الْجَارِيَةُ المُسَخَّرَةُ. (الشمس)

عاصم بن محمد الغامدي
1437/10/24 - 2016/07/29 04:56AM
[align=justify]الْجَارِيَةُ المُسَخَّرَةُ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله عليِّ القدر عليِّ الذات، دحَا الأرضَ، ثم استوَى إلى السماء فسوَّاهنَّ سبعَ سماوات، جمعَنا على دينِه بعد فُرقةٍ وشَتات، وآوانَا بشريعتِه وقد ضاقَت علينا كلُّ حاضِرةٍ وفَلاة، لا تُحصَى نعمُه، ولا يُبلغُ حمدُه، أرانا فيمن حولَنا العِبَرَ والعِظات، وساقَ لنا الزواجِرَ والمثُلات، وجعل لنا الشواهد والآيات، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه بعثَه بأتمِّ الشرائِع وخاتمةِ الرسالات، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله ذوِي الأصول الزَّاكِيات، وعلى أصحابِه النجوم الزَّاهِرات، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ}، {يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}.
تقوى الله أربح بضاعة، والخسارة لمن فرّط في أمر ربه وأضاعه، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
عباد الله:
الكونُ كتابٌ ينطق بالعجائبِ، ويتحدث بالمعجزاتِ، في كل صفْحةٍ منه آية، وفي كلِّ مشْهد عِبرة، من الناس من تعمَّق في قراءته وتأمُّله، حتى امتلأ قلبُه إيمانًا ويقينًا، ومنهم من اكتفى بصفحات يسيرة منه، ومنهم الغافل عنه.
السماءُ مرفوعةٌ بلا عَمَدٍ، والأرضُ جُعِلَتْ مِهادًا وبِساطًا، والشمس والقمر يسبحان في الفضاء، والإنسان مخلوقٌ في أحسنِ تقويم، والكونٌ يسيرُ في نظام لا يتغير، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
النجومُ علاماتٌ وزينةٌ وهدى، والرواسي مثبِّتَاتٌ وأوتاد، والثمراتُ أشكالٌ وألوان، بل تُخْرج النخلة تمرًا يختلف طعمُه ونوعُه وجنسُه عن النخلةِ التي بجوارها، وهي تسقى بنفس ماءها.
{وَهُوَ الَّذِيْ مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي الَّليْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَّنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
أيها المسلمون:
التفكر في آيات الله تعالى من أعظم أعمال القلوب، ومن آثاره استسلام القلب لله جلَّ جلالُه، وإخلاص الأعمال له.
وقد أقسم الله تعالى في كتابه ببعض مخلوقاته، في إشارة لعظمتها، ودقة صنعها وخلْقِها، ومن هذه المخلوقات، نجمٌ لا غنى للأرض عنه، ربَطَ الله به كثيرًا من العبادات، ولا زال العلم الحديث يكتشف في كل يوم أمورًا إضافية عنه، وعن علاقته بنا، تزيد العاقلَ يقينًا بعظمة الله سبحانَه وقدرتِه، إنها آية من آيات الله الكونية العظيمة، {وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}، إنها الشمسُ التي سخَّرها الله تعالى لخلقه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} وأقسم بها فقال: {والشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، وأقسم بأثَرِها: {وَالنَّهَارِ إذَا جَلَّاهَا}، وذكرها في كتابه الكريم أكثر من ثلاثين مرة.
جعل غروبها وقتًا لإفطار الصائم، وزوالَها وقتًا لصلاةِ الظهر، وظلَّها وقتًا لصلاة العصر، {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}.
وبشروقها وغروبها وحركتها حساب الأوقات، وانتظام هذا الكون، {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا}.
في خسوفها تحذير وإنذار، وطلوعُها من مغربها من علامات الساعة.
ومع عظمتها، فهي تسجدُ لله تعالى كل يوم بعد غُروبِها، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ: »أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: »فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}».[رواه البخاري].
أيها المسلمون:
لا زال العلمُ الحديث يجلِّي لنا عجائب الشمس، ويكشفُ كل يوم أكثر مما قبله.
هل تعلمون أن الشمسَ أكبرُ من الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة؟
وأن الأرضَ لو وضعت فيها لتبخرت في ثانية؟
وأن المسافةَ بينهما أكثرُ من مئة وخمسين مليون كيلو متر، ولو زادتْ أو قلَّت قليلًا لاختل نظام الأرض، ولم تكن صالحةً للعيش؟
هل تعلمون أن في الكون ملايين الأنجم، بعضُها أصغرُ من الشمس، وبعضها أكبر منها عدَّةَ مرات، منها نجمٌ متألقٌ يُرى من الأرضِ، اسمه: قلبُ العقْربِ، يتسعُ للشَّمسِ والأرضِ مع المسافة بينهما، {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}.
بيننا وبين القمر ثانيةٌ ضوئيةٌ واحدة، أي ثلاثمئة وستون ألف كيلو متر, وبيننا وبين الشمس ثمانُ دقائق ضوئية، وبيننا وبين أبعد نجمٍ في المجموعة الشمسية، ثلاثَ عشرة ساعةً ضوئية، وأقربُ نجمٍ إلى الأرض من غير المجموعة الشمسية، وهو نجم القطب، يبعد عنا أربعة آلاف سنةٍ ضوئية، ولا يصلنا ضوؤه إلا وقد تغير موقعه، فسبحان الله القائل: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
أليس من العجيب، أن الشمسَ مع ضخامتها لا تُحدث صوتًا في جريانها؟
هل أدركتِ الشمس القمر يومًا وهما مخلوقان من آلاف السنين؟
أي دقة صنع هذه، تبارك الله أحسن الخالقين.
{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
تخيلوا لو أن الشمس أمسكت عن المغيب، كيف يقرُّ للأرض وأهلها قرار؟
كيف ينامون ويرتاحون؟
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
وبسببِ حركة الشمس تحدث كثير من الظواهر التي تنظَّم الحياة الأرضية، من تبخير المياه وتحريك الرياح التي تؤدي لسقوط الأمطار، ومن إنضاج الثمار والحبوب، وقتل الجراثيم.
أيها المسلمون:
آياتُ اللهِ تبارك وتعالى هي دلائِلُه وبراهينُه التي بها يعرِفُ العبادُ ربَّهم بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه وتوحيدِه، والتفكُّر في مخلُوقات الله عبادةٌ وهداية، وهو مبدأُ الخيرات ومفتاحُها، فبِه يُعظِّمُ العبدُ ربَّه ويزدادُ إيمانًا ويقينًا، ويفتَحُ بصيرةَ القلب ويُنبِّهُه من غفلتِه، ويُورِثُه حياةً وتدبُّرًا، ومحبَّةً لله وتذكُّرًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمدلله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة طامع في جنانه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فحري بنا ونحن نتأمل في آية الشمس، ونتذوق لسعات حرارتها، في مثل هذه الصيف القائظ، أن نتذكر بها موقفنا يوم القيامة، فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في أكثر من حديث، فقال عليه الصلاة والسلام: »لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا فَذَاكَ حِينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}». [رواه البخاري].
وعن سُلَيْم بْن عَامِرٍ -رضي الله عنه- قال: حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: »تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ» قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ أَمْ الْمِيلَ الَّذِي تُكْحَلُ بِهِ الْعَيْنُ، قَالَ: »فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا»، وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. [رواه مسلم].
ولا تستشكل - أيها المسلم - عدمَ إحراقها للناس يومَ القيامة، مع قربها منهم؛ لأن أحوالَ القيامة تختلف عن أحوال الدنيا فلا تقاس بها، ولو صحَّ أن تقاسَ بها لكان الموتُ أسرعَ من عرقِ الناس إلى آذانهم وأفواههم.
أما مصيرُ الشمسِ والقمرِ يوم القيامة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: »الشمس والقمر مُكوَّران يوم القيامة»، [رواه البخاري]، وفي رواية صححها الألباني: »الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة».
وليس المراد من الحديث أن الشمس و القمر يعذبان في النار، بل ذكر العلماء رحمهم الله أن ذلك يحتمل أحد أمرين:
الأول: أنهما من وقود النار.
والثاني: أنهما يُلقيان فيها زيادة في العذاب لمن كان يعبدهما.
أما بعد عباد الله:
فحرَّ الدنْيا يذكِّرُ بحرِّ الآخرة، ولهبُ الشمس اللافح يذكر بلهبها في عرصات القيامة، ولا ينجي من حرِّ ذلك اليوم سفرٌ ولا سياحة، ولا يُطفئ لهبَه تبريدٌ ولا ماء.
بل النافع هو الإيمان والعمل الصالح، واتخاذ الأسباب التي تجعل الإنسان تحت ظل عرش الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله.
فكونوا رحمكم الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يرى ما تفعله الجوارح ولو دقَّ، ويسمع ما تنطق به الشفاه ولو خفت، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
[/align]
المشاهدات 1459 | التعليقات 2

جزاكم الله خيرا خطبة مميزة كذلك خطبة الاسبوع الماضي القرية الكونية


[align=justify]وإياكم، لا حرمنا الله جميعًا الأجر، وجزى القائمين على هذا الموقع خيرًا، على ما يبذلونه لخدمة هذه الشعيرة العظيمة.[/align]