الثبات في زمن الفتن

إبراهيم بن سلطان العريفان
1439/06/21 - 2018/03/09 09:09AM

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوة الإيمان والعقيدة ... إن الثبات على دين الله، هو الثبات على المبادئ وعلى الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة، وعدم التزلزل والانحراف عنها، فالله عز وجل أمر بالاستقامة والثبات على شرعه ودينه وعلى سنة نبيه ﷺ، وتعظم الثبات والاستقامة على الدين في الأيام والأحوال التي تمتلئ بالفتن وتختلط فيها المفاهيم، ويسعى فيها دعاة الشر والفتنة للفساد في البلاد والعباد، هنا يجب أن يذكر الناس بالثبات على دين الله عز وجل. قال النبي ﷺ (بادروا بالأعمالِ فتَنًا كقطعِ اللَّيلِ المظلمِ ، يصبحُ الرَّجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا ،ويمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا يبيعُ أحدُهم دينَهُ بعرضٍ منَ الدُّنيا ).

فالثبات مهما كانت المتغيرات هي دعوة الأنبياء والمرسلين، الاستمساك بالعقيدة الراسخة والأخلاق النبيلة، وما بُعث محمد إلى الناس إلا ليتمم مكارم الأخلاق ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ).

فأقبلوا - يا عباد الله - إلى الثبات مهما كانت المتغيرات والتقلبات، جاء سفيان بن عبد الله أبو عمرو الثقفي رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك؟ فقال له النبي ﷺ ( قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ ).

نعم .. إن من أعظم خصال المسلم الحق وأجلّ مميزاته الاستقامة بعد الإيمان دون أي تذبذب فيه أو انحراف عنه لشبهة عارضة أو شهوة جامحة أو فتنة شائعة، فإن التذبذب بين الحق والباطل وترك السنة الثابتة بعد التخلق بها ليس من شأن أهل الإيمان، بل هو من شأن أهل التناقص يبن الأقوال والأعمال، والتقلب في المسلك في سائر الأحوال، قال تعالى( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ).

والإنسان يتعرض لأنواع من الفتن والأذى ، فقد يتعرض المؤمن للأذى من قبل أهل الباطل، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ، ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان، كما هو حال إخواننا المضطهدون في مشارق الأرض ومغاربها، فهذا رسول الله ﷺ تحمل أذى صناديد قريش فقد حاصروه وأهله في الشعب ثلاث سنين حتى بلغهم الجهد وأخذوا يأكلون الأوراق والجلود وكان يسمع صوت النساء والصبيان يتضاغون من الجوع، فما فل ذلك من عزيمته ولا توقف عن دعوته، وضعوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد وحثوا التراب في وجهه وأدموا قدميه وشجوا وجهه وكسروا رباعيته ومع هذا ظل ماضياً في سبيله يدعوا إلى الله على بصيرة، ثابتًا مستقيمًا على شرعه، ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ).

عباد الله ... يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقة في الرذيلة،  وهي مع ذلك راقية في مجتمعها متحضرة في حياتها ، يجد فيها الفرد من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان ويجدها غنية قوية، بل يرى إقبال الدنيا على المبطلين ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، وتهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد وتصفوا لهم الحياه ( لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ).

دخل عمر رضي الله عنه على رسول الله ﷺ فرأى الحصير قد أثَّر في جنبه ﷺ فبكى عمر ، فقال : ما يبكيكَ يا ابن الخطاب ؟ فقال عمر: يا نبيَّ اللَّهِ، وما لي لا أبْكي وَهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جنبِكَ، وَهذِهِ خزانتُكَ لا أرى فيها إلَّا ما أرى، وذاكَ قيصرُ وَكِسرى في الثِّمارِ والأنْهارِ، وأنتَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ وصفوَتُهُ، وَهذِهِ خزانتُكَ ! فقال ﷺ (يا ابنَ الخطَّاب، ألا ترضى أن تَكونَ لنا الآخرةُ ولَهمُ الدُّنيا ؟ ) فقال عمر: بلى.

عباد الله ... اعلموا أنَّ من أخطر أسبابِ ضعف الاستقامة والثبات التعرُّضُ للفتن، فمن استشرف الفتن زلَّت به القدم، والحي لا يؤمن من الفتنة، يقول النبي ﷺ محذرا أمته ( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُوداً عُودا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ... ) ولا يُنجِي من ذلك إلا رحمةُ الله تعالى، ثم الأعمالُ الصالحة، وذلك لعِظم الفتن ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب، وكان من دعاء النبي ﷺ في صلاته ( وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ) وقال ﷺ ( إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الآخِرِ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ).

ومن الفتن العظيمة التي حذرنا منها النبي ﷺ، وقد زلَّتْ بكثير من الناس فتنة النساء، قال النبي ﷺ ( مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِي النَّاسِ فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ ) فاختلاطهن بالرجال من أعظم الفتن ولا ريب، فإنَّ تمكينَ النساءِ من الاختلاطِ بالرجالِ أصلُ كلِّ بليةٍ وشرٍّ، وهو أعظمُ أسبابِ نزولِ العقوباتِ العامة.

يا أُمَّةَ مُحمَّدٍ ... آنَ لِلمُنكَرَاتِ أنْ تُنكَرَ، آنَ لِقنَواتِ الخِزيِ التي تُدعمُ بأموالِنا أنْ تُمنَعَ وتُكسَر، آنَ لِصُرُوحِ الرِّبا أنْ تُهجَرَ، آنَ لِلمَعرُوفِ أنْ يَظهَرَ، ولِلمُنكَرِ أنْ يَخْسَأَ ويَخْسَرَ، أَمَا آنَ لِلمرأةَ أن تُكرَّمَ وعن أيدِ الِّلئَامِ أنْ تُبعدَ.

يا مُسلِمونَ: آنَ لِبلادِ الإِسلامِ أنْ تَتَطَهَّرَ، وَلِدِينِ اللهِ أنْ يُنصَرَ، آنَ لأُمَّةِ مُحمَّدٍ أنْ تَتَذكَّرَ قَولَ النَّبِيِّ الأعظَمِ( مَنْ التَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وأَرضَى عَنهُ النَّاسَ، وَمَنْ التَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسخَطِ اللهِ سَخِطَ اللهُ عَنهُ وَأَسخَطَ عليهِ النَّاسَ ).

إن على الأُمَّةِ في هذا الوَقتِ بالذَّاتِ، أنْ تَحذَرَ من كُلَّ نَاعِقٍ وَمُنافِقٍ ممَّن لا تُؤمَنُ غَوَائِلَهُم، ولا تَقِفُ مَكَائِدَهُم، يَستَغِلُّونَ الأحدَاثَ الرَّاهِنةَ بالطَّعنِ في الدِّينِ، والحطِّ من المُتدَيِّنِنَ ويَسعَونَ إلى تَغرِيبِ الأُمَّةِ وتَخريبِها، وَزَرْعِ بُذُورِ الفُرقَةِ بَينَها! في وَقتٍ أحوَجَ ما نَكُونُ إلى اجتِمَاعِ الكَلِمَةِ وَوِحدَةِ الصَّفِّ والتَّعَاضُدِ والتَّسَانُدِ.

يا كِرامُ ... ابتعِدوا عن مَواطِنِ الزَّلَلِ، وآثِروا السَّلامَةَ حالَ الفِتَنِ، واسلُكُوا المَسَالِكَ الرَّشِيدَةَ، وقِفُوا المَواقِفَ السَّدِيدَةَ، ورَاعُوا المَصَالِحَ والمَفاسِدَ، وَوازِنُوا بينَ حَسنَاتِ ما يُدفَعُ وسَيِّئَاتِ ما يُتَوقَّعُ، وَادفِنُوا الفِتنَةَ في مَهدِهَا، فَمَن فَتَحَ بَابَهَا صَرَعَته ُ،وَمَنْ أَدَارَ رَحَاهَا أَهلَكَتهُ! والتَزِمُوا جَمَاعَةَ المُسلِمِينَ وإمَامَهُم.

وإياكم والتهاون بصغائر الذنوب، قال رسول الله ﷺ ( يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ طَالِبًا ) وقال ﷺ ( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ ).

نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ....

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

معاشر المؤمنين ... أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، والحرصِ على ما يحفظ الله به الدين، وقد استنبط أهل العلم من كتاب الله ومن سنة النبي ﷺ ما يعين العبد على الثباتِ على دين الله عز وجل.

الحرص كل الحرص على تلاوة كتابِ الله عز وجل، والإكثارُ من ذكره ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ).

عليكم بالإكثار من الطاعاتِ والبُعدُ عن المعاصي، يقول الحق تبارك وتعالى ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ) واعلموا ... أن المداومة على العمل الصالح سببٌ لتقوية الإيمان، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.

ومما يعين على الثبات على دين الله... مجالسةُ العلماءِ؛ فإنها تُحيي القلوبَ، وتحثُّ على العمل، فالصاحب الصالح معينٌ على الخير؛ إن ضعُف صاحبُه عن الطاعة قوَّاه، وإن زلَّتْ قدمُهُ لمُحرَّمٍ نهاه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) وفي قراءة قصص الأنبياء رفعٌ للهمم وتثبيتٌ للقلب، قال تعالى ( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ).

علينا بكثرةِ الدعاءِ، وصفاءِ العقيدةِ، فإنها من أعظمِ أسبابِ الثبات على الدين، قال تعالى عن أصحاب الكهف ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ).

عباد الله ... من حَفِظَ جوارِحَهُ حسُنَت خاتمتُه، قال الإمام القرطبي رحمه الله: سوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهرُه وصلُح باطنه، ما سُمِع بهذا ولا عُلم به، وإنما تكون لمن كان له فسادُ العقل، أو إصرارٌ على الكبائر، وإقدامٌ على العظائم، ومن تمسك بالدين ثبَّته الله في مدلهمات الأمور.

واعلموا عباد الله أنَّ مجاهدة النفس عن الهوى وعمّا يصرفها عن طاعة الله يُعين على الثباتِ على الدين. فالسعيد من هداه الله وثبته على الدين حتى يتوفاه؛ فأخلِصُوا لله أعمالكم، واسألوه الثبات على دينه، واستعيذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

صلى الله على نبينا محمد

المشاهدات 17595 | التعليقات 0