الحادي الشفيق إلى بيت الله العتيق 21/10/1439هـ
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
خطبة بعنوان: الحادي الشفيق إلى بيت الله العتيق 21/10/1439هـ
كتبها/ زياد الريسي - مدير لإدارة العلمية
مختارة:
وأصغيت له حتى الأجنة في الأصلاب والأرحام؛ فأقبلت وفود المشتاقين وهرعت فئام المحبين من كل فج عميق راكبين وراجلين؛ استجابة لتلك الدعوة المباركة وتلبية لذلك النداء العظيم؛ تعلوا أصواتهم بالتلبية لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك...
الخطبة الأولى:
عباد الله: اتقوا الله معز من أطاعه ومكرم من خشاه، والصلاة والسلام على خير رسول أرسله وأفضل نبي اجتباه، وعلى آله وصحبه وكل من سار على نهجه واهتدى بهداه؛ وبعد:
أيها المسلمون: لقد كان في علم الله السابق وما كتبه في لوحه المحفوظ تقديره على هذه الأمة أن جعل أعمارها قصيرة لا تزيد عن الستين أو السبعين وقل من يتجاوزها؛ فقد ورد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعمارُ أمتي ما بينَ الستِّينَ إلى السبعينَ وأقلُّهم من يجوزُ ذلِكَ"(الألباني صحيح الترمذي).
إلا إنه مع هذا القَدَر المكتوب تفضل علينا الخبير اللطيف بمواسم خير زمانية فاضلة كرمضان وعشر ذي الحجة وغيرها؛ كما في قول النبي –عليه الصلاة والسلام- "ما من أيامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فيها أفضلُ من أيامِ العشرِ" قيل: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: "ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ، وأُهْرِيقَ دَمُهُ"(الألباني صحيح الترغيب ١١٤٩ ابن مسعود رضي الله عنه).
وخصنا بمواطن فضل مكانية شريفة كمكة والمدينة وغيرها؛ كما في قوله: "صلاةٌ في مَسْجِدِي أفضلُ من ألفِ صلاةٍ فِيما سِواهُ إلا المسجِدَ الحرامَ، وصلاةٌ في المسْجِدِ الحرامِ أفضلُ من مِائةِ ألفِ صلاةٍ فِيما سِواهُ"(الألباني صحيح الجامع ٣٨٣٨ جابر بن عبدالله رضي الله عنه).
وكرمنا بأحوال خاصة مباركة كحال الإحرام وحال الطهارة وغيرها؛ وفي كل هذه الأحوال ونظرائها تعظم الحسنات وتتضاعف الأعطيات وفيها تتنزل الرحمات وتوهب المكرمات؛ فيا لغنائم تلك المواسم ويا لكرائم تلك الأماكن! فأين الطامعون في فضله والمتعرضون لكرمه؟!
عباد الله: ولا يكاد يمضي موسم من هذه المواسم الإيمانية والمحطات الروحانية إلا ويعقبه آخر يكون فرصة لاجتهاد الراغبين ومنحة لهمة الطالبين؛ يتعرضون فيه لنفحاته ويتلمسون لأعطياته؛ فعن عمر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، وفد الله، دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم"(الصحيحة 1820)، وفيها -أيضا- يعوضون ما نقص من تكاليف ويسدون ما وقع من خلل ويتجاوزون فيما مضى من أعمارهم ما كان من زلل؛ "من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه"(مسلم ١٣٥٠)؛ فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر..
وموسمنا القابل -يا مسلمون- موسم الحج إلى بيت الله العتيق هو من تلك المنح الربانية وواحد من تلك العطايا الإلهية التي شرعها الله مرة في العمر تيسيرا منه على عباده؛ قال الله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97]، ورغب فيها في كل عام تفضلا منه على أحبابه؛ قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبدالله بن عباس وغيره: "تابِعُوا بين الحجِّ والعمرةِ، فإنهما ينفيانِ الفقرَ والذنوبَ كما ينفِي الكيرُ خبثَ الحديدِ"(الألباني الصحيحة إسناده صحيح على شرط مسلم).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال عليه الصلاة والسلام: "العمْرَةُ إلى العُمرَةِ، كفَّارةٌ لما بينَهُما، والحجُّ المبرورُ، ليسَ لَه جَزاءٌ إلَّا الجنَّةِ"(البخاري (١٧٧٣)، ومسلم (١٣٤٩).
ومنذ الأمر الرباني لخليله إبراهيم بأن ينادي في الناس؛ كما في قوله سبحانه: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج: 27]؛ ذلك أن إبراهيمَ -عليْهِ السلامُ- لما فرغَ من بناءِ البيتِ قيلَ له: "أذِّنْ في الناسِ بالحجِّ، قال: ربِّ وما يبلغُ صَوْتي؟ قال: أذِّنْ وعليَّ البلاغُ؛ قال فنادى إبراهيمُ: يا أيُّها الناسُ كُتِبَ عليكُمُ الحجُّ إلى البيتِ العتيقِ، فسمِعَهُ من بينَ السماءِ والأرضِ، أفلا ترونَ أن الناسَ يَجيئونَ مِن أَقصى الأرضِ يُلبونَ"(ذكره ابن عباس فتح الباري لابن حجر).
نعم؛ لقد سمع ذلك النداء كل شيء من إنس وجان وحيوان وشجر وأصغيت له حتى الأجنة في الأصلاب والأرحام؛ فأقبلت وفود المشتاقين وهرعت فئام المحبين من كل فج عميق راكبين وراجلين؛ استجابة لتلك الدعوة المباركة وتلبية لذلك النداء العظيم؛ تعلوا أصواتهم بالتلبية لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.. (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)، و (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
أيها المسلمون: ومن تلك اللحظة ما من عبد من أهل الإسلام إلا ويحن لرؤية ذلك البيت العتيق ويشتاق لزيارة تلك البقاع الطاهرة يتنقل بين مشاعرها المقدسة ويؤدي مناسكها المشروعة ويرغب في جوارها المحببة؛ تلبية لدعاء إبراهيم الخليل؛ (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[إبراهيم: 37].
وهاهم الناس يقصدونها من شتى البقاع ويفدون إليها من كل الأقطار على مر السنين على ما يعتريهم من مشاق وما يرافقهم من عناء؛ لكن شوقهم لها وحنينهم إليها خفف عليهم ذلك؛ قيل لامرأة خرجت مسافرة: إلى أين؟ قالت: إلى الحج إن شاء الله، فقيل لها: إنَّ الطريق بعيد، فقالت: بعيد على كسلان أو ذي ملالة، فأمَّا على المشتاق فهو قريب، لسان حالهم:
يا راحلين إلى منى بقيادي *** هيجتمُ يوم الرحيل فؤادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتي *** الشوق أقلقني وصوت الحادي
ولا غرابة أن ينسيهم الشوق وعثاء سفرهم ومشقة بعدهم؛ فقد روى لنا التاريخ شوق مثل هؤلاء؛ فعن بعض الصالحات أنَّها حين وصلت إلى مكَّة بقيت تقول لرفقائها: أروني بيت ربِّي؟ أين بيت ربِّي؟ قيل لها: الآن ترينه، فلمَّا رأته اشتدَّت نحوه فالتزمته وفاضت عيناها من شدَّة الشوق، وليس بها الشوق إلى البيت، ولكن إلى ربَّ البيت، فاستذكرتها رؤية بيت الله رؤيةَ الله يوم القيامة، فلم تزل على تلك الحال حتَّى خرجت روحها فماتت.
ولا زال المشتاقون -يا عباد الله- رغم ظروف بعضهم الصعبة وإمكانياتهم الشحيحة وأوطانهم البعيدة ورحلاتهم الشاقة؛ (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)؛ يعدون أنفسهم ويجمعون زادهم من سنوات وربما من عشرات السنين حتى يحجون بيت الله الحرام شوقا إليه ورغبه فيه وربما -أيها الأخوة- لم يتحقق لأحدهم ذلك المقصد الشريف وينال بغيته الكريمة إلا وقد جاوز بعضهم السبعينات، ولعلكم تشاهدون بعض كبار السن من بعض البلدان يفدون البيت وهم على العصي شابت لحاهم واحدودبت ظهورهم ما منعهم ذلك أن يحجوا؛ فاسألوهم كيف حجوا وسينطقون العجب!.
عباد الله: وفي هذه الأيام؛ وتلبيه لأمر الجليل ونداء الخليل تتطلع نفوس وتحن أفئدة وتشتاق قلوب وتذرف دموع لزيارة تلك المشاعر المقدسة والبقاع الطاهرة والمباركة التي حباها الله -تعالى- وشرفها بما لم يشرف غيرها؛ فجعلها مستقراً للقلوب ومأوى الأفئدة وموئلاً للنفوس مع حضرة الملك القدوس -نرجو الله أن نكون وإياكم منهم-.
والسؤال المهم كيف يصبر الكثير من المسلمين رجالا ونساء عن هذه الفريضة الفاضلة والشعيرة العظيمة؛ وهم يعيشون قربا وأمنا ويملكون راحلة وزادا ويجدون صحة وعافية ويلمسون يسرا وخدمات قدمتها هذه الدولة المباركة حرسها الله من كيد الخائنين؟!
أما يخشى هؤلاء مرضا يقعدهم أو ظروفا ملمة تعيقهم أو الموت وهو شر غائب ينتظر يقطعهم، وإذا قطعهم وهم على هذه الحال من اليسر والإمكانية وقد وجب الحج في حقهم وصاروا فيه ممن استطاع إليه سبيلا؛ ما هو عذرهم عند الله يوم يسألهم عن تفريطهم في هذا الركن العظيم؟! روى ابن عبَّاس، عن الفضل أو أحَدِهما عن الآخر -رضي الله عنهم- أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "مَن أراد الحجَّ فليتعجَّل؛ فإنَّه قد يَمْرض المريض، وتضلُّ الضالَّة، وتَعْرض الحاجة".
عباد الله: أي قلوب يملكها هؤلاء؟! وأي شعور وأحاسيس يحملونها؟! أولئك الذين لم يحجوا أو لم يحدثوا أنفسهم بالحج على ما هم عليه من الخير واليسر! أما يخشى هؤلاء أن يهجم عليهم الموت فيحيل بينهم وبين هذا الفرض العظيم؛ ألم يقرؤوا قول الله؛ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)؟!.
نسأل الله السلامة والعافية؛ قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد الله ... وبعد:
عباد الله: لا غرابة أن يحدونا الشوق إلى بيت الله العتيق وأن يسوقنا الحنين بالفطرة والشرع والرغبة إلى تلك الديار المقدسة! ومن دواعي ذلك الشوق إليها أمور منها:
أن حجها ركن من أركان الإسلام لا يقوم إسلام المرء إلا به كما في الأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على ذلك.
أنه أول بيت لله في الأرض جعل فيه البركة وفيه الهدى؛ قال الله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)[آل عمران: 96]، وهو حرمه الآمن وأفضل البقاع وأشرف الأماكن وأطهرها؛ البيت الذي وضعت قواعده الملائكة الأطهار وأرسى قواعده آدام -عليه السلام- ورفعها خليل الرحمان وحجه أنبياء الله ورسله؛ "لقد مرَّ بالرَّوحاءِ سبعون نبيًّا، فيهم نبيُّ اللهِ موسى، حفاةً، عليهم العِباءُ، يَؤمُّون بيتَ اللهِ العتيقَ"(عن أبي موسى الأشعري الألباني صحيح الترغيب ١١٢٨).
لما يفيض الرب فيه عليهم من رحماته ويمنحهم عنده من عطاياه وهباته؛ فكم يضاعف أجرا ويغفر زلة ويقيل عثرة ويجيب دعوة ويستر عيبا ويرفع ضرا ويجيب مضطرا ويكشف سواء!.
لما يلمس العباد فيه من الأنس والسكينة والطمأنينة والراحة، كما يجدونه ملجأ يذرفون فيه دموعهم ويسكبون عبراتهم ومتنفسا لآهاتهم وبث شكواهم ورجاء آمالهم؛ قال الله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)[البقرة: 125].
لأنها قبلتهم التي يقصدونها في صلاتهم ويتوجهون إليها في دعائهم ونجواهم؛ (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)[البقرة: 144]؛ فمن الطبيعي أن تهواه أفئدتهم وتتعلق به قلوبهم؛ فتطير شوقا وحبا لزيارتها وتمتيع النظر إليها وتقبيل حجرها واستلام ركنها والشرب من زمزمها والصلاة بجوارها.
فاللهمَّ لا تحرمنا لذة الوصال بك ولا خشوع الخائفين منك ولا رجاء الطامعين فيك دوافع الشوق والحنين ما إن تهل نسائم الحج حتى تهفو القلوب إليها.. وتجيش الصدور بها.. حنيناً إلى زيارة بيت الله العتيق.. وشوقاً إلى رضوان رب العالمين.
رابط الخطبة في صفحة الخطيب في الموقع
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/307776
المرفقات
الشفيق-إلى-بيت-الله-العتيق
الشفيق-إلى-بيت-الله-العتيق
الشفيق-إلى-بيت-الله-العتيق
المشاهدات 1835 | التعليقات 2
ترفع للمناسبة كتب الله أجر الجميع
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
تناسب لهذه الأيام
تعديل التعليق