الثناء الصادق للشيخ د. محمد بن إبراهيم الحمد

الحقيقة أن استعمال المدح فيما ذهب إليه الشيخ محمد ـ وفقه الله ـ من الارتقاء بالأشخاص واستجلاب ما في نفوسهم من الخير ليس بالأمر السهل ، ولا كل من أراده وفق إليه ، بل هو سير في طريق محفوفة بهاوية ومزلة : هاوية الإقلال منه أو الشح به أو البدء بضده أو الإيغال في الذم والقدح ، ومزلة الإطراء السمج المبالغ فيه ، والذي يعلم كل من سمعه أو قرأه أنه لا يغني عن المادح ولا الممدوح شيئًا .

وكما ذكر الشيخ محمد ـ وفقه الله ـ فإن المدح الذي يحمد الإتيان به هو ما كان بابًا للارتقاء بشخصية الممدوح ، لا مرادًا به التزلف إليه أو استدرار عطفه النفسي المجرد أو عطائه المادي البحت ، وهو ما يغفل عنه بعض المستعجلين ممن لم يعطوا في هذا الجانب فقهًا ، فتراهم يسارعون إلى الاستدلال بحديث : " احثوا في وجوه المداحين التراب " فيحملهم ذلك على الشح بالبدء بمدح من يريدون توضيح أخطائه ، فيبدؤون بذمه مباشرة دون مقدمة ولا توطئة ، مما يشعره بداية أن الأمر يتجاوز النصح إلى القدح والثلب أو التشهير والتعيير ، فيأبى ما قصدوه من إصلاح أمره ، بل ويسارع إلى إقفال الباب بينه وبينهم ، فلا يفتح معهم أي نقاش إلا وقد استعد لهم بمثل ما بدؤوه به من القذائف النقدية أو أشد .

وما من امرئ إلا وسيجد من تتبع كلامه ونقشه بالمناقيش أخطاء عليه ومثالب ، ولكنها عين الرضا أو السخط ، إحداهما لا ترى إلا العيوب فتنشرها فرحًا بها ، والأخرى كليلة إلا عن المدائح ؛ فتطوي كل سوء وتتكلف الوصف بالجميل ، فلا هذه عدلت ولا تلك أحسنت .
فما أجمل التوسط !

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم

ما أجمل أن يبدأ المرء بالبحث الجاد عما في العمل مما يستحق المدح ، فإن وجده بدأ به من غير مغالاة تصل به إلى حد النفاق والتملق أو المجاملة الخادعة ، ثم لا يضيره بعد أن يأتي بنقده في قالب من النصح وإرادة الخير للمنصوح .

ولست بحاجة لذكر الأدلة بعد مقال الشيخ محمد الحمد ، فلا عطر بعد عروس ، وقد جاء من الأدلة والنقول بما يكفي من فقهه للاعتدال في مدحه وعدم الإيغال في الذم .

غير أن مما لا يخفى أن الأدلة التي جاء بها الشيخ محمد على مدح القرآن لأشخاص بأعينهم تكاد لا تقع إلا على من هو أهل للمدح من أنبياء الله ورسله ولا سيما أولي العزم منهم ، وكذا الأدلة من السنة أو أقوال السلف ، فكل ما فيها قد وقع على أقوام لا مزيد عليهم في عصرهم ، من الأنصار ذوي الإحسان والإيثار ، وأفراد من الصحابة كانوا هم القمة في فقههم أو علمهم أو عبادتهم أو جهادهم أو بذلهم ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ أو رجال أفذاذ من التابعين لهم بإحسان من العباد الزهاد والعلماء الراسخين . وفي هذا ما يدل على أن المدح لم يكن مقصودًا لذاته ولا مطروحًا في الطريق يعطاه كل أحد ويمنحه من لا يستحقه ، وإنما هو جائزة ثمينة توهب لمن يستحقها فعلاً ، مقصودًا بها تثبيته ورفع همة غيره للوصول إلى ما وصل إليه .

ولا شك أن المرء ليس مطلوبًا منه كلما رأى شخصًا أو عملاً أن يسارع لنقده وذمه أو مدحه ورفعه ، فقد لا يكون الشخص أهلاً لهذا ولا مستحقًا لذاك ، فليس من الضرورة أن يتكلف المرء مدحًا أو يتقحم ذمًّا ، بل لا عليه لو صمت فنجا " ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت " ويتأكد هذا في حق من لا يقدر على وزن لسانه إذا تكلم أو ضبط قلمه إذا كتب ، وكذا كل من يصعب عليه الرجوع بعد إلى الحق بعد التمادي في الباطل واللجاج في الخصومة ، فمثل هذه يتعين عليه عدم الدخول في مدح ولا ذم أصلاً ، بل لا يعدل السلامة في حقه شيء ، ولأن يقال : ليت فلانًا تكلم خير من أن يقال : ليته سكت .

وثمة أمر قد يحسن التنبيه إليه ولا سيما بين الإخوة ممن شرفهم الله بالعمل الدعوي والخيري ونفع الناس وسد ثغور الأمة ، ألا وهو أنهم وخاصة في هذه المرحلة يواجهون أعداء حقيقيين ، من كفار عداوتهم ظاهرة لا مرية فيها ، ومنافقين يرفعون رؤوسهم حينًا ويخفضونها حينًا ، قد عرفهم من أنار الله بصيرته بلحن القول ، ومن ثمة فلا مجال لافتعال عداوات بين الإخوة ، واشتغال بعضهم بالرد على بعض في قضايا تحتمل التعددية في الرأي ، أو هي مما يسوغ فيه الاجتهاد ، فيتعصب هذا لرأيه ويتشبث الآخر في قوله ، وتكثر الردود وتطول الخصومات ، وينشغل الاثنان بما لو فرغوا لغيره وقتهما وجهدهما لاستفادت الأمة منهما فائدة عظيمة .
ولا يعني هذا القول ألا ينصح بعضنا لبعض ، معاذ الله أن نقول بهذا فنقضي على حق هو من آكد حقوق الأخوَّة ، ولكن بعض الأحوال تحتم على المرء تأجيل بعض القضايا ، والحذر في عرض بعضها ، وجعل بعضها سرًّا بينه وبين المنصوح ، وتعلم الأساليب التي يستطيع بها عرض كل ما لديه بلا جرح للشعور أو خرق للآداب ، كأن يُعَرِّضَ تعريضًا ويُلَمِّحَ بإشارات يفهمها اللبيب ، أو يُوعِزَ لمن هو أرضى عند الناس منه أن ينصح لهم ويوجههم ، أو يأتي بما يراه أنسب للمنصوح بمثال يراه القمة على سبيل (إياك أعني واسمعي يا جارة) ونحو ذلك .

والأهم الأهم في كل هذا هو فحص النية قبل الإقدام على مدح أو ذم ، فإن رأى المرء النية علوية صعد بها ، وإن رآها سفلية نزه نفسه عنها ، وحتى ولو وقع يومًا في زلة وأخطأ في حق أخيه حتى يغضبه ويثير حفيظته ، فما الذي يحول بينه وبين أن يمحو السيئ بالحسن ويذهب الخبيث بالطيب ، فيعترف بأنه أخطأ الطريق ومال عن الجادة ؟!

وللكرام في هذا الجانب حديث يجب أن يفقهوه ويعوه ، وهو ألا يضيعوا أوقاتهم بمتابعة المادحين والقادحين ، أو يجعلوا همهم ما يقوله الناس عنهم ، فما على وجه الأرض امرؤ يُجمِعُ الناس على مدحه أو ذمه ، بل ما من أحد إلا وتراهم بين معجبٍ به وزاهدٍ فيه ، ولكن ، لا يضير أحدًا ذم البشر إذا كان رب البشر عنه راضيًا ، ولا ينفعه مدح أحد إن كان من في السماء عليه غاضبًا ، ومن عرف قدر نفسه ربط قلبه بربه واستمسك بحبله المتين ، وجعل نصب عينيه قول الحبيب ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمن جاءه فقال : إن حمدي زين وإن ذمي شين . فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ذاك الله "

ومن أخلاق الكرام مع هذا أنهم يعفون ويصفحون ، ويعرضون عن اللغو ويمرون به مرور الكرام ، وقد ترتقي بهم تقواهم إلى رحمة من يذمهم أو يغالي في مدحهم فيكتفوا بتوجيهه إلى ما هو خير له في دينه ودنياه .

اللهم اجعلنا خيرًا مما يظن بنا ، واغفر لنا ما لا يعلمه عنا إلا أنت ، واسترنا في الدنيا والآخرة ، إنك جواد كريم .