الجنة في رمضان
أمير محمد محمد المدري
الجنة في رمضان
الحمد لله مُدبّر الليالي والأيام، ومصرِّف الشهور والأعوام، الملك القدوس السلام، المتفرِّد بالعظمة والبقاء والدوام، الْمُتَنَزِّه عن النقائص ومشابهة الأنام، يرى ما في داخل العروق وبواطن العظام، ويسمع خفي الصوت ولطيف الكلام، إلهٌ رحيم كثير الإنعام، وربٌ قدير شديد الانتقام، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي لا تحيط به العقول والأوهام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الأنام، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر السابق إلى الإسلام، وعلى عمر الذي إذا رآه الشيطان هام، وعلى عثمان الذي جهز بماله جيش العسرة وأقام، وعلى علي البحر الخضم والأسد الضرغام، وعلى سائر آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان على الدوام، وسلم تسليماً.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله سبحانه، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].
عباد الله: إن العاقبة للمتقين: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 100].
أيها المسلمون، إنكم في شهر لا يُشبهُه شهر، عظيم الأمر، جليلُ القدر، هو من أشرف أوقات الدهر، فضائله لا تُحصى، ومحامده لا تُستقصى، موسمٌ وافرُ الأرباح لمن اتَّجر، فالأجور فيه مضاعفة والدعاء مسموع والخير مجموع والشر مدفوع.
طوبى لعبدٍ صح فيه صيامه
ودعا المهيمن بكرة وأصيلا
وبليله قد قام يختم ورده
متبتلاً لإلهه تبتيلا
أيها المسلمون، لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى منه شطره، واكتمل منه بدره، فاغتنموا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، وادخلوا قبل أن يُغلق الباب، واجتهدوا في الطاعة قبل انقضائه، فساعاته تذهب، وأوقاته تُنهب، ويوشك الضيف أن يرتحل، فأحسنوا فيما بقي، يُغفر لكم ما مضى، فإن أسأتم فيما بقي أُخذتم بما مضى وبما بقي.
عبد الله: تعامل مع رمضان على أنه آخر شهر في حياتك وسيأتي رمضان القادم وأنت في عداد الموتى فبادر قبل الندم وسارع في الطاعات قبل حلول الأجل.
عباد الله: بأمر ٍمن الله تُفتح أبواب الجنان في رمضان. بأمرٍ من الله تتزين الجنة للمؤمنين من أهل الصيام والقيام. بأمر ٍمن الله تتزين الحور العين لخطابها من أولياء الله الصالحين.
لا إله إلا الله فُتحت أبواب الجنة أُقسم بالله: محروم ومخذول، من يُفتح له الله أبواب الجنة ولا يسابق الأنفاس، ليدخل أبوابها محروم.
عباد الله: ألا تشتاقون للجنة وقد فُتحت أبوابها، ألا تشتاقون للجنة ونعيمها وظلالها.
ألا تجدون ريح الجنة وعبقها ونسيمها؟ وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين سنة وفي رواية سبعين سنة.
لكن المسافة عباد الله تقترب والرائحة تدنو كلما ارتفع الإيمان وسمت النفوس بطاعة الكريم العلام جل جلاله.
ومن عجبٍ أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا حتى يصل بهم الحال إن قُتل أحدهم في سبيل الله يقول في لحظة فراقه للدنيا: «فُزت ورب الكعبة». إنه الفوز بالشهادة لدخول دار الكرامة، بل يصل الأمر ببعضهم أن يشم رائحة الجنة ويأتيه من روحها ونسيمها وهو في هذه الدار كما حدث لأنس بن النضر ا في أُحدٍ عندما قال لسعد بن معاذ رضي الله عنه: «إني لأجد ريح الجنة دون أحد فقاتل حتى قتل».. قال سعد: فوجدنا به بضعاً وثمانية ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قُتل ومثّل به المشركون فشوهوا جسده، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. وفيه وفي أمثاله نزل قوله تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].
ومنهم سعد بن الربيع ابعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت يُقرئه السلام فوجده في آخر رمق وفيه سبعون ضربة فقال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول كيف تجدك قال: «وعلى رسول الله السلام قل له إني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار لا عُذر لكم عند الله إن خلُص إلى رسول الله وفيكم عينٌ تطرف» ثم فاضت نفسه.
عباد الله: إن أشرف الساعات، وأنفس اللحظات في تاريخ العبد المؤمن، تلك اللحظة التي يتناول فيها كتابه بيمينه: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 19 - 21]، ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق: 7 - 9].
تكاد تخرج روحه من بين أضلعه فرحاً إنه كتابٌ من عزيزٍ رحيم - سبحانه - ذي الجبروت والملكوت والإجلال والإكرام.
فتُفتح لهم أبواب الجنة: ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾ [ص: 50] وعددها ثمانية، فإن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، وإن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان.
وقد يُدعى العبد الصالح المحسن من تلك الأبواب كلها، ومقدار ما بين مصراعي باب الجنة أربعون سنة، قال عتبة بن غزوان: « وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام كما ذكر له » [أخرجه مسلم: كتاب الزهد، والرقائق، حديث (2967)].
وإن سألت عن زُمَر أهل الجنة، أي الذين يدخلون الجنة أول الناس، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زُمْرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة».
أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر: لقد أخبر الصادق المصدوق: أن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك: «أن أم الربيع بنت البراء أتت رسول الله فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غَرَبَ، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء، قال: «يا أم حارثة إنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴾ [الواقعة: 10] هناك من سبق، هناك من وصل، هناك من بُشر بالجنة وهو على الأرض يمشي: ﴿ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [الواقعة: 11، 12] السابقون بجمع المال، أم السابقون بالشهوات، أم السابقون بالطعام والشراب؟ لا وربي، بل السابقون بقيام الليل، بالصلوات الخمس، بصلاة الفجر في الجماعات، السابقون بذكر الله.
يمشي النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فإذا به يقول للصحابة: « سبق المفردون، قالوا: من المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات » [رواه مسلم ح (2676).]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة » فأين الذاكرون؟ النخلة في الدنيا يزرعها الإنسان شهوراً، ويتعب عليها شهوراً؛ لأجل أن يحصل على شيء من ثمارها وربما لا يحصل، أمّا في الجنة فما من شجرة إلا وساقها ذهب، ونخلة بالجنة لا تريد منك إلا ثواني معدودة، من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة » الله أكبر!
كم تنتظر في الدنيا لأجل بيت من البيوت، أو شُقّة تسكنها؟ كم تجمع، وكم تتعب، وكم تنصب، ولا بد منها، هذه متطلبات الدنيا والحياة، أما بيوت الجنة؛ فلبنة من ذهب ولبنة من فضة لا كذهب الدنيا وفضتها، وملاطها ممسوحة بالمسك، الله أكبر!
ما راحتها، ما جمالها، ما منظرها؟ إنه ذهب وفضة ومسك كيف تحصل على بيت في الجنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: « من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] عشر مرات بني له قصرٌ في الجنة »، كم مرّة فعلتها اليوم؟ كم مرة صنعتها اليوم؟
أرأيت كم نحن مُفرّطون في الأجور والحسنات، وكم ضيّعنا من الأوقات، وكم ضيّعنا من الأعمار؟
إن بعض الناس لا يحلو له في سيارته من بيته إلى العمل، أو في أي مشوار إلا أن يضع أشرطة الأغاني والطرب والموسيقى، ولو استغل هذه الأوقات بذكر الله، وبقراءة القرآن، وباستماع الدروس والمواعظ، لكم قد بُنيت له بيوت وبيوت في الجنة، وغُرست له أشجار وأشجار في الجنة، ولكن: ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ [الزمر: 56].
إنها الجنة يا عباد الله التي غرس غراسها الرحمن بيده.
إنها الجنة التي لا يُسأل بوجه الله العظيم غيرها.
إنها الجنة دار كرامة الرحمن فهل من مشمر لها.
إنها الجنة فاعمل لها بقدر مقامك فيها.
إنها الجنة فاعمل لها بقدر شوقك إليها....
نعم إنها الجنة التي فُتحت أبوابها هذه الأيام ولكن يا عجباً لها كيف نام طالبها، وكيف لم يدفع مهرها في رمضان خاطبها، وكيف يطيب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها، إنها الجنة، دار الموقنين بوعد الله، المتهجدين في ليالي رمضان، الصائمين نهاره، المطعمين لعباد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قالوا لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطعم الطعام وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» [أخرجه أحمد (2 /173)، والطبراني في الكبير وصححه الحاكم].
إنها الجنة ما حُلّيت لأمة من الأمم، مثلما حُلّيت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن نبي الله موسى عليه السلام خدم العبد الصالح عشر سنوات، مهراً لزواجه من ابنته. فكم تخدم أنت مولاك لأجل بنات الجنان الحور الحسان.
إن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل، وهم حُرّاسها، فيا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الله في الدار الآخرة، ويا ذِلة الراجعين بالصفقة الخاسرة قال الله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23].
لهذا حض النبي عليه الصلاة والسلام أمته على العمل الصالح، فوصف لهم الجنة جلاّها لهم ليخطبوها فقال: «ألا من مشمر للجنة؟ فإنها ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانه تهتز، وزوجة حسناء، وفاكهة نضيجة، وقصر مشيد نهر مطّرد، فقال الصحابة: يا رسول الله نحن المشمرون لها فقال: قولوا إن شاء الله».
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد.. عبد الله:
إنها الجنة إن سألت عن أرضها وتربتها: فالمسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها: فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن بلاطها فهو المسك الأظفر، وإن سألت عن حصبائها: فهو اللؤلؤ والجوهر، وإن سألت عن بنائها: فلبنة من فضة، ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أشجارها: فما فيها من شجرة إلا وساقها من ذهب وفضة لا من الحطب والخشب. وإن سألت عن ثمارها: كأمثال القلال ألين من الزبد، وأحلى من العسل، وإن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحلل، وإن سألت عن آنيتهم: فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير. وإن سألت عن سعتها: فأدنى أهلها من يسير في ملكه وقصوره وسرره وبساتينه مسيرة ألفي عام. وإن سألت عن خيامها وقبابها: فالخيمة الواحدة من درة مجوّفة طولاها ستون ميلاً من تلك الخيام. وإن سألت عن عرائسهم: فهن الكواعب الأتراب الآتي جرى في أغصانهن ماء الشباب، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود، وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ المنظوم ما حوته الثغور، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت ويضيء القمر من بين ثناياها إذا ابتسمت.
حُمْر الخدود ثغورهن لآلئٌ
سُودُ العيون فواتر الأجفان
والبرق يبدو حين يبسم ثغرها
فيضيء سقف القصر بالجدران
ولقد روينا أن برقاً ساطعاً
يبدو فيسأل عنه من بجنان
فيقال هذا ضوء ثغر ٍضاحكٍ
في الجنة العليا كما تريان
إن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا ولباسهم فيها حرير، هم وأزواجهم في ظلال على الأراك متكئون، متكئون على فُرشٍ بطائنها من استبرق، وجنى الجنتين دان، يُلهمون التسبيح كما تُلهمون النفس.
وإن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهُب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً.
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون، لا يبغون عنها حولاً، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي منادٍ: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تصحُّوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تشبُّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا» [رواه مسلم]. وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» [متفق عليه].
وأعظم عطاء الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا دخل أهل الجنة الجنة: ودخل أهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقول أهل الجنة: ألم يبيّض وجوهنا؟! ألم يجرنا من النار؟! ألم يثقل موازيننا؟! فيكشف الحجاب، فينظرون إلى وجه الله الكريم، فما أعطوا عطاء أحب إليهم من النظر إلى وجه الله الكريم». وصدق الله العظيم: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23].
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26] - أي الجنة- وزيادة. أي وأعظم من الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال الإمام مالك.
اللهم لا تحرمنا النظر إلى وجهك الكريم.
روى مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « آخر رجل يدخل الجنة من أمتي يمشي على الصراط مرة ويكبو مرة - يعني ينكفئ على وجهه مرة - وتسفعه النار مرة فإذا نجاه الله وعبر الصراط التفت إلى النار من خلفه وهي تضطرم قال: تبارك الذي نجاني منك الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين من خلقه»، وهو آخر رجل سفعته النار على الصراط قال: « فيرفع الله له شجرة ».
أخي الحبيب: وحتى لا يجنح خيالك إلى شجرة أهل الأرض أو إلى شجر الدنيا فكن على يقين بأن ساق كل شجرة في الجنة، ليس من الخشب، وإنما من الذهب نعم.
«يرفع الله له شجرة، فيقول العبد: أي رب أدنني قرّبني من هذه الشجرة لأستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول الرب جل وعلا: فهل لو أدنيتك منها تسألني غيرها فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيرها فيدنيه الله منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها " قال الحبيب: « ثم يرفع الله له شجرة ثانية هي أحسن من الأولى فيسكت العبد ما شاء الله له أن يسكت ثم يقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فيقول الله جل وعلا: ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير الذي سألت؟ فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها فيقربه الحق جل وعلا منها » يقول الحبيب: « ثم يرفع الله له شجرة على باب الجنة هي أحسن من الأوليين» قال الصادق صلى الله عليه وسلم: « فيقول العبد أي رب أدنني من هذه الشجرة » «يقول الحبيب: وربه يعذره، لأنه يرى ما لا يصبر عليه » فيقول الله: ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي سألت فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها فيدنيه الله منها فإذا اقترب منها وهي على باب الجنة ونظر إلى ما أعد الله فيها لأوليائه من النعيم المقيم سكت العبد ما شاء له أن يسكت ثم قال: أي رب أدخلني الجنة فيقول الرب الكريم: عبدي ما الذي يرضيك مني؟ أترضي أن يكون ملكك في الجنة كملك ملك من ملوك الدنيا. وهنا يضحك ابن مسعود ا ويسأل الصحابة: لما لا تسألوني: مم أضحك؟ قالوا: مما تضحك يا ابن مسعود " قال: أضحك لضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدث بذلك ضحك فسألناه: مما تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك لضحك رب العزة.
لا تعطل ولا تكيف ولا تمثل فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك: ﴿ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، أضحك لضحك رب العزة حينما يقول الرب للعبد: « أترضى أن يكون ملكك في الجنة كملك ملك من ملوك الدنيا فيقول العبد للرب الكريم: أتهزؤ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك الرب من عبده ويقول: أنا لا أهزؤ بك ولكني على ما أشاء قادر».
فُتحت أبواب الجنة، يا مسكين، سابق اطرق هذا الباب، ولا تمل حتى يُفتح لك الملك حتى تلج الباب وإن ولجت الباب ورب الكعبة سعدت سعادة لا شقاء بعدها أبدا.
بالله ما عُذر امرئ هو مؤمن
حقا بهذا ليس باليقظان
تالله لو شاقتك جنات النعيـ
ـم طلبتها بنفائس الأثمان
يا سلعة الرحمن لست رخيصة
بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن أين المشتري
فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطبٍ
فالمهر قبل الموت ذو إمكان
يا سلعة الرحمن كيف تَصَبَّر ال
خُطَّاب عنك وهم ذوو إيمان
فاتعب ليوم معادك الأدنى
تجد راحاته يوم المعاد الثاني
عباد الله: ألا تستحق هذه الجنة التشمير والاستعداد، ها هو عمرو بن الجموح ا لما سمع بالجنة وأوصافها وكان أعرج، نودي للجهاد وقد عذره الله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ﴾ [النور: 61]. فقال لأبنائه: جهزوني للجهاد، الأمر فيه جنة عرضها السموات والأرض، قال: جهزوني، قالوا: يا أبانا قد عذرك الله، قال: جهزوني، قالوا: يا أبانا قد عذرك الله، قال: والله لأطأن بعرجتي هذه الجنة، تمنعوني عن الجهاد! فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: دعوه! فدخل، فإذا به يقتل في سبيل الله، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لكأني أنظر إليه يمشي برجلين سليمتين في الجنة».
وهذا عمير بن الحمام رضي الله عنه: الصحابي الجليل، في يوم بدر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض! يقول عمير: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ » قال: نعم، قال: بخ بخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قول: بخ بخ؟ » قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
استهم يوم بدر خيثمة بن الحارث وابنه سعد، فخرج لهم سعد، فقال له أبوه: يا بني آثرني اليوم فقال له سعد: يا أبت لو كان غير الجنة فعلت فخرج سعد إلى بدر فقتل فيها، ومازال أبوه خيثمة يتطلع إلى الجنة حتى كان يوم أحد، فقتل يوم أحد.
اجتهد أخي المسلم، واسأل الله في كل أحوالك، في ركوعك وسجودك وقيامك وقعودك، اسأل الله هذه الدار، التي إن ظفرت بها فقد ظفرت بالخير كله، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾ [فصلت: 30 - 32].
إنها دار ونعم الدار، لمن جد واجتهد في طلبها من رحمة أرحم الراحمين.
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
المرفقات
1731234144_الجنة في رمضان.doc