الثأر وقتل النفس المحرمة

يحيى بن علي الضامري
1441/06/26 - 2020/02/20 20:15PM

الخطبة الأولى:

أنْزَلَ الله - تعالى - كتابَه ليكونَ للناس حجةً وشافعًا، حجةً يوم العرْض على مَنْ فَرَّط فيه، وشافعًا لِمَنْ عمل به، وضمَّن فيه سبحانه مواعظَ وتفصيلاً لكل شيء.

قال بعضُ السلَف: (مَن لَمْ يردعه القرآن والموت، فلن تنفعه موعظةٌ، ولو تناطَحَتِ الجبال بين يديه لم يرتدع) [ الزهد للإمام أحمد ].

وإنَّ منَ المواعظ التي اشتَمَل عليها القرآن تلك القصص، التي لا تكاد تَخْلو منها سورةٌ من سور القرآن؛ فهي تحكي لنا أخبارَ الأُمَم الماضية، والقُرُون الخالية، يجد القارئ والسامع فيها التسْلِيةَ والعِبْرة، والتفَكُّر والاصطبار، والتأسِّي والاقتداء.

 

 ومنَ القصص القرآني الفريد في بابِه، العظيم في معانيه وعِبَرِه، المُعْجِز في لفْظِه وأحداثه: ما قصَّه الله - سبحانه وتعالى - على رَسُوله r مما جرى بين ابني آدم لصلبه.

هذان الابنان يُسميان بـ(قابيل، وهابيل)، وهذه التسميةُ المشهورة لهما إنَّما هي مِنْ نَقْل العلماء عن أهْل الكتاب، لَم يَرِدْ بها نصٌّ في القرآن، ولا جاءتْ في سنَّة ثابتة، فلا علينا ألاَّ نجزمَ بها، ولا نرجحها؛ كما يقول العلاَّمةُ أحمد شاكر.

قرَّبَ الولدان قُربانًا، فأخْرَج كلُّ منهما شيئًا مِنْ ماله؛ بقَصْدِ التقَرُّب إلى الله تعالى، فتَقَبَّل الله من أحدهما صدقتَه، وَلَم يَتَقَبَّل منَ الآخر، وكانتْ قرابين الأُمَم الماضية علامة قبولِها أكْل النار ما تقبل منها، وترْك ما لَم يُتَقَبَّلْ، فغضب الأخُ على أخيه وهدد بقتله، ولَم يرتدع الأخ الجاني ولَم ينْزَجِر، ولم يزل يُراوِد نفسه، حتى طَوَّعَتْ له نفسُه قتْل أخِيه الذي يقْتَضِي الشرع والطبع احترامه؛ فَقَتَلَهُ فأصبح من الخاسرين في دنياهم وأخراهم، وأصبح قد سَنَّ هذه السنة لكل قاتل: (ومَن سنَّ سُنَّة سيئة، فعلَيْه وِزْرها، وَوِزْر مَن عمل بها إلى يوم القيامة) [رواه مسلم].

أخرج الإمام أحمد وغيره: أنَّ النبيَّ قال: (ما مِن نفس تُقتَل إلاَّ كان على ابن آدم الأول شطر من دمها؛ لأنه أول مَن سَنَّ القَتْل) [رواه مسلم].

 

عباد الله : مِنْ أجل قتْل ابن آدم أخاه ظُلمًا وعدوانًا، شرع الله على أهل الكُتُب السماوية: أنه مَن قتَلَ نفسًا بغَيْر سبب - من قصاص ونحوه - أو فساد في الأرض، واستحَلَّ القتل بلا سبب ولا جناية، فكأنما قَتَل الناس جميعًا؛ لأنه لا فرْق عند القاتل بين نفْسٍ ونفْسٍ.

 

أيها المؤمنون عباد الله: لقد كثُر القتل، ورأينا جرأة على الدماء المعصومة والأنفس المصونة في كثير من بلاد المسلمين؛ بسبب حروب وصراعات لم تكن مع أعداء العرب والمسلمين، ولا من أجل مناصرة قضايا الأمة، وتحرير أراضيها، وتطهير مقدساتها، ولكنها بين المسلمين بعضِهم البعض، نتيجة مصالح دول كبرى في البلاد النامية الفقيرة، وإشغال أهلها بصراعٍ سياسي يغلف بمسميات مختلفة عنصرية، وتدعم تلك الدول أطراف الصراع في الخفاء والعلن، ليكف أهل الحق عن المطالبة بحقوقهم المنهوبة، وخيراتهم المسلوبة، فينتج عن الظلم ومصادرة الحريات وغياب العدالة الاجتماعية والفقر والأمية؛ قتلٌ بين أبناء الشعب الواحد، وحرب تأكل الأخضر واليابس، ونهب خيرات البدان ومصادرة أرزاق أهلها، والمستفيد الوحيد ليس أي أحد من أطراف الصراع في تلك الدول؛ وإنما المتحاربون على تقسيم الكعكة.

فها هو القتل بين شعوب الدولة الواحدة في العراق وسوريا ولبنان واليمن في خطة مدروسة، وأهداف مرسومة، في حرب صريحة على الإسلام، ومحاولة تشويهه وزعزعة ثقة المسلمين به، وتصويره للعالم على أنه دين القتل والدماء والمذابح والظلم والاضطهاد؛ مستغلين هذه الظروف والأحداث في تأجيج الخلافات المذهبية والحزبية بين المجتمعات وبين الدول.

أين عقول العقلاء؟! أين نهى أهل النهى؟! أين ألباب أهل الألباب ؟!

لقد ذهبت والله، وانتُزعت وربَّ الكعبة .

اسمعوا إلى نبينا r وهو يحذرنا من هذه الفتنة  قال r: ( إن بين يدي الساعة الهرج) قالوا : وما الهرج ؟ قال : القتل إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضا، حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه ، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال : (إنه لتُنزَعُ عقولُ أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء) [صححه الألباني في السلسلة الصحيحة].

والأدهى والأمر يا معاشر المسلمين؛ ما نسمعه ونراه من الظواهر المنتشرة في مجتمعنا هذا، ظاهرة الثأر، تلك الظاهرة التي تعد من أبشع الجرائم وأشنعها، ومن أسوأ الظواهر وأخطرها على الفرد والمجتمع، جريمة تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل، ليس لبدايتها سبب وجيه، ولا لنهايتها عقل رجيح..

نعم -يا عباد الله- إن هذه الظاهرة إذا تفشَّت في مجتمع أو انتشرت في بيئة؛ أوردت أهلها موارد الهلاك، ذلك أنها تفتح أبواب الشر، وتحوّل حياة الناس إلى صراعات لا تنتهي.

إن عادة الثأر من العادات السيئة، ومن بقايا الجاهلية التي كانت منتشرة في الناس قبل الإسلام، ذلك أن هذه الظاهرة تؤدي إلى قتل النفس بغير حق، بل لمجرد أن فلاناً من قبيلة معينة؛ يقتل أي شخص وُجِدَ من تلك القبيلة، وهذا يؤدي إلى الفساد العريض، فيقتل البريء ويترك المجرم القاتل، وبهذا تكثر الصراعات والنزاعات في المجتمعات وخاصة المجتمعات القبلية.

فلما أشرق الإسلام بتعاليمه السمحة، قضى على هذه الظاهرة، وشرع القصاص، حيث يطبق بالعدل، ويقوم به ولي الأمر، وليس آحاد الناس حتى لا تكون الحياة فوضى. وكما قيل:

لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم *** ولا سُــــراةٌ إذا جُهَّــــــــالهم سادوا

أبعد أن أكرمنا الله بالإسلام ونبذ العصبية الجاهلية ، ومقت الثأر ووأده؛ نعود إلى الجاهلية الأولى؟!

عباد الله: إن النفس عزيزة، خلقها الله وكرمها ولا يجوز الاعتداء عليها حتى من صاحبها نفسه، فلا يجوز لمسلم أن يقتل نفسه؛ لأنها ليست مِلكًا له، بل هي مِلك لله وحده سبحانه .. قال تعالى: ﴿ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً﴾ [النساء 29]، فكيف بمن يقتل مسلماً؛ ويباهي بجريمته، ويفرح بها، ويجاهر الله بهذه المعصية التي تهد الجبال، ولا يردعه عنه دين أو قانون أو عرف؟!

﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ [النساء 93] .

وعن عبادة بن الصامت t عن رسول الله r قال: ﴿ من قتل مؤمنًا فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً ﴾ (رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).

عباد الله: إن هذه جرائم القتل وممارستها دليل على الحرمان، وانتكاس البصيرة، والسقوط من عين الله، وهي دليل على ضعف الإيمان والتقوى، واتباع للشهوات والأهواء وسيراً في طريق الشيطان وشبهاته..

 

اللهم إنا نبرأ إليك من دماء سُفكت، ومن أرواح أُزهقت .. نسألك أن تحقن دمائنا ودماء المسلمين وأن تنتقم من الظالمين والمعتدين وأن تردنا إلى دينك رداً جميلا .. ... قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

عن أبي بكرة t قال: خطبنا رسول الله r يوم النحر، فقال: (أي يوم هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال (أليس يوم النحر) قلنا بلى يا رسول الله، ثم قال (أي شهر هذا) قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه قال (أليس ذو الحجة؟) قلنا: بلى، قال: (أتدرون أي بلد هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه، فقال: (أليس بالبلدة؟) قلنا: بلى، قال: (فإن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا، وفي شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟) قالوا: نعم، قال: (اللهمّ اشهد، ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغٍ أوعى من سامع، ألا فلا ترجعُن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) [متفق عليه].

 

أمة محمد: لقد نظر ابن عمر t إلى الكعبة حيث الجمال والجلال والكمال والهيبة والحرمة فقال: "ما أعظمك! وما أشد حرمتك، ووالله للمسلم أشد حرمة عند الله منك"، وقال ابن عمر t: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله"[رواه البخاري].

وعند البخاري أيضاً عن ابن عمر t قال: قال رسول الله r : (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً) [رواه البخاري].

وأعظم من ذلك كله مشهد المقتول مع قاتله في أرض المحشر ، يقول النبي r: (يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل يوم القيامة وأوداجه تشخب دمًا بين يدي الله فيقول: يا رب! سل هذا فيما قتلني؟ حتى يدنيه من العرش) (أخرجه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع: 8031) ..

فماذا ستكون الإجابة؟ أمن أجل دنيا فانية، ولذة عابرة، وهوى متبع؛ يقع المسلم في مثل هذه الجريمة ..

قال الحافظ ابن حجر: قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: (ثَبَتَ النَّهْي عَنْ قَتْلِ الْبَهِيمَة بِغَيْرِ حَقّ، وَالْوَعِيد فِي ذَلِكَ، فَكَيْف بِقَتْلِ الْآدَمِيّ؟!) [فتح الباري (19 / 299)]. 

ألا فلنتق الله ولنحذر سخطه وعقوبته بحفظ دمائنا وأعراضنا وأموالنا.. وعلى المسؤولين، ورجال الأمن، والسياسيين، ومشايخ القبائل، والعلماء، ومؤسسات المجتمع المدني، ومحاضن التربية، ووسائل الإعلام؛ أن يقوموا بدورهم في علاج كل انحراف يصيب مجتمعاتنا، ومن ذلك؛ الوقوف بحزم ضد جرائم القتل والثأر وإزهاق الأرواح، ونشر الخوف وإقلاق الأمن والسكينة .. كل واحد من هؤلاء؛ عليه واجب ومسؤولية حسب مكانته، ومركزه الاجتماعي والسياسي والتربوي والتعليمي، وفي الأسرة والشارع والوظيفة، وأن نكون يدًا واحدةً مع الأمن ورجاله وقادته ومسؤوليه.

ولعل من أهم وسائل علاج جريمة القتل هي تحكيم الشرع، ونشر العدل، وإقامة الحدود، ومعالجة الاختلالات الأمنية والاقتصادية والفقر، وتحسين وتجويد التربية والتعليم، وتبني الخطاب الديني الوسطي الذي يبني ولا يهدم، بعيدًا عن المناطقية والحزبية المقيتة، وتربية الأمة على الإيمان ومراقبة الله والخوف منه.

ولنحذر كل الحذر من أن نتبع كل ناعق تحت أي راية حزبية أو مذهبية أو مناطقية، أو حتى دينية تخالف الدين الصحيح والشرع القويم، ولا نغترَّ بالشعارات؛ فقد رُفعت عبر التاريخ آلاف الشعارات والرايات وسقطت جميعها، وبقي الإسلام الناصع والواضح وبقي الحق وأهله.. ولنحفظ ألسنتنا وأيدينا من دماء المسلمين، فعن أبي سعيد t عن رسول الله r قال: ( لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار) [رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب].

وثقوا بالله وأمّلوا خيرًا، وقوموا بما افترضه عليكم، فالله أرحم بنا من أنفسنا، ويجري الأمور حسب إرادته ومشيئته، ولن يضيع أعمالكم ودعواتكم وإخلاصكم  ... ولن يترك الله الظلمة والمعتدين والبغاة بل سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر القائل سبحانه: ﴿ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ [ السجدة 22].

ما فاز من سفك الدماء وأهدرا     وعلى الجماجم والضلوع تبخترا
يلقــــى الطغاةُ نهــايةً مشؤومــــةً   في يومِ نحسٍ قَمْطَريرٍ أغبَرا
قد يُمهـل اللهُ العبــــادَ لحكمــــــــــةٍ     تخفى ويغفل عن حقيقتها الورى
قل للذي خدعته قــدرةُ ظـــــالمٍ    لا تنسَ أن اللهَ يبقى الأقدرا
اللهم يا من لا تضره معصيتنا، ولا تنفعه طاعتنا أيقظنا من غفلتنا، ووفقنا لمصالحنا، واعصمنا من قبائحنا، ولا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا.. اللهم يا من كان مع يونس في لُجَج البحار، ومع إبراهيم في النار، ومع محمد -صلى الله عليه وسلم- في الغار؛ كن معنا حيث كنا. برحمتك يا أرحم الراحمين.. ....

صلوا وسلموا..

المشاهدات 445 | التعليقات 0