التوحيد والاستقرار ونعمة الأمن في وطننا الخطبة عام 1442

سليمان بن خالد الحربي
1444/02/26 - 2022/09/22 09:59AM

 

 

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينَهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ محمَدًا عبدُه ورسولُه، صَلَّى اللهُ علَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ واقْتَفَى أَثَرَهُ إلى يَوْمِ الدِّينِ، وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

مَعْشَرَ الإِخْوَة: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأُصُولِ التِي جَاءَتْ بهَا الشَّريعَةُ وحرصتْ عَلى توفُّرِهَا في الدولَةِ المسلِمَةِ وجعلَتْ أحكَامَهَا الشرعِيَّةَ تُعِينُ علَى هذَا هُوَ مُرَاعَاةُ أصلِ الاستقْرَارِ في الدَّولةِ بأنواعِهِ المختلفَةِ؛ منَ الاستقرارِ السياسِي والاجتمَاعِي والاقتصادِي والأسَرِي والنَّفْسِي.

ولقَدْ سدَّتِ الشريعَةُ أبوابَ الفوْضَى والنزاعِ سدًّا حاسمًا، سَوَاءٌ في علاقَةِ الناسِ معَ بعضِهِمْ مِنْ تَحريمِ الظلْمِ والفسَادِ والبَغْي والفُجُورِ، أو في علاقَةِ الناسِ معَ السلطَةِ والحاكِمِ، كلُّ هذَا لأجلِ حصولِ الاستقرارِ، وهلْ هناكَ أعظَمَ منْ أمْرِ الصلاةِ بعدَ الشهادَتَينِ؟! ومعَ هذَا تأمَّلُوا مراعَاةَ الشريعَةِ للاستقرَارِ في هَذَا الحكْمِ الشرعِيِّ في أمْرِ الصلاةِ، ففي صَحيحِ مُسلمٍ: عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-: «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟»، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِى؟ قَالَ: «صَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ».

وفي صَحِيحِ مسلْمٍ: عنِ ابنِ مسعودٍ قَالَ: «إِنَّهُ سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ مِيقَاتِهَا وَيَخْنُقُونَهَا إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَصَلُّوا الصَّلاةَ لِمِيقَاتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً».

والمقصودُ بتأخيرِ الصَّلاةِ هُنَا تأخيرُهَا عنْ وقتِهَا المختارِ، وجمهورُ أهْلِ العِلْمِ علَى تحرِيمِ تأخيرِ الصلاةِ إلَى وقتِ الضرورَةِ منْ غيرِ عذْرٍ، ومَعَ هذَا لمْ تجعلِ الشريعَةُ هذَا حجَّةً لإحْدَاثِ الفوْضَى والتفريطِ في نعمَةِ الاستقرَارِ، ولهذَا نهتِ الشريعَةُ عنِ التفرُّقِ وأمرتْ بِالاعتصَامِ بحبْلِ الله جميعًا في قولِهِ تعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]، فإنَّهُ تعَالَى في هذِهِ الآيةِ يحذِّرُ المسلِمِينَ منْ أنْ يكونُوا في دينِهِمْ كمَا كانَ المشركونَ في دِينِهِمْ.

وتفريقُ دينِ الإسلامِ هوَ تفريقُ أصولِهِ بعدَ اجتماعِهَا, وهُوَ كلُّ تفريقٍ يُفْضِي بأصْحَابِهِ إلى تكفِيرِ بعضِهِمْ بعضًا, ومقاتَلَةِ بعضِهِمْ بعضًا في الدِّينِ, وليسَ في الإسْلامِ جنَايَةٌ أعظَمَ عندَ اللهِ تعالَى بعْدَ الكُفْرِ منْ تفريقِ الجمَاعَةِ, الَّتِي بهَا تأتَلِفُ القلوبُ, وتجتَمِعُ الكلِمَةُ؛ كمَا في قولِهِ تعالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

قالَ ابنُ مسعودٍ -رضِيَ اللهُ عنْهُ: «يا أيُّهَا النَّاسُ، عليكُمْ بالطاعَةِ والجمَاعَةِ, فإنهَا حبْلِ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- الذِي أمَرَ بِهِ, ومَا تكرهُونَ في الجمَاعَةِ خيرٌ ممَّا تحبونَ في الفُرْقَةِ».

والفرقَةُ والخلافُ لا تكونُ إلَّا عنْ جهلٍ وهوى؛ كمَا أنَّ الجماعةَ والائتلافَ لا تكونُ إلَّا عنْ علمٍ وتقوَى، ومنْ أعظَمِ أسبابِ الاستقرَارِ: توحيدُ ربِّ العالمينَ، ونبذُ الشِّرْكَ، وهوَ شرطُ الجماعةِ الَّذِي أمرَنَا اللهُ أنْ نتصفَ بِهِ وهوَ أعظمُ مقومَاتِهِ وصفَاتِهِ، ولا يمكنُ أنْ تتوحدَ الأمَّةُ علَى غيرِهِ، فالجماعَةُ والائتلافُ لا تكونُ إلا علَى التوحيدِ؛ كما قالَ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمِ- في الحدِيثِ المتفقِ عليْهِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فإذا فَعَلُوا ذلك عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ على اللهِ».

قالَ ابنُ تيميةِ -رحمَهُ اللهُ-: «والاعتصامُ إنمَا يكونُ في الجماعَةِ، ودينُ الإسلامِ وحقيقَتُهُ الإخلاصُ للهِ».

وقدْ جاءَ في صحِيحِ مسلِمٍ: عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-: «إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ».

قال السعدي: فإنَّ في اجتِمَاعِ المسلمينَ علَى دينِهِمْ، وائتلافِ قلوبهِمْ يَصْلحُ لهمْ دينهُمْ وتصلحُ دنياهُمْ، وبالاجتمَاعِ يتمكنُونَ منْ كلِّ أمرٍ منَ الأمورِ، ويحصلُ لهمْ منَ المصالِحِ التي تتوقَّفُ على الائتِلافِ ما لا يمكنُ عدُّهَا؛ منَ التعَاونِ على البِرِّ والتقْوَى، كمَا أنَّ بالافترَاقِ والتعَادِي يختلُّ نظامُهُمْ، وتنقطِعُ روابطهُمْ، ويصيرُ كلُّ واحدٍ يعملُ ويسعَى في شهوةِ نفسِهِ، ولَوْ أدَّى إلى الضَّررِ العامِّ».

أعوذُ باللهِ منَ الشيْطَانِ الرجِيمِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِـمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.


الخُطْبَةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ على إحسانِهْ، والشُّكْرُ على توفيقه وامتنانِهْ، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ تعظيمًا لشأنِهْ، وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى جَنَّتِهِ ورِضْوَانِهْ، صَلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأعوانِهْ، أمَّا بَعْدُ:

معْشَرَ المصلِّينَ: إنَّ الاستقرارَ يعدُّ بداهةً أحدَ أهمِّ المقومَاتِ لنَشْرِ الشريعَةِ والعِلْمِ والأمْنِ، وحدوثِ التنميةِ الاقتصادِيَّةِ، وهذَا يعْنِي أنَّ اختلالَهُ دليلٌ علَى اختِلالِ مسيرَةِ التنمِيَةِ، وأَهَمُ أسبَابِ التخلُّفِ في كثيرٍ منَ الدُّولِ النَّاميَةِ الاضطرَابَاتُ السياسِيَّةُ والاجتماعيَّةُ والاقتصاديَّةُ التي تسودُ فيهَا، وإذَا انتشرتِ الفوْضَى في بلَدٍ فلا يملكُ أحدٌ إيقافَهَا؛ لأنَّ الفوْضَى لا حَدَّ لهَا ولا عدَّ، فكيفَ إذَا كانَ بينَهُمُ المتربِّصُ والمنافِقُ، وقَدْ فُتحَ لهُمْ ميدانُهُمْ وساحَتُهُمْ؟!

وإنَّنَا في بلدِنَا بحمْدِ اللهِ نسيرُ علَى منهَجٍ واضحٍ لا يمكنُ أن يغيرَهُ حاقدٌ أو معارِضٌ، فعقيدتُنَا بحمدِ اللهِ واضحةُ المعالمِ، راسخةُ الأصولِ، محفُوفَةٌ بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ -صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ- وإجماعِ العلمَاءِ، تَدرسُهَا الأجيالُ في مدارسِهِمْ وجامعاتِهِمْ، عقيدةٌ وسطيةٌ ربانيَّةٌ، تقبلُهَا الفِطَرُ، راسخةٌ ثابتَةٌ، نتمسَّكُ بهَا في السَّراءِ والضَّراءِ، في العُسرِ واليُسرِ، في المنشَطِ والمكْرَهِ، في الفَقْرِ والغِنَى، وقدْ خابَ منْ إذَا أُعْطِي قالَ: إنَّا معكُمْ! وإذَا مُنِعَ إذَا هُمْ يسخطُونَ ويبدلونَ.

روَى البخاريُّ في صَحيحِهِ: عن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: «ثَلاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ» الحدِيثُ.

فاللَّهُمَّ احفَظْ علَيْنَا أمْنَنَا وعقيدَتَنَا ورخاءَنَا واجتمَاعَ كلمتِنَا، ولا حوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا بِكَ.

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ الهُدَى وَإِمَامِ الوَرَى، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِينَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ الـمَهْدِيينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وكَرَمِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ ...

 

المرفقات

1663829985_التوحيد والاستقرار ونعمة الأمن في وطننا.docx

المشاهدات 1139 | التعليقات 0