الجمعة الرابعة من شهر رجب: ( شَهْرُ شَعبَانَ بَيْنَ الغَفْلَةِ وَالاهْتِمَام.)

رمضان صالح العجرمي
1445/07/24 - 2024/02/05 10:38AM

مُقتَرَحُ خُطبَة بعنوان:

( شَهْرُ شَعبَانَ بَيْنَ الغَفْلَةِ وَالاهْتِمَام.)

1- لِمَاذَا الاهْتِمَامُ بِشَهْرِ شَعبَانَ؟
2- الأَعمَالُ المُسْتَحَبَّةُ فِي شَعبَانَ.

(الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ)
التَّذْكِيرُ بِفْضِلِ العَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذَا الشَّهْرِ؛ وَأَنَّهُ شَهْرُ خِتَام أَعمَالِ السَّنَةِ؛ حَيْثُ تُرفَعُ فِيهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، مَعَ بَيَانِ أَهَمِّ الأَعمَال المُستَحَبَةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ.

• مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ:

• أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، فإن من عظيم نعم المولى سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين الطائعين، أن هيأ لهم أسباب الفوز بمرضاته، والتزود من الخير والأعمال الصالحة؛ وذلك من خلال مواسم تكثر فيها الخيرات والبركات، ويزداد العبد فيها قربا ودرجات؛ فقد روى الطبراني من حديث محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا)) [رواه الطبراني، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة]
• ‏ومن هذه المواسم التي ينتظرُها المؤمنُ ويهتمُّ بها موسم شهر شعبان، شهر القراء، شهر رفع الأعمال إلى رب العالمين، شهر الاستعداد لرمضان.
• ‏فإن دخول شهر شعبان لهو موسم عظيم لنا فيه وقفات نتأمل فيها حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث نجد أنه كان يهتم به ما لم يهتم بغيره؛ فقد روى الإمام أحمد، والنسائي عن أُسَامَة بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)) ؛ مع أن الصيام عمل خفي لا يكاد يطلع عليه أحد لكنه لشدة مواظبته واهتمامه لفت الأنظار إليه.

•إننا اليوم على موعد، مع محطة من المحطات الإيمانية، مع شهر يَغْفُلُ عنه كثير من الناس؛ هكذا أخبرنا عنه صلى الله عليه وسلم؛ (إنه شهر شعبان).
•‏فَلِمَاذَا هَذَا الاهْتِمَامُ، وَمَا هِيَ الحَوَافِزُ لِلاهْتِمَامِ بِشَهْرِ شَعبَانَ؟

• أَمَّا الحَافِزُ الأَوَّلُ:- فَلِأَنَّهُ شَهْرُ غَفْلَةِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ؛ ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ))
• ‏فإن الناس يهتمون بشهر رمضان لما فيه من الفضائل ويعظمون شهر رجب لمكانته وحرمته؛ فأراد أن يبين لهم فضيلة شهر شعبان؛ ولو تأملت لأحوال الناس تجد أن الكثير منهم يستعدون لشهر رمضان بإنجاز أعمالهم الدنيوية في شعبان للتفرغ لشهر رمضان وبالتالي يتحول شعبان إلى شهر دنيوي بحت وهنا تكون الغفلة.
• ‏فيأتي شهر شعبان ليدفع أهل الإيمان عن أنفسهم هذه التهمة؛ (أعنى الغفلة) وذلك بتعمير أوقاته بالطاعات والقربات؛ فإذا غفل الناس فالمؤمن له شأن آخر، وإذا نام الناس تفرد هو بالقيام، وإذا أفطر الناس كان هو من الصائمين.
• ‏فينال بذلك محبة الله تعالى؛ كما في حديث الثلاثة الذين يُحِبُّهمُ اللهُ تعالى؛ عن أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((ثلاثةٌ يُحِبُّهمُ اللهُ، وثلاثةٌ يُبغِضُهمُ اللهُ، أمَّا الثلاثةُ الذين يُحِبُّهمُ اللهُ: فرَجُلٌ أتى قومًا فسأَلَهم باللهِ، ولم يَسأَلْهم بقَرابةٍ بينَهم فمَنَعوه، فتخلَّفَ رَجُلٌ بأعْقابِهم، فأَعْطاهُ سِرًّا، لا يَعلَمُ بعَطيَّتِه إلَّا اللهُ، والذي أَعْطاه، وقومٌ ساروا ليلتَهم حتى إذا كان النومُ أحبَّ إليهم ممَّا يُعدَلُ به، نَزَلوا فوضَعوا رُؤوسَهم، فقامَ أَحَدُهُمْ يَتملَّقُني ويَتْلو آياتي، ورَجُلٌ كان في سَريَّةٍ، فلَقوا العَدوَّ فهُزِموا، فأقبَلَ بصَدرِه حتى يُقتَلَ، أو يَفتَحَ اللهُ له.)) [أخرجه الترمذي، والنَّسَائِيُّ، وأحمد واللفظ له] ؛ فإنّنا حينما ننظر ونتأمل جيدًا إلى الجامع المشترك لهذه الأعمال الثلاثة، والسر في محبة الله تعالى لهم؛ لوجدنا أنه بعد الإخلاص لله تعالى هو الخفاء والسر واليقظة في وقت غفلة الآخرين.
• ‏فيظفر بمضاعفة الأجور والحسنات؛ لأن الأعمال والقربات التي في غفلة الناس يعظم أجرها وثوابها عند الله تعالى؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يتقرب إلى الله تعالى في الهرج وأوقات الفتن أجره عظيم: ((إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ))، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟! قَالَ: ((بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)) ؛ الخطاب موجه للصحابة رضى الله عنهم؛ أي أن للعامل في أزمان الفتن ووقت الهرج أجر خمسين منكم؛ ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم علة ذلك بقوله: ((إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون)) [رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة] ، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ.)) قيل يا رسولَ اللهِ: مَن الغرباءُ؟ قال: ((الذين يصلحون إذا فسد الناسُ))، وفي لفظٍ آخرَ قال: ((هم الذين يُصلِحون ما أفسد الناسُ من سنتي.))
• ‏وتأمل هذه الأعمال التي تضاعف أجرها؛ وذلك لغفلة الناس عنها: لماذا هذه الأجور العظيمة للمحافظين على صلاة الفجر؟
• ‏وتأمل إلى فضل قيام الليل، وثواب وأجر ركعتي الضحى، وكذلك كان من يدخل السوق الذي هو محل الغفلات والاشتغال بالبيع والشراء ثم يذكر الله تعالى فقد ملأ صحيفته حسنات كثيرة.

• وَأَمَّا الحَافِزُ الثَّانِيَ لِلِاهْتِمَام بِشَهْرِ شَعبَانَ:- لِأَنَّهُ مِيقَاتٌ سَنَوِيٌّ لِرَفْعِ الأَعمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.
• ‏فقد جعله الله تعالى بمثابة الختام لأعمال السنة، ففيه ترفع أعمال السنة؛ كما في الحديث: ((... وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))
• ‏فشهر شعبان هو الموسم الختامي لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام، فبم سيُختم عامك؟ ثم ما الحال الذي تحب أن يراك الله عليه وقت رفع الأعمال؟ إنها لحظة حاسمة في تاريخ المرء، حين تصعد الملائكة بحصاد عامه كله، لتعرض هذه الأعمال على الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}
• ‏ورفع الأعمال إلى الله تعالى على ثلاثة أنواع:-
1- يرفع إليه عمل الليل والنهار وذلك كل يوم؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: ((إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل))
2- رفع أعمال الأسبوع يومي الإثنين والخميس؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تُعرض الأعمال في كل اثنين وخميس؛ فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا إلا امرءًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا)) ، وفى رواية الترمذي وابن ماجه: ((تُعرضُ الأعمالُ يومَ الاثنين والخميسِ فأُحِبُّ أن يُعرضَ عملي وأنا صائمٌ.))
3- الرفع السنوي في شهر شعبان؛ وهو رفع أعمال السنة كلها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين))
•فإذا كنا نعلم أن السماء تفتح كل اثنين وخميس وتُرفع فيهما أعمال العباد إلى الله تعالى فلنعلم أن الأعمال ترفع إلى الله عز وجل طوال شهر شعبان.
•ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى هذه الأوقات في أكمل أحواله: ((فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))

•ولماذا خص الصيام؟
•‏قالوا: لأن الصيام يوقظ الجوارح من غفلتها فتكون فى أحسن حال وأكملها عند رفع الأعمال.
•‏وقالوا: لأنه عبادة مستمرة ووقته ممتد بخلاف العبادات الأخرى؛ فإذا حدث الرفع في أي وقت يكون متلبسا بعبادة الصيام؛ ولذلك لم يقل: وأنا أقرأ القرآن أو أصلى أو أذكر؛ وإنما خص الصيام.
•‏وقالوا: لأن عبادة الصيام تستدعى معها بقية العبادات؛ فتجد أن الصائم يستيقظ للسحور، ويدرك وقت السحر، وصلاة الفجر، وغيرها من أبواب الخير.

• وَأَمَّا الحَافِزُ الثَّالِثُ لِلِاهْتِمَام بِشَهْرِ شَعبَانَ:- لِأَنَّهُ شَهْرٌ تَقَعُ فِيهِ مَغْفِرَةُ اللهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الأَرضِ؛ فقد روى ابن ماجه عن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضى الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ في لَيْلَةِ النِّصْفِ من شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خلقة إلا لِمُشْرِكٍ، أو مُشَاحِنٍ)) [حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.]
• ‏ففي شهر شعبان تعم مغفرته سبحانه وتعالى جميع خلقه، غربا وشرقا، شمالا وجنوبا، عربا وعجما ؛ إلا صنفين من الخلق يحرمون من هذه الرحمة والمغفرة، فمن هم هؤلاء المحرومين؟! قال صلى الله عليه وسلم: ((فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خلقة إلا لِمُشْرِكٍ أو مُشَاحِنٍ))
• ‏فإذا غفر الله تعالى للعبد في شهر شعبان ظهرت آثار هذه المغفرة عليه وهو يستقبل شهر رمضان بصفحة بيضاء وفى أحسن الأحوال؛ فيزداد فيه من الاجتهاد بالطاعات والعبادات، وتحصيل أسباب المغفرة والرحمات بإذن الله تعالى.

• وَأَمَّا الحَافِزُ الرَّابِعُ لِلِاهْتِمَام بِشَهْرِ شَعبَانَ:- لِأَنَّهُ خَيْرُ اسْتِعدَادٍ لِخَيْرِ آتٍ.
• ‏فإن شهر شعبان هو بمثابة إرشادات بين يدى شهر رمضان؛ ولذلك فإن التفريط في شعبان يؤثر على الخشوع في رمضان؛ قال أحد السلف: (رجب شهر الزرع، وشعبان شهر السقي، ورمضان شهر الحصاد.) ، وكان أحدهم إذا دخل شعبان أغلق حانوته استعدادًا لرمضان.

نسأل الله العظيم أن يوفقنا لطاعته في شعبان، وأن يبلغنا شهر رمضان.


• الخُطبَةُ الثَّانِيَةُ:- الأَعمَالُ المُسْتَحَبَّةُ فِي شَعبَانَ.

أولا:- آكد هذه الأعمال، وأهمها: سلامة القلب؛ فإن أولى ما ينبغي علينا تفقُّده استعدادًا لهذه المواسم الفاضلة هو أن نتفقد قلوبنا؛ قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ((أَلا وَإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَح الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْب.))
•قال ابنُ رجب رحمه الله: (ذَكَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلمةً جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها؛ وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده، فإذا صلَح القلبُ صلَحت إرادته، وصلَحت جميعُ الجوارح؛ فلم تنبعثْ إلا إلى طاعة الله واجتناب سخطه؛ فقنعت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلها، وانبعثت في معاصي الله عز وجل وما فيه سخطه.)

ثانيا:- ومن آكد هذه الأعمال أيضا: (الإكثار) من الصيام.
•فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ من الصيام في شهر شعبان؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كانَ أحبُّ الشُّهورِ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن يصومَهُ شَعبانَ، ثُمَّ يَصِلهُ برَمضانَ.)) [رواه أبو داود وصحَّحه الألباني.] ، وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: ((مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ.)) [رواه الترمذي، وصححه الألباني.]، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يصومُ حتى نقولَ: لا يُفطِرُ، ويُفطِرُ حتى نقولَ: لا يصومُ، وما رأَيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استكمَلَ صيامَ شهرٍ إلَّا رَمَضانَ، وما رأيتُه في شهرٍ أكثرَ صيامًا منه في شعبانَ.)) وفي رواية: ((يصوم شعبان كله))، وفي رواية: ((كان يصوم شعبان إلا قليلًا))؛ قال العلماء: في اختلاف الروايات يحتمل أن يكون حصل كل ذلك في أعوام مختلفة.
•‏وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم عِلَّةَ إكثارهِ من الصيام في شعبان؛ فقالَ: ((ذلِكَ شَهْرٌ يَغفُلُ النَّاسُ عنهُ بينَ رجبٍ ورمضانَ، وَهوَ شَهْرٌ تُرفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى ربِّ العالمينَ، فأحبُّ أن يُرفَعَ عمَلي وأَنا صائمٌ.))
•‏ومما يحثنا على الإكثار من الصيام في شعبان:
•أنه من أفضل الأعمال التي تتضاعف فيها الأجور والحسنات.
•‏وما من يوم يصومه العبد إلا وزادت فرصة نجاته من النار.
•‏والصوم في شعبان هو بمثابة السنة القبلية لشهر رمضان؛ فإن الله تعالى جعل لكل فريضة نافلة قبلية وبعدية.
•‏والإكثار من الصيام دليل وبرهان عملي على محبة الله تعالى.
•‏كذلك فرصة قضاء الفوائت من شهر رمضان الماضي.
•‏وكذلك من أهم الثمرات المرجوة أن يكون خير استعداد للصيام في شهر رمضان؛ فتدخل فيه بنشاط وقوة وتتلذذ بالصيام لأنك قد اعتدت عليه مبكرا (ولعلنا نرى ونشاهد أحوال الناس أول أيام رمضان؛ ممن لم يصوموا قبل رمضان) ، قَالَ ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: (صَومُ شعبَانَ كالتَّمرِينِ على صِيَامِ رَمَضَانَ؛ لئِلَّا يَدخُلَ في صومِ رَمَضَانَ عَلَى مَشَقَّةٍ وَكَلَفَةٍ، بل يَكُونُ قَدْ تَمرَّنَ عَلى الصِّيَامِ وَاعْتَادَهُ وَوَجَدَ حَلاوَةَ الصِّيامِ ولَذَّتَهُ، فَيدْخُلُ فِي صِيَامِ رَمضَانَ بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ.)
•‏ومن المسائل المهمة التي ننبه عليها: مسألة الصيام إذا انتصف شهر شعبان؛ وخلاصة القول في المسألة، كما ذكر أهل العلم:-
1- من كان له صوم يعتاده فإنه يصوم حتى ولو قبل رمضان بيوم.
2- من صام من أول الشهر فله أن يصوم كذلك.
3- من صام بعد انتصاف الشهر فإنه يصوم حتى قبل دخول شهر رمضان بيوم أو يومين فإنه يتوقف.
4- أما صيام يوم الشك فهذا محرم إلا إذا وافق صياما يصومه؛ فعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: ((مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم.)) [رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح]

ثالثا:- ومن أعمال شعبان أيضًا: المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها.
•خاصة صلاتي الفجر، والعشاء.
•‏الحرص على إدراك تكبيرة الإحرام.
•‏والإكثار من النوافل.
•‏وقيام الليل ولو بركعتين.
.
رابعا:- ومن الأعمال أيضًا: قراءة القرآن الكريم.
•فهذا أَنس بن مالك رضي الله عنه يصف لنا حال المسلمين في شهر شعبان بقوله: (كانَ المُسلِمُون إذا دَخَلَ شَعبَانُ أَكَبُّوا على المَصَاحِفِ فَقَرؤوها، وأخرجوا زكاةَ أموالِهم تقويةً لضعِفِيهم على الصوم.) ، وقال سلمةُ بنُ كُهَيلٍ رحمه الله: (كان يقالُ شهرُ شعبانَ شهرُ القرآنِ.)
•‏وتأمل إلى الترجمة العملية لأحوالهم مع القرآن في شعبان؛ فقد كان عمرو بن قيس رحمه الله إذا دخل شهرُ شعبان أغلَقَ حانوتَه (أي دكانه) وتفرَّغ لقراءةِ القرآن.

خامسا:- ومن الأعمال أيضا: صلة الأرحام والإصلاح بين الناس.
•فإن صلة الرحم سببٌ لصلة الله تعالى للواصل؛ كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّه تَعَالى خَلَقَ الخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قال: فذَلِكَ لَكِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}
•‏وتكون الصلة إما بالزيارة، أو بتفقدهم والسؤال عنهم والسلام عليهم عن طريق الهاتف، وبالدعاء لهم وهذا يملكه كل أحد ويحتاجه كل أحد، وكذلك تكون الصلة بإصلاح ذات البين؛ فإذا علمت بفساد علاقة بعضهم ببعض بادرت بالإصلاح، وتقريب وجهات النظر، ومحاولة إعادة العلاقة بينهم.
•‏وإن قلت: وما هي علاقة صلة الأرحام والإصلاح في شعبان؟ نقول: إنها صلة وثيقة؛ أليست الأعمال ترفع في شعبان؛ إلا أعمال المتخاصمين؟! أليست المغفرة في ليلة النصف من شعبان؛ إلا لمشرك أو مشاحن؟! فالأمر جد خطير؛ أعمال السنة كلها متوقفة ما لم تدرك صحيفتك قبل رفعها بالإصلاح والصلة.

سادسا:- ومنها: التوبة إلى الله تعالى.
•فهي واجب الوقت؛ بل واجب العمر كله، وقد أمرنا الله تعالى بها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ...} وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وفي صحيح مسلم عن أبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ رضِي الله عنه، عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِن الله تَعَالَى يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوب مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها.))
•ونعنى بالتوبة؛ التوبة الشاملة لجميع نواحي التقصير في حياتك اليومية؛ فتدخل بإذن الله تعالى هذا الموسم بصحيفة بيضاء نقية؛ فما أحسن حال العبد وهو يستقبل هذا الموسم بتوبة صادقة نصوح لله عز وجل.
•‏أن يستقبل هذا الموسم العظيم وقد أقلع وتخلى عن ذنوبه ومعاصيه التي لطالما حرمته الكثير من أبواب الخير.
•‏أن يستقيل هذا الموسم بعهد جديد، وصورة جديدة؛ لأنه يريد أن يفتح صفحة جديدة مع الله تعالى؛ فلابد أن يسبق ذلك تخلية قبل التحلية؛ فيتخلى من الذنوب والمعاصي وذلك بالتوبة إلى الله تعالى، ثم يكون بإذن الله تعالى أهلًا لكي يتحلى بالتقوى والإقبال عليه بالطاعات والقربات.

نسأل الله العظيم أن يوفقنا للتوبة والعمل الصالح، وأن يبلغنا شهر رمضان ونحن في صحة وعافية.

المشاهدات 1157 | التعليقات 0