التوبة واستقبال رمضان

عبدالله محمد الطوالة
1444/08/25 - 2023/03/17 06:56AM

الحمدُ للهِ العفوِ الغفورِ, الذي غَمرَ بستره فأَجمَلَ، الكريمِ الشكورِ, الذي عمَّ ببره فأَجزلَ، الرحيمِ المحسِنِ, الذي أتمَّ إحسانهُ على المؤمنين فأكمَلَ، القيومُ الدائمُ, الذي لا يتغيرُ ولا يتبدلُ، سبحانهُ وبحمدهِ، لا يُسألُ عما يفعلُ، وكلُّ من سواهُ فيُسألُ ..

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} .. وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ .. صاحبُ الغرةِ والتحجيلِ، الهادي إلى أقومِ سبيلٍ، صلّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آله وأصحابهِ أجمعينَ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً ..

أمَّا بعدُ: فيا أيها النَّاسُ أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا يا عباد اللهَ، فتقوى اللهِ خيرُ ما تزودتم، وأفضلُ ما ادَّخرتُم، وأكرَمُ ما أسررتُم، وأجملُ ما أظهَرتُم .. {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ..

معاشر المؤمنين الكرام: العاقلُ الموفق: من تفكّرَ في مآله، فجدَّ واجتَهدَ في صالح أعمالِه، نظرَ في المصِير, فجانَبَ التّقصيرَ، خافَ من ذُلِّ المقامِ بين يديِّ الملكِ العلام، فاجتنَبَ الحرامَ وهجرَ الأثام .. وللهِ درُّ أقوامٍ إِذا مسَّهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، نظروا في عيوبهم, فاستغفروا لذنوبهم، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} .. يا عباد الله: من بادرَ الأعمالَ استدركَها، ومن جاهَد نفسَه مَلكَها، ومن سارَ على الطريق سَلكها، ومن طلب التّقوى بصدقٍ أدركها .. {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} ..

ها هي التوبةُ يا عباد الله: قد فُتِحتَ لنا أبوابُها .. وحلَّ بيننا زمانها وآنَ أوانُها .. فهلمَّ أيَّها الكرام: هلمَّ لنجدِّدَ توباتنا، هلمَّ لنفِرَّ سِراعا إلى مولانا ومالك أمرنا .. فهو القائلُ سبحانه وبحمده: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .. فأدعوكم أحبتي في الله ونفسي, أدعوكم لأن نفتحَ صفحةً جديدةً مع الله، ولتكن صفحةً بيضاءَ مُشرقة، نبدأها بتوبةٍ ناصحةٍ صادقةٍ، ونيَّةٍ وعزيمةٍ مُؤكدةٍ محقَّقة، وأنَّ لا نفرِّطَ كما فرطنا في الفرص السابقة،  فرحمَ الله عبداً سارعَ إلى طاعة ربهِ ومولاه، واتخذَ قرارهُ عازماً وغلبَ هواه؛ فكان له من عظيم الأجرِ ما تقرُّ به يومَ القيامةِ عيناه: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ..

ثم اعلموا يا عباد الله أن التوبة ليست لمغفرة الذنوبِ فقط، بل هي بذاتها عبادةٌ جليلةٌ مُستقلةٌ، مُطلوبةٌ من الجميع, من الصالح والطالح، من المحسن والمسيء، من المذنب وغير المذنب، فالجميعُ مُطالبٌ بالتوبة، وبشكلٍ مُستمرٍ ومتجدِّد، وفي كلٍّ وقتٍ وحين .. تأمَّل قولَ الحقِّ جلَّ وعلا: {وَتُوبُوا إِلى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ} .. وقولهِ عليه الصلاة والسلام: "يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوبُ إلى الله في اليوم مائةَ مرة"، فإذا كان هذا حالُ سيدِ البشر، من غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما الذي ينبغي أن يكونَ عليه حالُ المقصرين أمثالنا .. ثم إنَّ التوبةَ يا عباد الله: من أحبِّ الأعمالِ الصالحةِ إلى اللهِ، ففي الحديث الصحيحِ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن أَحَدِكُمْ إِذَا اسْتَيْقَظَ علَى بَعِيرِهِ، قدْ أَضَلَّهُ بِأَرْضِ فلاةٍ" ..

وإذا كان المؤمنون جميعاً مُطالبون بالتوبة، بنصِّ قولهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً}، فهذا دليلٌ على شدَّةِ أهميتها، وعلى أنَّ الجميعَ في أمسِّ الحاجةِ إليها .. وكما أنَّ المؤمنينَ جميعاً في احتياجٍ مُتجدِّدٍ للهدايةِ .. ولذلك يدعونَ اللهَ باستمرار: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .. فهم كذلك جميعاً في احتياجٍ مُتجدِّدٍ للتَّوبة .. فجدِّدوا يا عباد الله توبتكم، وتداركوا بصادق الرغبةِ ما فاتكم، واحذروا الغفلاتِ فإنَّها دركاتٌ، وبادِروا نفيسَ الأوقاتَ، واستكثِروا من الطاعات والصالحات، ونافسوا في الخيرات والمكرمات، وتعرضوا للرحمات والنفحات .. والجِدَّ الجِدَّ تغنَمُوا، والبِدارَ البِدَارَ أن لا تندَمُوا، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ..

أحبتي في الله: هلمَّ لنتوب، هلمَّ لندخلَ على ربنا التواب الرحيمِ بقلبٍ نادمٍ مُتألم، ونفسٍ خاضعةٍ مُنكسِرة، لسانُ الحالِ والمقال: إلاهِي ومولاي وسيدي: يا رب .. يا ربِّ ..

بك أستجيرُ فمن يُجيرُ سِواكـا .. فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكـا ..

يا غافرَ الذنـبِ العظيـمِ وقابـلاً .. للتـوب، قلـبٌ تائـبٌ ناجـاكـا ..

 يارب عُدت إلـى رحابـك نادِمـاً .. مُستسلمـاً مستمسِكـاً بعـراكـا ..

أدعـوك ياربِّ لتغفـر حوبتـي .. وتُعينـنـي وتمـدنـي بهـداكـا ..

فاقبل دُعائي واستجب لرجاوتـي .. ما خابَ يوماً من دعـا ورجاكـا ..

هلمَّ يا عباد اللهِ لنتوب: فالتّوبةُ من أعظمِ العباداتِ وأحبِّها إلى الله جلَّ وعلا .. بل إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يفرحُ بتوبتنا فرحاً عجِيباً لا تُستطيع العِباراتُ وصفُه، ففي صحيح مسلم: قال رسول الله ﷺ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ" ..

هلمَّ يا عباد اللهِ لنتوب: فقدوتنا وأمامنا وحبيبنا ﷺ كان يتوبُ في اليوم الواحد أكثرَ من سبعينَ مرةً، وفي رواية أكثرَ من مائة مرة .. والحديث في البخاري ..

هلمَّ يا عباد اللهِ لنتوب: فربنا العظيمُ الرحيمُ جلَّ جَلاله يَنزِلُ في كُلِ ليلةٍ إلى سماءِهِ الدُّنيا نزولاً يليقُ بجلاله وكماله، فينادي: «هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مُستغفر فأغفر له ؟ .. وجاء في البخاري ومسلم: أن الله تبارك وتعالى: "يبسُطُ يدَهُ بالليل ليتوبَ مُسيءُ النهارِ، ويبسُطُ يدَهُ بالنهار ليتوبَ مُسيءُ الليل حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها" ..

هلمَّ يا عباد الله لنتوب: فربُّنا العفو الغفور يقولُ عن نفسه العلية: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} .. ويقولُ جلَّ وعلا: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .. وصحَ عنهُ ﷺ أنه قال: "التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ" ..

هلمَّ يا عباد الله لنتوب: فاللهُ جلَّ وعلا يقول: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ويقولُ تعالى: { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} ..

هلمَّ يا عباد الله لنتوب: فربُّنا الكريم الرحيم يُنادِينا: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .. ويكرِّرُ النِداءَ ويُنوعُه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} .. ويبشرنا بالقبول، فيقول: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .. بل إنه جلَّ وعلا بواسع رحمتهِ، وعظيمِ كرمهِ، يبدلُ السيئاتِ إلى حسنات, فيقول سبحانه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} ..   أقول ما تسمعون ...

 

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده اللذين اصطفى، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين، فَعَلَى قَدرِ الصِّدقِ يَكُونُ الفَوزُ والفلاح، قال جلَّ وعلا: {فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}، ولا بدُّ للصدق من دليلٍ عملي: قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ..

معاشر المؤمنين الكرام: لا شكَّ أنَّ شهرَ رمضانَ المبارك، هو أعظمُ مواسِمِ المؤمنِ وأغلاها، وأفضلِها وأشرفِها وأزكَاها .. إنهُ موسمٌ نفيسٌ جليل، ليسَ لهُ في المواسمِ شبيهٌ ولا مثيل .. فاسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يبلغنا وإياكم شهر رمضان ... وأبشركم كما كانَ المصطفى ﷺ يبشرُ أصحابه فيقول: "أتاكم رمضان, شهرٌ مبارك، فرضَ اللهُ عليكم صيامه, تُفتحُ فيه أبوابُ السماء، وتُغلَّقُ فيه أبوابُ الجحيم، وتُغلُّ فيه مردةُ الشياطين، للهِ فيه ليلهٌ خيرٌ من ألف شهر، من حُرمَ خيرها فقد حُرم" .. ويقول ﷺ: "أتاكُم شهرُ رمضان، شهرُ بركةٍ، يغشاكُمُ الله فيه برحمتِه، ويحُطُّ الخطايا، ويستجيبُ الدعاءَ، ينظرُ إلى تنافُسِكُم فيه، ويُباهي بِكُم ملائكتَه، فَأروا الله مِن أنفُسَكُم خيراً، فإن الشقيَّ من حُرِمَ رحمَة الله"..

وحُقَّ والله للمؤمن أن يُبشرَ بموسمٍ مبارك, تتضاعفُ فيه فُرصُ الفوز والغنيمة، وتكثرُ فيه عوامِلُ فرصُ التوفيق وقوةُ العزيمة، وتُزالُ عنهُ المعوقاتُ والمثبطات .. فَمَرَدَةُ الشياطينِ قد صُفِّدت، وسحائِبُ الإيمانِ قد هبَّت وأقبلت، وبيوتُ اللهِ قد ازدانت وتهيَّئت، وأبواب السماء والجنان تفتحت، ونفحاتُ الرحمنِ تنزَّلت، ودعواتُ المسلمين تظافرت وكثرت، وقلوب الصائمين لانت ورقَّت، ونفوسُ تشوَّقت وترقَّبت ..

فحري بالمسلم يا عباد الله: أنَّ يقْدِرَ لرمضان قدْرَه، وأنَّ يعرفَ له شرفَهُ وفضلَه، وأنَّ يستقبلهُ أحسنَ استقبال، وأن يفرحَ بقدومه غاية الفرح، وأنَّ يستعِدَّ له أحسنَ الاستعداد، وأنَّ يُقبِلَ عليه أفضلَ الإقبال .. فهي يا عباد الله مُناسبةٌ غاليةٌ ثمينة، وأوقاتٌ مميزةٌ نفيسةٌ، والسعيدُ واللهِ من اغتنمها، وبالطاعة عَمرَها واستثمرَها .. وواللهِ لو قيلَ لأهل القبورِ تمنّوا, لتمنوا يوماً من رمضان ..

فيا من أدركَ رمضان، استشعر قيمةَ ما وُهِبَ لك، وبادِر فُرصتك .. واعلم أنَّ اللهَ جلَّ جلالهُ يدعوك للمُسَابَقَةِ في الخيرات، وَيدعوك للمُنَافَسَةِ والمُسَارَعَةِ في الطاعات، يقولُ جلَّ وعلا: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} .. وَيقَولُ سبحانهُ وبحمده: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ * في جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ..

وتَأَمَّلُوا عِبَادَ اللهِ قَولَ رَبِّكُم جَلَّ وَعَلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، لِتَعلَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ استَقرَضَكُم أَموَالَكُم، واستقرضكم أَوقاتَكُم، واستقرضكم أَعمَالَكُم، لِيُوَفِّيَكُم أَجَورَكُم مضاعفةً أضعافاً كثيرة .. في صحيح مسلم، قال ﷺ: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إلى سَبْع مِائَة ضِعْفٍ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به".. فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله, وَاستَعِدُّوا لرمضان، وَاعقُدُوا العَزمَ عَلَى المُتَاجَرَةِ مَعَ اللهِ بِأَحسَنِ مَا تَجِدُونَ ..

واستعيذوا بالله أن تمرَّ بكم مواسِمُ الخيرِ وفرصُ الفوز والسعادة، ثم لا تَزدادون هُدىً، ولا ترعوونَ عن هوىً .. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ: "بمحلوف رسولِ اللهِ ﷺ ما أتى على المسلمين شهرٌ خيرٌ لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهرٌ شرٌّ لهم من رمضان، ثمَّ قال في نهاية الحديث: هو غُنمٌ للمؤمن، ونِقمةٌ للفاجر) ..

نعم أحبتي في الله: رمضانُ فُرصةٌ, وأيّ فرصة، زمانٌ, وأيُّ زمان، فاتقوا عباد الله في هذه الفرصةِ الغالية، وحفزوا هممكم، وشدّوا عزائمكم، وابذلوا قصارى جهدكم، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، وعليكم بالصبر والمصابرة، والجدّ والمثابرة .. فبالجدِّ والاجتهاد فاز من فاز، وسعُدَ من سعُد .. فاصدقوا اللهَ يصدقكم، واستقبلوا شهركم بتوبة نصوح، وعودةٍ صادقة، ونيةٍ وعزِيمة محققة، استروحوا روائِح الجنان، وتعرضوا للنفحات الكريم الرحمن، وتزودوا بزاد التقوى والإيمان .. بلغني الله وإياكم شهر البر والتقوى والإحسان، وجعلنا فيه ودوماً من أهل الذِّكر والقرآن ..

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان .. اللهم صل على محمد ..  

المشاهدات 799 | التعليقات 0