لأداء الفريضة ولو ارتكبوا الحرام وخالفوا النظام

ليس الحج حكاية تروى ولا مغامرات تحكى وإنما شعيرة تتطلب الإخلاص الكامل والتجرد التام لله تعالى. فلا بد من تنقية الحج من كل شوائب الشرك الخفي وهو حب السمعة والتباهي والمراءاة أمام الناس

الحج ليس رحلة للتباهي أو التنزه ولكن رحلة عبودية فمن قام بحقها رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه وكم من جالس فاق منازل الحجيج وكم من قائل : لبيك يقال له لالبيك ولا سعديك وربما بلغ المؤمن بنيته مالم يبلغه بعمله

الحج يتطلب أن تتعلم أحكامه وتستوعب حِكمه وغاياته ، وتتحلى بآدابه فلارفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ،

لابد أن تعلم أن الغاية لاتبرر الوسيلة وأنه لايجوز ارتكاب محظور وحرام لأجل سنة ، فما معنى لحج تتباهى فيه بنجاحك في تجاوز نقاط الأمن بالحيلة ولبس المخيط ، واي معنى لحج تمضي أوقاته بالجدال والخصام والاستجداء مع رجال الأمن وقد عذرك الله فلايكلف الله نفسا إلا وسعها

لقد صدر نظام ينص ألا حج بلا تصريح.. والواجب على من يلتمس رضا الله أن يمتثل للأمر ويطيع ولي الأمر ومن عصا وخالف فقد اكتسب إثما كما نصت على ذلك فتوى هيئة كبار العلماء

يامن فرض في هذا العام حجا : ليكن حجك على بصيرة واستحضر فيه الإخلاص لرب العالمين وليكن زادك فيه التقوى واستشعر وأنت تعد الزاد للسفر وتودع الأهل أن هناك سفراً لا رجعة بعده ولا بد له من زاد كبير وهو التقوى وأن المسافر للدار الآخرة لا يدري متى يكون سفره وكيف يكون مقامه هناك وإن لم تعد من الحج بقلب مليء إيمانا وتقوى وخشية ورجاء وتعظيما لله ولحرماته فما حججت ولكن حجت العير

اللهم صل وسلم ...

المرفقات

1715835994_الحج بين غال وجاف.doc

المشاهدات 865 | التعليقات 0