الحب الصادق للوطن
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، مالكِ يومِ الدِّينِ، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، النبيُّ الأمينُ، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وِصحبِه والتابعينَ وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ؛{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
أيُّها المؤمنونَ: إِنَّ محبةَ الأوطانِ، أمرٌ فطريٌ غريزيٌ، وطبيعةٌ جبلَ اللهُ النفوسَ عليهَا،قالَ تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}[الروم:30]
فحينما يُولدُ الإنسانُ في بلدٍ، وينشأُ ويترعرعُ بين أحضانِه، فيأكلُ من طعامِه ويشربُ من مائِه وينامُ على تُرابِه، ويحيَا بينَ أهلِه وإخوانِه وأصحابِه، فإنَّ فطرتَه ترتبطُ به، فيُحبُّه ويُواليهْ، ويسعي في تحسينِ صورتِه، ورفعِ شأنِه، والذبِّ عنه، ويقفُ طودًا شامخًا أمامَ كلِّ مَنْ يريدُ إيقاعَ الضَّررِ به، فارتباطُ الإنسانِ بوطنِه كامنٌ في كلِّ نفسٍ بشريةٍ، ويتَّضحُ ذلكَ حينما يبتعدُ عنه، فيشعرُ بالحنينِ إليه، وتزدادُ مَحبَّتُه له، والشوقُ إلى الرجوعِ إليه، وأعظمُ ما يُظْهرُ تلكَ المشاعرِ حينمَا يرى تسلْطَ الأعداءِ على بلدِه، فيبادرُ إلى الدفاعِ عنه، والذبِّ عن حياضِه، وإذا كانَ بعيداً عنه يَحزنُ ويتأسَّفُ على عدمِ قُدرتِه في الدِّفاعِ عنه، ويلهجُ لسانُه بالدعاءِ على مَنْ اعتدى عليه.
فإذَا كانَ هذا الوطنُ متمسكًا بشرعِ اللهِ تعالى، مطبِّقًا لسنةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قائمًا بحدودِه، فهذَا هو أغلى الأوطانِ، وأحبُّها إلى نفوسِ المؤمنينَ، وهذا هو الذي تُبذَلُ له النفوسُ والأموالُ.
عبادَ اللهِ: لقد كانَ نبيُّنا محمدٌ ﷺ يُحبُّ مكَّةَ حبًّا شديدًا، وقد نَشَأَ بهَا، وتَرعْرعَ فيها، وعاشَ أوَّلَ أيَامِ عمرِه بين جنباتِها، ونَزَلتْ عليهِ فيها الرسالةُ العظمى، وحينما أَخْرجَه قومُه منها بسببِ دعوتِه لهم إلى توحيدِ اللهِ جلَّ وعلا وتَرْكِ ما يعبدونَ من دونِه، حَزِنَ حُزنًا شديدًا، فقالَ وهو يغادرُها: (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ) رواه الترمذي (3926)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (2724).
وروى ابنُ ماجةَ عن عبدِ اللهِ بن عديِّ بنِ الحمراءِ قال: رأيتُ رسولَ اللهِ ﷺ وهوَ على ناقتِه واقفٌ بالحَزورةِ ـ موضعٌ بمكةَ ـ، يقولُ: (واللهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُّ أرضِ اللهِ إليّ..) ـ وهذا هو الشاهدُ من الحديثِ ـ (..واللهِ لولا أنِّي أُخْرِجْتُ منكِ ما خَرجتُ) رواه ابن ماجه (3108)، وصحح الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2523).
عبادَ اللهِ: إنِّ بلادَنَا وللهِ الحمدُ والمنَّةُ تسيرُ على ما سارَ عليهِ سلفُ هذهِ الأمةِ من توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العبادةِ له، واجتماعِ الكلمةِ، ووحدةِ الصفِّ، وتعملُ على تقويةِ هذا الجانبِ، وتقفُ بحزمٍ وقوةٍ ضدَّ كلِّ من يسعى إلى خلخلةِ الصفِّ وتفريقِ الكلمةِ، وقد أَنَعمَ اللهُ على هذهِ البلادِ فوَّحدَ أهلَها بعد الفُرقةِ، وأطعمهُم بعدَ الجوعِ، وأمَّنهُم بعد الخوفِ، وأصبَحتْ بلادنَا منارًا للعلمِ والمعرفةِ.
واستخلفَ اللهُ عبادَه الموحدينَ فيهَا كما استخَلفَ الذينَ من قبلِهم، ومكَّنَ لهم دينَهم الذي ارتضَى لهم، وأبدلَهم من بعدِ خوفِهم أمنًا، يعبدونَه لا يشركونَ به شيئًا، وفتحَ اللهُ لعبادِه في بلادِنَا خزائنَ الأرضِ لعلهُم يشكرونَ، وانطلقتْ الدعوةُ الصافيةُ للتوحيدِ من هذِه البلادِ المباركةِ إلى مشارقِ الأرضِ ومغاربِها وهذَا كلُّه بفضلِ اللهِ وكرمِه على بلادِ التوحيدِ.
أيُّها المؤمنونَ: إنَّ كلَّ مؤمنٍ ومسلمٍ يَعْرفُ قيمةَ هذا الوطنِ، يَبذلَ قصارى جُهدِه من أجلِ إعلاءِ منزلتِه ورفعِ شأنِه بين سائرِ الأوطانِ، فيكونَ عضوًا صالحًا فيه، وقدوةً حسنةً لغيرِه، ويسعى بجدٍّ واجتهادٍ في إصلاحِ نفسِه وأهلِه ومَنْ حَوْلَه، ويكونَ عاملَ بناءٍ في المجتمعِ، ويحترمُ ما يُصدرُه وليُّ الأمرِ من تنظيماتٍ من أجلِ مصلحةِ النَّاسِ وحفاظاً لهم من الفسادِ والفوضى، ويؤدِّيَ ما عليه من واجباتٍ تجاهَه، ويكونَ أوََّ من يُدافعُ عنه لمنْ يريدُ به الشرَّ والفتنةَ والفسادَ، ويبذلَ كُلَّ جُهده في إعلاءِ شأنِه بين جميعِ الدُّولِ.
بسم الله الرحمن الرحيم: {لإِيلاَفِ قُرَيْش * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْف * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف}[قريش].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالميَن، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمين، محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الكريم، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّ حبَّنا الصادقَ لوطنِنا يظهرُ واضحًا جليًّا فيمَا يقومُ به كلُّ واحدٍ منَّا منْ بذلٍ وعطاءٍ، وجُهدٍ وبناءٍ، واحترامٍ للأنظمةِ الموضوعةِ لحفظِ الأمنِ، ونَشرِ العدلِ، فبلادُنا وللهِ الحمدُ والمنَّةُ تَستحقُّ منَّا كلَّ حبٍّ وحرصٍ على ما ينفعُها، ويردُّ عنها ما يؤدي إلى الإضرارِ بها.
والمواطنةُ الحقَّةُ هي التي يَتَحقَّقُ من خلالِهَا حِفظُ مقدَّراتِ ومُكتسباتِ البلادِ والمساهمةُ الفاعلةُ في البناءِ والنَّماءِ، والدفاعِ عن الوطنِ بكلِّ وسيلةٍ متاحةٍ.
فاحمدُوا اللهَ على نِعمةِ التَّوحيدِ، واشكروهُ على نِعمةِ اجتماعِ الكلمةِ ووحدةِ الصفِّ، وكُونُوا يدًا واحدةً مع ولاةِ الأمورِ في السَّمع ِوالطَّاعةِ وحفظِ أمنِ هذا الوطن الغالي، وإبعادِ كلِّ شرٍّ عنهَ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والنبيِّ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56]
الجمعة: 1443/2/17هـ