التلقي والاستدلال عند أهل السنة
د. محمود بن أحمد الدوسري
1438/10/03 - 2017/06/27 08:09AM
التلقي والاستدلال عند أهل السنة
د. محمود بن أحمد الدوسري
28/6/1436هـ
الحمد لله ...
إخوة الإسلام .. إن مصادر أهل السنة والجماعة في التلقي والاستدلال متعددة ومتنوعة, ولكنها منضبطة بضابط الشرع, ومرتبطة بالوسطية التي اتسم بها أهل السنة والجماعة, وهذه المصادر نوعان:
1- مصادر أصليَّة: وهي: الكتاب والسنة, وما يُبنى عليهما من الإجماع.
2- ومصادر فرعيَّة: وهما: العقل الصحيح, والفطرة السليمة.
أ - والعقل له منزلة عظيمة عند أهل السنة والجماعة؛ حيث رفع الإسلام منزلته, واعتنى به عناية فائقة, ومن معاني العقل المذكورة في القرآن الكريم: التفكُّر, والاعتبار, والتَّذكُّر, والتَّدبر, والنَّظر إلى مخلوقات الله تعالى.
وأهل السنة والجماعة لم يُعطِّلوا العقلَ, بل أعطوه المكانة اللائقة به, ولم يُقدِّموه على الغيب, ولم ينصبوه حاكماً على النصوص الشرعية, ولم يفترضوا التعارض بين العقل والنقل, بل العقل الصريح لا يُعارض النقلَ الصحيح, ولم يُهملوا العقل ويُقلِّلوا من شأنه, بل استعملوه فيما يوافق الشرع ويعضده.
وفي المقارنة بين موقف أهل السنة وبين المبدعة من العقل يقول السمعاني – رحمه الله: (واعلم أنَّ فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل؛ فإنهم أسَّسوا دينهم على المعقول, وجعلوا الاتِّباع والمأثور تبعاً للمعقول, وأمَّا أهل السنة قالوا: الأصل الاتباع, والعقول تبعٌ, ولو كان أساس الدِّين على المعقول؛ لاستغنى الخلق عن الوحي, وعن الأنبياء صلوات الله عليهم, ولَبَطَل معنى الأمر والنهي, ولَقَال مَنْ شاء ما شاء).
فالعقل مصدر من مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السنة, به تُفهم النصوص, وتُستنبط الأحكام, وتُخَرَّج الفروع على الأصول, وتُسْقَط النصوصُ على الوقائع, وتعطيلُ العقل يعني انتفاءَ أهليةِ الإنسان للفتوى والفقه والعلم؛ فالعقل شرطٌ أساس التكليفات الشرعية, إذ يسقط عن الإنسان غيرِ العاقل التكليفُ الشرعي.
وأهل السنة لم يغالوا في العقل مغالاة غيرهم, حيث عرفوا حدوده فالتزموها ولم يتعدوها, وجعلوه تابعاً لنصوص الوحي, وليس العكس كما عند غيرهم، إذ أنَّ النص مقدَّم على العقل, ولذا قالوا: "لا اجتهاد مع نص" .
ب - وأما الفطرة السليمة: فأصل دليلها مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم : (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ, أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) رواه البخاري ومسلم.
والمقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ) هي ما أُخِذَ عليهم في أصلاب آبائهم, وأنَّ الولادة تقع عليها حتى يحصل التغيير بالأبوين. والمراد من الحديث: أنَّ الله تعالى فَطَرَ الناس على دين الإسلام, ولكن هذه الفطرة قد تُغيَّر وتُبدَّل بحسب التنشئة والتربية.
وكون الفطرة مصدراً من مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السنة لا يُقصد به أنهم يعتمدون عليه دليلاً على مسائل الاعتقاد أو العبادات؛ فالفطرة لا تصلح لذلك على الإطلاق, ولم يقل بهذا القول أحد من قبل.
غاية ما هنالك: أنَّ الفطرة الموجودة في كلِّ إنسان قابلة لاعتناق الحق والإيمان به؛ لأنه متوافق مع طبيعتها وما جُبلت عليه.
أيها الأحبة الكرام .. ومن عظمة منهج أهل السنة في التلقي أنهم يعتصمون بالكتاب والسنة في كل شؤونهم, متَّبعون للمُحكم, مؤمنون بالمُتشابه, ولا يُعارضون النصوص بالعقول البشرية.
قال ابن تيمية – رحمه الله: (وقد أمر الله بطاعة رسوله في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن, وقرن طاعته بطاعته, وقرن بين مخالفته ومخالفته, كما قرن بين اسمه واسمه, فلا يُذكر الله إلاَّ ذُكِرَ معه).
والقرآن الكريم والسنة النبوية هما مصدر التلقي والاستدلال الأوَّل عند أهل السنة والجماعة؛ فمن خلال نصوصهما عُرِفَ اللهُ تعالى, وعُرِفتْ شريعتُه وكيفية عبادته, وعُرفتْ أخبار الأمم السابقة والقرون الماضية, وعُرِفَ مصير الإنسان ونهايته, وهي أمور لا مجال فيها للعقل؛ لأنها لا تأتي إلاَّ من خلال الوحي.
معشر الفضلاء .. ومن عظمة منهج أهل السنة في الاستدلال أنهم يستدلون على أصول الاعتقاد بالكتاب والسنة:
فهما العمدة في معرفة أصول الدِّين وفروعه؛ لذا شملت نصوصُهما الدِّين كلَّه, فيجب الأخذ بجميع نصوصهما, والتسليم لهما, والانقياد لأمرهما, وتلقي خبرهما بالقبول والتصديق, ولم يكن أحد من السلف الصالح يُعارض القرآن والسنة بمعقوله ولا خياله, بل كل أقوال الناس وآرائهم تُعرض على الكتاب والسنة, ولا يُقبل منها إلاَّ ما وافق الكتاب والسنة, دون ما خالفهما.
وكان الصحابة الكرام – رضي الله عنهم - مستسلمين للنصوص مُتمسِّكين بها, ولم يقع بينهم تنازع في مسائل الصفات, كما وقع عند المتأخرين من أهل الأهواء والبدع, وفي ذلك يقول ابن القيم – رحمه الله: (تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ – رضي الله عنهم - في كَثِيرٍ من مَسَائِلِ الأَحْكَامِ, وَهُمْ سَادَاتُ الْمُؤْمِنِينَ, وَأَكْمَلُ الأُمَّةِ إيمَانًا, وَلَكِنْ بِحَمْدِ اللَّه لم يَتَنَازَعُوا في مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ من مَسَائِلِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالأَفْعَالِ, بَلْ كلُّهم على إثْبَاتِ ما نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ, كَلِمَةً وَاحِدَةً من أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ, لم يَسُومُوهَا تَأْوِيلاً, ولم يُحَرِّفُوهَا عن مَوَاضِعِهَا تَبْدِيلاً, ولم يُبْدُوا لِشَيْءٍ منها إبْطَالاً, وَلا ضَرَبُوا لها أَمْثَالاً, ولم يَدْفَعُوا في صُدُورِهَا وَأَعْجَازِهَا, ولم يَقُلْ أَحَدٌ منهم يَجِبُ صَرْفُهَا عن حَقَائِقهَا, وَحَمْلُهَا على مَجَازِهَا, بَلْ تَلْقَوْهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ, وَقَابَلُوهَا بِالإِِيمَانِ وَالتَّعْظِيمِ, وَجَعَلُوا الأَمْرَ فيها كُلِّهَا أَمْرًا وَاحِدًا, وَأَجْرَوْهَا على سَنَنٍ وَاحِدٍ, ولم يَفْعَلُوا كما فَعَلَ أَهْلُ الأهْوَاءِ وَالْبِدَعِ, حَيْثُ جَعَلُوهَا عِضِينَ, وَأَقَرُّوا بِبَعْضِهَا, وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا من غَيْرِ فُرْقَانٍ مُبِينٍ).
عباد الله .. يستدل أهل السنة على أصول الاعتقاد – بعد الكتاب والسنة - بالإجماع, والعقل, والفطرة:
* ومن دلالات الإجماع على مسائل الاعتقاد:
1- وحدة المصدر الذي تلقَّوا عنه, واستدلوا به على مسائل الاعتقاد, وهو (الكتاب والسنة), وما عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو تعدَّدت المصادر لتعدَّدت الرُّؤى والاتجاهات ولا استحال الإجماع.
2- وحدة منهج أهل السنة, فرغم تباعدِ ما بينهم من الأمصار, وتفرُّقِهم في الأقطار, وانتشارِهم على مدار الزمان إلاَّ أنَّ منهجهم واحد لم يخرجوا عنه ولم يحيدوا.
3- صِدْقُ التَّوجُّه والمقصد, إذ أنهم بَلَغوا من التجرُّد لله, والإذعان للحق, والتسليم للدليل مبلغاً عظيماً, فقدَّموا الحقَّ على كلِّ ما سواه من الهوى والميل والعقل, وهذا من صفاءِ سريرتهم, ونقاءِ صدورهم, وقوةِ إيمانهم.
* ومن مجالات العقل الصحيح في مسائل الاعتقاد:
أنه لا يُقحم في الأمور الغيبية, إذ لا مجال للعقل أنْ يُفصِّل فيها؛ كصفات الله تعالى وأفعاله سبحانه, وحقائق اليوم الآخِر من البعث, والحساب والجزاء, والجنة والنار, والعقل وإنْ كان لا يُدرك حقيقة هذه الأمور الغيبية, إلاَّ أنه لا يُحيل ذلك ولا يمنع إمكان وجوده.
أيها الإخوة الكرام .. لكن هناك مجالات عُلِمت بالمقاييس العقلية؛ كإثبات وحدانية الله تعالى, وربوبيته, وقد جاءت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة دالة عليها؛ بالدلالة الخبرية, وبالدلالة العقلية.
والقرآن الكريم مليءٌ بالأمثلة العقلية, والصور المادية, والأقيسة المنطقية, والحجج والبراهين التي تُخاطب العقل؛ لِيُثْبِتَ من خلالها قضايا العقيدة ومسائلها.
وأهل السنة وقفوا موقفاً وسطاً بين العقل والنقل, فلم يغالوا في العقل على حساب النقل, ولم يُهملوا النقلَ لصالح العقل؛ وإنما آمنوا بالنقل, وأعملوا العقلَ.
الخطبة الثانية
الحمد لله ...
* ومن دلالة الفطرة السليمة على مسائل الاعتقاد:
أ - دلالة الفطرة على (توحيد الربوبية): الإقرار بوجود الله تعالى, وربوبيته على خلقه أمر فِطري ضروري, فَطَر الله تعالى قلوب عبادَه على ذلك.
ب - دلالة الفطرة على (توحيد الألوهية): إذ فطر الله قلوب عباده على معرفته, ومحبَّته, وتعظيمه, والإخلاص له, ولم تأت الرسل الكرام لتعرِّف الناس بوجود الخالق, وإنما أتت للدعوة إلى التوحيد ونفي الشرك, وبيانِ أمر العبودية وتفصيلِه على نحوٍ لا تستقلُّ الفطرة بالعلم به.
ج - دلالة الفطرة على (توحيد الأسماء والصفات): إذ فُطِر الخلق على تعظيم الله تعالى وإجلاله, وأنه سبحانه أكبر وأجلُّ وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كلِّ شيءٍ, وهذا مستقر في الفطر السليمة.
واستقر أيضاً في الفِطر الكمالُ المطلق لله تعالى, وأنه سبحانه لا نْقَصَ في صفاته العلية بوجهٍ من الوجوه, فله الكمال المطلق سبحانه في ذاته وفي صفاته وأفعاله, ولكن معرفة هذا الكمال على التفصيل مِمَّا يتوقَّف على إرسال الرسل, وكذلك تنزيهه سبحانه عن النقائص والعيوب هو أمر مستقر في فِطَرِ الخلائق.
ومن أبرز الأمور المُستقِرَّة في فِطر الناس العلمُ بعلو الله تعالى فوق العالَم, ولذا نجد الخلق إذا أضر بهم أمر وشدة توجهوا بقلوبهم إلى الله وحده لا شريك له, يدعونه ويسألونه, ويرفعون أيديهم حال الدعاء إلى جهة العلو.
وأهل السنة لا يجعلون الفطرة وسيلةً من وسائل المعرفة العقدية, وإنما جعلوها دلالةً على ما جاءت به الرسل, وما أخبرهم به القرآن, وذكرته لهم السنة النبوية.
إخوتي الكرام .. ومن عظمة منهج أهل السنة في الاستدلال:
* أنهم يعملون بالمحكم ويؤمنون بالمتشابه من نصوص الكتاب والسنة, ويَكِلُون ما أشكل عليهم إلى عالِمِه, بخلاف أهل البدع والضلال الذين يتَّبعون المتشابه, ويتركون المُحْكَم؛ لذا حذَّرنا النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفعل السَّيِّئ:
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: تَلاَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هذه الآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
قالت: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فإذا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ, فَأُولَئِكِ: الَّذِينَ سَمَّى اللهُ, فَاحْذَرُوهُمْ) رواه البخاري ومسلم.
فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يحذِّرنا من الذين يتَّبعون الآيات المُتشابهة, ويتركون المُحْكَم منها؛ بقصد أن يفتنوا الناس عن دينهم ويُضلُّوهم, فهؤلاء هم الذين سمَّاهم الله تعالى أهلَ الزَّيغ, فأمَرَ صلى الله عليه وسلم بالحذر منهم والتَّوقِّي من شرِّهم وضلالهم, بعدم مُجالستهم ومُؤاكلتهم؛ فإنهم أهل الزَّيغ والبدع والفساد, فحقُّهم أن يُهجروا في الله تعالى.
* ومن دلالة القرآن على "العمل بالمحكم" و"الإيمان بالمتشابه" :
أن يُردَّ المتشابه إلى المُحكم, والخفي إلى الجلي؛ فإن القرآن العظيم يُصدِّق بعضه بعضاً, {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].
* ومن دلالة السنة على "العمل بالمحكم" و"الإيمان بالمتشابه" :
1- قول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْقُرْآنَ لم يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضاً, بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً, فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ, وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ) صحيح – رواه أحمد.
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: (نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ, الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا, وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ) صحيح – رواه أحمد.
قال ابن رجب – رحمه الله: (اتَّفق السلف الصالح: على إمرارِ هذه النُّصوص كما جاءت من غير زيادةٍ, ولا نقصٍ، وما أشكلَ فَهْمُه منها، وقَصُرَ العقلُ عن إدراكه وُكِلَ إلى عالِمِه).
الدعاء ...
د. محمود بن أحمد الدوسري
28/6/1436هـ
الحمد لله ...
إخوة الإسلام .. إن مصادر أهل السنة والجماعة في التلقي والاستدلال متعددة ومتنوعة, ولكنها منضبطة بضابط الشرع, ومرتبطة بالوسطية التي اتسم بها أهل السنة والجماعة, وهذه المصادر نوعان:
1- مصادر أصليَّة: وهي: الكتاب والسنة, وما يُبنى عليهما من الإجماع.
2- ومصادر فرعيَّة: وهما: العقل الصحيح, والفطرة السليمة.
أ - والعقل له منزلة عظيمة عند أهل السنة والجماعة؛ حيث رفع الإسلام منزلته, واعتنى به عناية فائقة, ومن معاني العقل المذكورة في القرآن الكريم: التفكُّر, والاعتبار, والتَّذكُّر, والتَّدبر, والنَّظر إلى مخلوقات الله تعالى.
وأهل السنة والجماعة لم يُعطِّلوا العقلَ, بل أعطوه المكانة اللائقة به, ولم يُقدِّموه على الغيب, ولم ينصبوه حاكماً على النصوص الشرعية, ولم يفترضوا التعارض بين العقل والنقل, بل العقل الصريح لا يُعارض النقلَ الصحيح, ولم يُهملوا العقل ويُقلِّلوا من شأنه, بل استعملوه فيما يوافق الشرع ويعضده.
وفي المقارنة بين موقف أهل السنة وبين المبدعة من العقل يقول السمعاني – رحمه الله: (واعلم أنَّ فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل؛ فإنهم أسَّسوا دينهم على المعقول, وجعلوا الاتِّباع والمأثور تبعاً للمعقول, وأمَّا أهل السنة قالوا: الأصل الاتباع, والعقول تبعٌ, ولو كان أساس الدِّين على المعقول؛ لاستغنى الخلق عن الوحي, وعن الأنبياء صلوات الله عليهم, ولَبَطَل معنى الأمر والنهي, ولَقَال مَنْ شاء ما شاء).
فالعقل مصدر من مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السنة, به تُفهم النصوص, وتُستنبط الأحكام, وتُخَرَّج الفروع على الأصول, وتُسْقَط النصوصُ على الوقائع, وتعطيلُ العقل يعني انتفاءَ أهليةِ الإنسان للفتوى والفقه والعلم؛ فالعقل شرطٌ أساس التكليفات الشرعية, إذ يسقط عن الإنسان غيرِ العاقل التكليفُ الشرعي.
وأهل السنة لم يغالوا في العقل مغالاة غيرهم, حيث عرفوا حدوده فالتزموها ولم يتعدوها, وجعلوه تابعاً لنصوص الوحي, وليس العكس كما عند غيرهم، إذ أنَّ النص مقدَّم على العقل, ولذا قالوا: "لا اجتهاد مع نص" .
ب - وأما الفطرة السليمة: فأصل دليلها مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم : (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ, أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) رواه البخاري ومسلم.
والمقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ) هي ما أُخِذَ عليهم في أصلاب آبائهم, وأنَّ الولادة تقع عليها حتى يحصل التغيير بالأبوين. والمراد من الحديث: أنَّ الله تعالى فَطَرَ الناس على دين الإسلام, ولكن هذه الفطرة قد تُغيَّر وتُبدَّل بحسب التنشئة والتربية.
وكون الفطرة مصدراً من مصادر التلقي والاستدلال عند أهل السنة لا يُقصد به أنهم يعتمدون عليه دليلاً على مسائل الاعتقاد أو العبادات؛ فالفطرة لا تصلح لذلك على الإطلاق, ولم يقل بهذا القول أحد من قبل.
غاية ما هنالك: أنَّ الفطرة الموجودة في كلِّ إنسان قابلة لاعتناق الحق والإيمان به؛ لأنه متوافق مع طبيعتها وما جُبلت عليه.
أيها الأحبة الكرام .. ومن عظمة منهج أهل السنة في التلقي أنهم يعتصمون بالكتاب والسنة في كل شؤونهم, متَّبعون للمُحكم, مؤمنون بالمُتشابه, ولا يُعارضون النصوص بالعقول البشرية.
قال ابن تيمية – رحمه الله: (وقد أمر الله بطاعة رسوله في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن, وقرن طاعته بطاعته, وقرن بين مخالفته ومخالفته, كما قرن بين اسمه واسمه, فلا يُذكر الله إلاَّ ذُكِرَ معه).
والقرآن الكريم والسنة النبوية هما مصدر التلقي والاستدلال الأوَّل عند أهل السنة والجماعة؛ فمن خلال نصوصهما عُرِفَ اللهُ تعالى, وعُرِفتْ شريعتُه وكيفية عبادته, وعُرفتْ أخبار الأمم السابقة والقرون الماضية, وعُرِفَ مصير الإنسان ونهايته, وهي أمور لا مجال فيها للعقل؛ لأنها لا تأتي إلاَّ من خلال الوحي.
معشر الفضلاء .. ومن عظمة منهج أهل السنة في الاستدلال أنهم يستدلون على أصول الاعتقاد بالكتاب والسنة:
فهما العمدة في معرفة أصول الدِّين وفروعه؛ لذا شملت نصوصُهما الدِّين كلَّه, فيجب الأخذ بجميع نصوصهما, والتسليم لهما, والانقياد لأمرهما, وتلقي خبرهما بالقبول والتصديق, ولم يكن أحد من السلف الصالح يُعارض القرآن والسنة بمعقوله ولا خياله, بل كل أقوال الناس وآرائهم تُعرض على الكتاب والسنة, ولا يُقبل منها إلاَّ ما وافق الكتاب والسنة, دون ما خالفهما.
وكان الصحابة الكرام – رضي الله عنهم - مستسلمين للنصوص مُتمسِّكين بها, ولم يقع بينهم تنازع في مسائل الصفات, كما وقع عند المتأخرين من أهل الأهواء والبدع, وفي ذلك يقول ابن القيم – رحمه الله: (تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ – رضي الله عنهم - في كَثِيرٍ من مَسَائِلِ الأَحْكَامِ, وَهُمْ سَادَاتُ الْمُؤْمِنِينَ, وَأَكْمَلُ الأُمَّةِ إيمَانًا, وَلَكِنْ بِحَمْدِ اللَّه لم يَتَنَازَعُوا في مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ من مَسَائِلِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالأَفْعَالِ, بَلْ كلُّهم على إثْبَاتِ ما نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ, كَلِمَةً وَاحِدَةً من أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ, لم يَسُومُوهَا تَأْوِيلاً, ولم يُحَرِّفُوهَا عن مَوَاضِعِهَا تَبْدِيلاً, ولم يُبْدُوا لِشَيْءٍ منها إبْطَالاً, وَلا ضَرَبُوا لها أَمْثَالاً, ولم يَدْفَعُوا في صُدُورِهَا وَأَعْجَازِهَا, ولم يَقُلْ أَحَدٌ منهم يَجِبُ صَرْفُهَا عن حَقَائِقهَا, وَحَمْلُهَا على مَجَازِهَا, بَلْ تَلْقَوْهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ, وَقَابَلُوهَا بِالإِِيمَانِ وَالتَّعْظِيمِ, وَجَعَلُوا الأَمْرَ فيها كُلِّهَا أَمْرًا وَاحِدًا, وَأَجْرَوْهَا على سَنَنٍ وَاحِدٍ, ولم يَفْعَلُوا كما فَعَلَ أَهْلُ الأهْوَاءِ وَالْبِدَعِ, حَيْثُ جَعَلُوهَا عِضِينَ, وَأَقَرُّوا بِبَعْضِهَا, وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا من غَيْرِ فُرْقَانٍ مُبِينٍ).
عباد الله .. يستدل أهل السنة على أصول الاعتقاد – بعد الكتاب والسنة - بالإجماع, والعقل, والفطرة:
* ومن دلالات الإجماع على مسائل الاعتقاد:
1- وحدة المصدر الذي تلقَّوا عنه, واستدلوا به على مسائل الاعتقاد, وهو (الكتاب والسنة), وما عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو تعدَّدت المصادر لتعدَّدت الرُّؤى والاتجاهات ولا استحال الإجماع.
2- وحدة منهج أهل السنة, فرغم تباعدِ ما بينهم من الأمصار, وتفرُّقِهم في الأقطار, وانتشارِهم على مدار الزمان إلاَّ أنَّ منهجهم واحد لم يخرجوا عنه ولم يحيدوا.
3- صِدْقُ التَّوجُّه والمقصد, إذ أنهم بَلَغوا من التجرُّد لله, والإذعان للحق, والتسليم للدليل مبلغاً عظيماً, فقدَّموا الحقَّ على كلِّ ما سواه من الهوى والميل والعقل, وهذا من صفاءِ سريرتهم, ونقاءِ صدورهم, وقوةِ إيمانهم.
* ومن مجالات العقل الصحيح في مسائل الاعتقاد:
أنه لا يُقحم في الأمور الغيبية, إذ لا مجال للعقل أنْ يُفصِّل فيها؛ كصفات الله تعالى وأفعاله سبحانه, وحقائق اليوم الآخِر من البعث, والحساب والجزاء, والجنة والنار, والعقل وإنْ كان لا يُدرك حقيقة هذه الأمور الغيبية, إلاَّ أنه لا يُحيل ذلك ولا يمنع إمكان وجوده.
أيها الإخوة الكرام .. لكن هناك مجالات عُلِمت بالمقاييس العقلية؛ كإثبات وحدانية الله تعالى, وربوبيته, وقد جاءت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة دالة عليها؛ بالدلالة الخبرية, وبالدلالة العقلية.
والقرآن الكريم مليءٌ بالأمثلة العقلية, والصور المادية, والأقيسة المنطقية, والحجج والبراهين التي تُخاطب العقل؛ لِيُثْبِتَ من خلالها قضايا العقيدة ومسائلها.
وأهل السنة وقفوا موقفاً وسطاً بين العقل والنقل, فلم يغالوا في العقل على حساب النقل, ولم يُهملوا النقلَ لصالح العقل؛ وإنما آمنوا بالنقل, وأعملوا العقلَ.
الخطبة الثانية
الحمد لله ...
* ومن دلالة الفطرة السليمة على مسائل الاعتقاد:
أ - دلالة الفطرة على (توحيد الربوبية): الإقرار بوجود الله تعالى, وربوبيته على خلقه أمر فِطري ضروري, فَطَر الله تعالى قلوب عبادَه على ذلك.
ب - دلالة الفطرة على (توحيد الألوهية): إذ فطر الله قلوب عباده على معرفته, ومحبَّته, وتعظيمه, والإخلاص له, ولم تأت الرسل الكرام لتعرِّف الناس بوجود الخالق, وإنما أتت للدعوة إلى التوحيد ونفي الشرك, وبيانِ أمر العبودية وتفصيلِه على نحوٍ لا تستقلُّ الفطرة بالعلم به.
ج - دلالة الفطرة على (توحيد الأسماء والصفات): إذ فُطِر الخلق على تعظيم الله تعالى وإجلاله, وأنه سبحانه أكبر وأجلُّ وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كلِّ شيءٍ, وهذا مستقر في الفطر السليمة.
واستقر أيضاً في الفِطر الكمالُ المطلق لله تعالى, وأنه سبحانه لا نْقَصَ في صفاته العلية بوجهٍ من الوجوه, فله الكمال المطلق سبحانه في ذاته وفي صفاته وأفعاله, ولكن معرفة هذا الكمال على التفصيل مِمَّا يتوقَّف على إرسال الرسل, وكذلك تنزيهه سبحانه عن النقائص والعيوب هو أمر مستقر في فِطَرِ الخلائق.
ومن أبرز الأمور المُستقِرَّة في فِطر الناس العلمُ بعلو الله تعالى فوق العالَم, ولذا نجد الخلق إذا أضر بهم أمر وشدة توجهوا بقلوبهم إلى الله وحده لا شريك له, يدعونه ويسألونه, ويرفعون أيديهم حال الدعاء إلى جهة العلو.
وأهل السنة لا يجعلون الفطرة وسيلةً من وسائل المعرفة العقدية, وإنما جعلوها دلالةً على ما جاءت به الرسل, وما أخبرهم به القرآن, وذكرته لهم السنة النبوية.
إخوتي الكرام .. ومن عظمة منهج أهل السنة في الاستدلال:
* أنهم يعملون بالمحكم ويؤمنون بالمتشابه من نصوص الكتاب والسنة, ويَكِلُون ما أشكل عليهم إلى عالِمِه, بخلاف أهل البدع والضلال الذين يتَّبعون المتشابه, ويتركون المُحْكَم؛ لذا حذَّرنا النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفعل السَّيِّئ:
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: تَلاَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هذه الآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
قالت: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فإذا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ, فَأُولَئِكِ: الَّذِينَ سَمَّى اللهُ, فَاحْذَرُوهُمْ) رواه البخاري ومسلم.
فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يحذِّرنا من الذين يتَّبعون الآيات المُتشابهة, ويتركون المُحْكَم منها؛ بقصد أن يفتنوا الناس عن دينهم ويُضلُّوهم, فهؤلاء هم الذين سمَّاهم الله تعالى أهلَ الزَّيغ, فأمَرَ صلى الله عليه وسلم بالحذر منهم والتَّوقِّي من شرِّهم وضلالهم, بعدم مُجالستهم ومُؤاكلتهم؛ فإنهم أهل الزَّيغ والبدع والفساد, فحقُّهم أن يُهجروا في الله تعالى.
* ومن دلالة القرآن على "العمل بالمحكم" و"الإيمان بالمتشابه" :
أن يُردَّ المتشابه إلى المُحكم, والخفي إلى الجلي؛ فإن القرآن العظيم يُصدِّق بعضه بعضاً, {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].
* ومن دلالة السنة على "العمل بالمحكم" و"الإيمان بالمتشابه" :
1- قول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْقُرْآنَ لم يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضاً, بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً, فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ, وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ) صحيح – رواه أحمد.
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: (نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ, الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا, وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ) صحيح – رواه أحمد.
قال ابن رجب – رحمه الله: (اتَّفق السلف الصالح: على إمرارِ هذه النُّصوص كما جاءت من غير زيادةٍ, ولا نقصٍ، وما أشكلَ فَهْمُه منها، وقَصُرَ العقلُ عن إدراكه وُكِلَ إلى عالِمِه).
الدعاء ...
المرفقات
التلقي والاستدلال عند أهل السنة.doc
التلقي والاستدلال عند أهل السنة.doc