الحث على النزاهة والأمانة ومحاربة الفساد

الحث على النزاهة والأمانة ومحاربة الفساد 1447/6/14هـ

الحمدُ للهِ على نعمائِه.. والشكرُ له على توفيقِه وعطائِه.. وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له المتفردُ بكبريائِه، أعطى فأجزل ومنحَ فتفَضَّل.. وأشهد أن محمداً عبدُالله ورسولُه صلى الله عليه، وعلى آله وصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً أما بعد أيها الإخو: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ فهي وصيتُه للأولين والآخرين فقد قال: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ..) [النساء:131]. واعلموا أن ديننا قام على الأمانة، وأهم الأمانات أمنة الوحي وتبليغه غضًا طريًا كما نزل، ورسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- أمين الله على وحيه، وقد بلغه كما أراد ربنا من دون تحريف أو زيادة أو نقص، وقد نزل به عليه الروح الأمين (جبريل عليه السلام) قال الله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:193-195].

والأمانة كلُّ ما يُؤتمن عليه الإنسانُ من أموالٍ وحُرَمٍ وأسرارٍ.. ومن أوصاف المؤمنين، وعلامات صلاح المجتمع وصفه بالأمانة سواء بين الأفراد أو الجهات أوبين الأفراد والجهات قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون:8] وكرر هذه الصفة في سورة المعارج وهو يذكر صفات المؤمنين وهذا دليل على لزوم وجوبها على المؤمنين.. ومعنى هذه الصفة، قال عنه الشيخ السعدي -رَحِمَهُ اللهُ-: أي "مراعون لها، ضابطون، حافظون، حريصون على القيام بها وتنفيذها، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق لله، والتي هي حق للعباد.. وقال -رَحِمَهُ اللهُ-: "الأمانات كل ما ائتمن عليه الإنسان وأُمر بالقيام به. وأدائه كاملًا موفُورًا، لا منقوصًا ولا مبخوسًا، ولا ممطولًا به، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار؛ والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله. انتهى بشيء من التصرف. وأمر النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: المسلم بأداء الأمانة لمن ائْتَمَنَه ولو خانه فقال: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، ‌وَلَا ‌تَخُنْ ‌مَنْ ‌خَانَكَ» رواه أبو دواد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصححه الألباني. وهذا التوجيه النبوي الكريم أعظم مانع من انتشار الخيانة وسبب لاستقرار المجتمع..

أيها الإخوة: واعلموا أنه مما يهدد استقرار المجتمعات ونموها وجود فساد إداري أو مالي، وهو من خيانة الأمانة ويُقصد بالفساد الإداري: سوء استخدام السلطة أو الوظيفة العامة لتحقيق منافع شخصية.. ويُقصد بالفساد المالي: استخدام الموارد المالية في القطاع العام أو الخاص بطرق غير نظامية لتحقيق مكاسب غير مشروعة.. ومتى ما تفشى في أي مجتمع من المجتمعات هذا الداء الخطير فإن مرتكبيه يهيلون التراب على وطنهم وأمتهم.. ولقد نهى الله تعالى عن الفساد عمومً فقال تبارك وتعالى (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف:56] والإفساد يكون بعمل المعاصي ومنها الفساد الإداري والمالي، وإِصْلاحُهَا يكون بالطاعات، ذلك أن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق.. قال سبحانه: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [محمد:22] قال الشيخ السعدي -رَحِمَهُ اللهُ-: "أي: فهُما أمران، إما التزام لطاعة الله، وامتثال لأوامره، فثم الخير والرشد والفلاح، وإما إعراض عن ذلك، وتولٍ عن طاعة الله، فما ثم إلا الفساد في الأرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة الأرحام.. ومن الفساد المالي المحرم التعدي على المال العام بأي طريق من الطرق المحرمة، ويُقصد به كل ما تملكه الدولة مما خصص للجهات الحكومية، لتحقيق المنفعة العامة أو لخدمة المجتمع، ويشمل جميع الأموال النقدية والعينية من المباني أو الموارد الطبيعية، والمشروعات العامة، والمستشفيات، والمدارس وغيرها. وصون المال العام واجبٌ ديني..

ومن الفساد المالي المحرم أخذ الرشوة وهي من كبائر الذنوب فَقَد: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: ‌الرَّاشِي ‌وَالْمُرْتَشِي» وفي لفظ: «‌لَعْنَةُ ‌اللَّهِ ‌عَلَى ‌الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي» رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَالرَّاشِي هُوَ الَّذِي يَبْذُلُ الْمَالَ لِيَتَوَصَّلَ إلَى الْبَاطِلِ، وَالْمُرْتَشِي آخِذُ الرِّشْوَةِ، وَهُوَ الْقائم بالعمل، وَاسْتَحَقَّا اللَّعْنَةَ جَمِيعًا؛ لِتَوَصُّلِ الرَّاشِي بِمَالِهِ إلَى الْبَاطِلِ، وَالْمُرْتَشِي لِلْتصرفِ فيما وُكٍلَ إليه بِغَيْرِ الْحَقِّ.. قال شيخنا محمد العثيمين-رَحِمَهُ اللهُ-: "إن لعنةَ اللهِ ورسولِه لا تكون إلا على أمرٍ عظيمٍ، ومنكرٍ كبيرٍ، وإِنَّ الرشوةَ لَمِنْ أَكبَرِ الفَسَادِ في الأرض؛ لأن بها تغييرُ حُكمِ الله، وتضييعُ حقوق عباد الله، وإثباتُ ما هو باطل، ونفيُ ما هو حق، إِنَّ الرِشوةَ فسادٌ في المجتمع، وتضييعٌ للأمانة، وظلمٌ للنفس يظلمُ الراشي نفسَهُ ببذلِ المالِ لنيلِ الباطلِ، ويظلمُ المرتشي نفسَهُ بالْمُحَابَاةِ في أحكامِ الله، يأكلُ كلٌ منهما ما ليس من حقِهِ، ويكتسبُ حرامًا لا ينفعُهُ بل يضره ويمحقُ مالَهُ أو بركةَ مالِهِ إنْ بَقِيَ المالُ" انتهى كلامه. وقد حرص الإسلام على حفظ الأموال العامة والتحذير من التعدي عليها، أو التصرفِ بها بغير طريق مشروع، سواء بالسرقةِ أو السطو أو التحايل أو غير ذلك، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ رِجَالًا ‌يَتَخَوَّضُونَ ‌فِي ‌مَالِ ‌اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.» رواه البخاري عَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-.. ومعني ‌يَتَخَوَّضُونَ أي: أنهم يتصرفون في المال تصرفًا طائشًا غير مبني على أصولٍ شرعية.. والقائمون على المال العام أُمناءُ على حفظِهِ وتحصيلِهِ وصرفِهِ فيما خُصَّصَ له من ولي الأمر.. وعليه لا يحلُ لأحدٍ أن يتعدى عليه، أو يأخذَ منه ما لا يستحق، وقيام بعض المتعدين بالغلول منه بغير طريق مشروع ليس مبررًا لأحد أن يفعل فعله، ولو أبيح ذلك حصل الشر والفساد وعم الظلم والبغي وباء الجميع بإثم الخيانة.. ومن فعل ذلك فله النار يوم القيامة وهذا من كبائر الذنوب.. قال الله محذرًا من الغلول: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [آل عمران:161] والغلول: هو الكتمان من الغنيمة، والخيانة في كل مال يتولاه الإنسان.. وهو من أعظم الذنوب وأشر العيوب. يَأْتِ بِمَا غَلَّ أي: يأت به حامله على ظهره، حيوانا كان أو متاعًا، أو غير ذلك، ليعذب به يوم القيامة.. وقال شيخنا محمد العثيمين-رَحِمَهُ اللهُ-: "فالمهم أن كل من يتصرف تصرفًا غير شرعي في المال -سواء ماله أو مال غيره- فإن له النار -والعياذ بالله- يوم القيامة إلا أن يتوب، فيردَّ المظالمَ إلى أهلها، ويتوب مما يبذل ماله فيه من الحرام"

الخطبة الثانية

أيها الإخوة: وكلما خلى المجتمع من مظاهر الفساد وأساليب الفاسدين.. وجعل العاملون في القطاع العام الخوف من الله في السر والعلن ديدنهم، واستشعروا المسؤولية الملقاة عليهم والأمانة المناطة بهم، واستيقنوا أثر النزاهة في أعاملهم صَلُحَ حالُ المجتمع، وحلت البركة.. قَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-فَأَعْطَانِي، ‌ثُمَّ ‌سَأَلْتُهُ ‌فَأَعْطَانِي، ‌ثُمَّ ‌سَأَلْتُهُ ‌فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: يا حَكِيمُ، إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوةٌ، فمَن أخَذه بطِيبِ نَفسٍ بورِكَ له فيه، ومَن أخَذه بإشرافِ نَفسٍ لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكُلُ ولا يشبَعُ، اليدُ العُليا خيرٌ من اليَدِ السُّفلى.» رواه البخاري واللفظ له ومسلم.. فإذا انتشر هذا الخلق الرفيع في المجتمع، وأخذ الناسُ المالَ بطيبِ نفسٍ، بورك لهم فيه، فتحل البركة بالمجتمع.. وتدوم النعمة ويحل الرخاء المعيشي..

أيها الإخوة: اعلموا أن النزاهة خلقٌ نبوي كريم، والتحلي به طاعةً للهِ سبب لحفَظُ النَّفسَ عن الانحرافِ، وسببٌ لمحبَّةِ اللهِ للعبدِ، ومن ثَمَّ محبَّةُ النَّاسِ له.. وتُبْعِدُ صاحِبَها عن مواطِنِ الشُّبُهاتِ، وفيها سَّلامةٌ للعِرْضِ والدِّينِ، واكتِسابِ الحرامِ.. وانتشارُ النزاهةِ في المجتمع ضمانٌ لحصول العدالة في الحكم والقضاء بين الناس، وتثمر النزاهة أخلاقًا أخرى، كالقناعةِ والوَرَعِ..

ويجب على المسلم أنْ يبلَّغَ عن أي مظهرٍ من مظاهر الفساد، قيامًا بما أمر الله به من إنكار المنكر برفعه لولي الأمر، وردعًا للمعتدين على المال العام، وصونًا للحقوق ودفعًا للضرر عن البلاد والعباد.. وتصديقًا للانتماء الوطني.. وصلوا وسلموا على نبيكم..

 

 

المشاهدات 160 | التعليقات 1

السلام عليكم أعتذر من الإخوة الذين طلبوا الرابط ثم وجدوا الخطبة محذوفة أنا لا أعلم السبب لكني أعدت نشرها مرة أخرى كما هي ولكم الشكر وليت إدارة الموقع تنبينا عن السبب