الثبات الثبات
تركي بن عبدالله الميمان
الثَّبَـــات
(نسخة للطباعة)
قناة الخُطَب الوَجِيْزَة
https://t.me/alkhutab
الخُطْبَةُ الأُوْلَى
إِنَّ الحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ؛ فَهِيَ الزَّادُ في الطَّرِيق، والمَخْرَجُ وَقْتَ الضِّيْق ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.
عِبَادَ اللهِ: أَعْظَمُ الكَرَامَةِ: الثَّبَاتُ على طَرِيقِ الاِسْتِقَامَة، والسَّلامَةُ مِنَ الزَّيغِ والضَّلَالَة! قال تعالى: ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾.
قال المُفَسِّرُون: (في هَذِهِ الآيَةِ، دَلِيْلٌ على شِدَّةِ افْتِقَارِ العَبْدِ إلى تَثْبِيتِ اللهِ إِيَّاه؛ لِأَنَّ النَبِيَّ ﷺ -وَهُوَ أَكْمَلُ الخَلْقِ- قَالَ Q لَهُ: ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ﴾؛ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟!).
والثَّبَاتُ وَالعَزِيْمَةُ: هُمَا جِمَاعُ الفَلاح! فَعَنْ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ t قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ).
وَأَصْلُ الثَّبَاتِ: ثَبَاتُ القَلْبِ على الدِّيْنِ، وَصَبْرُهُ عَلَيْهِ، وَيَقِيْنُه بِه! قال U: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ﴾.
قال السِّعْدِي: (شَجَرَةُ الإِيمانِ ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ في قَلْبِ المُؤْمِن: عِلْمًا وَاعْتِقَادًا، ﴿وَفَرْعُهَا﴾: العَمَلُ الصَّالِحُ ﴿في السَّمَاءِ﴾).
وَكَلِمَةُ التَّوْحِيْدِ: أَعْظَمُ مَا يُثَبِّتُ Q بِهَا المُؤْمِنِينَ! قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾. قال البَغَوِي -في تفسيرِ القولِ الثابث-: (هِيَ قَولُ: "لا إِلَهَ إِلَّا الله". ﴿في الحَيَاةِ الدُّنْيا﴾: يَعْنِي قَبْلَ المَوْتِ. ﴿وَفِي الآخِرَةِ﴾: يَعْنِي في القَبْرِ).
وَشَجَرَةُ الثَّبَاتِ؛ لا تَقُوْمُ إلا على سَاقِ الصَّبْرِ واليَقِين! فَالصَّبْرُ: يَدْفَعُ الشَّهَوَات، واليَقِينُ: يَدْفَعُ الشُّبُهَات؛ قال ﷻ: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾.
والتَّمَسُّكُ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّة؛ مَصْدَرُ الثَّبَاتِ وَالعِصْمَة؛ قال ﷺ: (تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ الله، وَسُنَّتِي).
وعلى قَدْرِ الإِيمان؛ يَكُوْنُ الثَّبَات؛ قال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
وَأَهْلُ الإِيمان: أَهْدَى النَّاسِ قُلُوْبًا، وأَثْبَتُهُم عِنْدَ المصائِب! قال I: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾. يقول ابنُ القَيِّم: (مَنْ رَضِيَ عَنْ رَبِّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ: اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ. والسُّخْطُ: يُوجِبُ تَلَوُّنَ العَبْدِ، وَعَدَمَ ثَبَاتِهِ مَعَ اللهِ؛ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ قَدَمٌ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ!).
وَكُلَّمَا اشْتَدَّتْ غُرْبَةُ الدِّيْن؛ تَضَاعَفَ الأَجْرُ لِلثَّابِتِينَ الصَّابِرِين! قال ﷺ: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ؛ الصَّبْرُ فِيهِنَّ: مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ: أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ!) قِيْلَ: (يَا رَسُولَ الله، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟) قال: (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ!).
والرَّاسِخُون في الثَّبَات؛ لا تَنْطَلِي عَلَيْهِم زَخَارِفُ الشُّبُهات، والتَّشْكِيكُ في المُسَلَّمَات! قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾. قال ابنُ تَيْمِيَّة: (الخَفِيْفُ لا يَثْبُتُ بَلْ يَطِيش، وَصَاحِبُ اليَقِينِ ثَابِت!).
وَسُؤَالُ الثَّبَاتِ على الدِّيْنِ، سِمَةُ القُدُوَاتِ العَارِفِيْن؛ فَعَنْ أَنسٍ t قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ؛ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ).
والدُّعَاءُ بالثَّبَاتِ، مَطْلُوْبٌ حَتَّى بَعْدَ المَمَات! فَإِنَّ النَّاسَ يُمْتَحَنُونَ في قُبُوْرِهِم؛ وكانَ ﷺ إذا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ المَيِّتِ؛ وَقَفَ عليه وقال: (اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيْكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ).
وَأُنْزِلَ القُرآنُ؛ لِتَثْبِيتِ الإِيمان؛ قال U: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. قال ابنُ القَيِّم: (قِرَاءَةُ القُرْآنِ بِالتَّدَبُّر: تُثَبِّتُ قَوَاعِدَ الإِيمَانِ في القَلْبِ).
وَمِمَّا يُثَبِّتُ القَلْبَ: سَمَاعُ المُوَاعِظ، وَفِعْلُ الأَوَامِر! يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾.
والاِسْتِعَانَةُ بِالصَّلَوَاتِ؛ مِنْ أَعْظَمِ المُثَبِّتَات؛ لِأَنَّهَا مَنَاعَةٌ مِنَ المُنْكَرَات! قال ﷻ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ﴾.
وَكَثْرَةُ العِبَادَةِ: تُثَبِّتُ صَاحِبَهَا وَقْتَ الفِتَنِ؛ قال ﷺ: (العِبَادَةُ في الهَرْجِ -أي في الفِتَن- كَهِجْرَةٍ إِليَّ).
وَمِنْ عَوَامِلِ الثَّبَاتِ والأَمَان: كَثْرَةُ الذِّكْرِ بالقَلْبِ واللِّسَان؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا﴾.
وَمِنْ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ: الوَسَطِيَّةُ والاِعْتِدَالُ، والتَّأَنِّي وعَدَمُ الاِسْتِعْجَال؛ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾، وفي الحديث: (أَحَبَّ العَمَلِ إِلَى اللهِ؛ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ).
وَأَخْبَارُ الصَّالِحِين: تُثَبِّتُ القَلْبَ، وتُقَوِّي العَزْم! يقول I: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾. قال بَعْضُ السَّلَف: (الحِكَايَاتُ: جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللهِ، يُثَبِّتُ اللهُ بِهَا قُلُوبَ العَارِفِينَ مِنْ عِبَادِه!).
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.
أَمَّا بَعْدُ: فَمَا أَحْوَجَنَا إلى الثَّبَات، لا سِيَّما في أَوْقَاتِ المُلِمَّات، وَالفِتَنِ المُدْلَهِمَّات! فَـ(يَا عِبَادَ اللهِ، فَاثْبُتُوا).
وَمَنْ ثَبَتَ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ المَنْصُوبِ عَلَى جَهَنَّمَ، وَمَنْ لم يَثْبُتْ على الحَقِّ هُنَا، زَلَّتْ قَدَمُهُ هُنَاك! قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا* ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾.
فَعَلَيْكَ بِطَرِيقِ الحَقِّ، وَلا تَسْتَوْحِشْ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِينَ ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾، وَإِيَّاكَ وطَرِيقَ البَاطلِ، وَلا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهَالِكِين ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
*******
* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ (وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ) لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.
* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
المرفقات
1716354037_الثبات.pdf
1716354038_الثبات (نسخة مختصرة).pdf
1716354038_الثبات (نسخة للطباعة).pdf
1716354038_الثبات (نسخة مختصرة).docx
1716354038_الثبات.docx
1716354038_الثبات (نسخة للطباعة).docx