التفريط في صلاة الفجر

عَمُودُ الإِسْلَامِ (8)
التَفْريطُ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ
4/7/1433

[الحَمْدُ لله فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {فاطر:1} نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ عِبَادَهُ وَرَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ، [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ] {فاطر:3} وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ قُرَّةَ عَينِهِ، وَرَاحَةَ بَالِهِ، وَمَفْزَعَهُ فِي هَمِّهِ، صَلَى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَحَافِظُوا عَلَى فَرَائِضِهِ، وَقِفُوا عِندَ حُدُودِهِ؛ فَإِنَّ أَمَامَكُمْ مَوتًا وَقَبْرًا وَحِسَابًا وَجَزَاءً، وَيَومًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا، لَا يَنْجُو فِيهِ إِلَّا مَنْ نَجَّاهُ اللهُ تَعَالَى وَوَفَقَهُ لِلأَعَمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا [وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى الله وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {الزُّمر:60-61}.
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ تَوفِيقِ الله تَعَالَى لِلْعَبْدِ، وَهِدَايَتِهِ لَهُ؛ مُحَافَظَتُهُ عَلَى فَرَائِضِهِ. وَكُلَّمَا كَانَ أَدَاءُ الفَرِيضَةِ شَاقًا وَحَافَظَ العَبْدُ عَلَى أَدَائِهَا فِي وَقْتِهَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلَاً عَلَى تَوفِيقِ الله تَعَالَى لَهُ، وَهِدَايَتِهِ لِمَا يَنْفَعُهُ، وَإِعَانَتِهِ عَلَى أَخْذِ الدِّينِ بِقُوَةٍ، وَالحَزْمِ مَعَ النَّفْسِ فِي إِتْيَانِ الطَّاعَاتِ. فَالِانْتِصُارُ الحَقِيقِيُّ هُوَ انْتِصَارُ الإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ الأَمَّارَةِ بِالسُوءِ، وَالهَزِيمَةُ الحَقِيقِيَّةُ هِيَ هَزِيمَةُ المَرْءِ مَعَ نَفْسِهِ. وَصَلَاةُ الفَجْرِ عَلَامَةٌ عَلَى ذَلِكُمُ الِانْتِصَارُ أَوِ الهَزِيمَةُ؛ فَمَنْ قَطَعَ نَومَهُ فِي الفَجْرِ، وَدَحَرَ هَوَى النَّفْسِ، وَهَبَّ فَزِعًا يُلَبِّي النِّدَاءَ، وَصَدَّقَ بِفْعِلِه قَولَ المُؤَذِّنِ (الصَّلَاةُ خَيرٌ مِنَ النَّومِ) فَقَدْ انْتَصَرَ عَلَى الشَّيطَانِ الذِي يَعْقِدُ عَلَى نَاصِيَةِ النَّائِمِ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ: عَلَيكَ لَيلٌ طَوِيلٌ فَنَمْ، وَانْتَصَرَ عَلَى شَهْوَتِهِ حِينَ قَطَعَ لَذَّةَ النَّومِ، وَهُوَ أَعْسَرُ شَيءٍ يُقْطَعُ عَلَى الإِنْسَانِ، وَخَلِيقٌ بِهِ أَنْ يَنْتَصِرَ عَلَى شَهَوَاتِهِ كُلِّهَا، وَحَقِيقٌ بِهِ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ لله تَعَالَى.
وَأَمَّا مَنْ عَجَزَ عَنْ حُضُورِ الفَجْرِ مَعَ الجَمَاعَةِ -وَهُمُ الأَكْثَرُ فِي أَهْلِ الإِسْلَامِ اليَومَ- فَإِنَّهُ ضَعِيفُ الإِرَادَةِ، مُنْحَطُّ الهِمَّةِ، مَهْزُومٌ أَمَامَ الشَيطَانِ وَجُنْدِهِ. وَمَنْ بَخِلَ عَلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ بِبَذْلِ بَعْضِ نَومِهِ لَهُ أَتُرَاهُ يَبْذُلُ دَمَهُ وَيُضَحِي بِنَفْسِهِ لِأَجْلِهِ سُبْحَانَهُ؟!
وَمَا ظَفَرَ الأَعْدَاءُ بِالُمسْلِمِينَ فِي الأَزْمَانِ المُتَأَخِرَةِ إِلَّا لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَحْمِلُ هَذِهِ النُّفُوسَ الضَعِيفَةَ، التِي لَا تُضَحِي بِرَقْدَةٍ فِي مَرْضَاةِ الله تَعَالَى، فَكَيفَ سَتُضَحِي بِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا فِي سَبِيلِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَقَدْ قَالَ قَائِلُ اليَهُودِ يَومًا وَهُمْ يَنْتَصِرُونَ عَلَى المُسْلِمِينَ فِي مَعَارِكِهِمْ: نَحْنُ لَا نَخَافُ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَّا عِنْدَمَا يُصَلُّونَ الفَجْرَ فِي المَسْجِدِ كَمَا يُصَلُّونَ الجُمُعَةَ.
كَيفَ يُفَرِّطُ مُؤْمِنٌ فِي حُضُورِ الفَجْرِ مَعْ الجَمَاعَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا صَلَاةٌ مَشْهُودَةٌ يَشْهَدُهَا المَلَائِكَةُ عَلَيهِمُ السَّلَامُ لِيُخْبِرُوا اللهَ تَعَالَى بِالمُصَلِّينَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ صَلَّى وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ [إِنَّ قُرْآَنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] {الإسراء:78}. وَلَو عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي شُهُودِ الفَجْرِ مِنَ اللَّذَةِ وَالرَّاحَةِ، وَطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ وَصَلَاحِهِ لمَا فَرَّطَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْهُم.
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن:«مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الله»رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمَنْ عَاشَ يَومَهُ فِي ذِمَّةِ الله تَعَالَى هَلْ يَخَافُ مِنْ شَيءٍ، أَوْ يَحْزَنُ عَلَى فَوَاتِ شَيءٍ؟! وَلَوْ أَنَّ المُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ أَوْ جُلَّهُمْ حَافَظُوا عَلَى الفَجْرِ فِي المَسَاجِدِ هَلْ يَقْدِرُ العَدُوُّ مِنْهُمْ عَلَى شَيءٍ وَهُمْ فِي ذِمَّةِ الله تَعَالَى؟!
وَيَومَ أَنْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فِي ذِمَّةِ الله تَعَالَى بِمُحَافَظَتِهِمْ عَلَى الفَجْرِ مَا وَقَفَ لَهُمْ عَدُوٌّ، وَلَا هُزِمَ لَهُمْ جَيشٌ، وَلَا سَقَطَتْ لَهُمْ رَايَةٌ، وَلَا اسْتَعْصَى عَلَيهِمْ حِصْنٌ، وَلَا خَافُوا أَحَدًا مِنَ البَشَرِ، فَهُمْ فِي ذِمَّةِ الله تَعَالَى، حَتَّى عَمَّتْ فُتُوحُهُمْ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا.
وَدَلِيلُ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى صَلَاةِ الفَجْرِ أَنَهَا فَاتَتْهُمْ ذَاتَ مَرَّةٍ فِي غَزْوَةِ الحُدَيبِيَةِ، وَهُمْ فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ مُرْهِقٍ، وَرَسُولُ الله صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَتَكِلُوا عَلَى ذَلِكَ، بَلْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ يَهْمِسُ إِلَى بَعْضٍ: مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا فِي صَلَاتِنَا؟! وَكَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى الاسْتِيقَاظِ لَكِنَّ النَّومَ غَلَبَهُمْ مِنْ شِدَّةِ التَعَبِ وَطُولِ السَّفَرِ، وَمَعْ ذَلِكَ أَحْسُّوا بِالذَّنْبِ، وَشَعَرُوا بِالمَسْئُولِّيَةِ، وَلَمْ يَتَعَلَّلُوا بِالأَعْذَارِ، وَلَمْ يَقُولُوا رَسُولُ الله مَعَنَا وَقَدْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ كَمَا فَاتَتْنَا. يَتَهَامَسُونَ بَينَهُمْ بِفَدَاحَةِ مَا فَاتَهُمْ، وَيَتَسَاءَلُونَ عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ عَظَمَةَ صَلَاةِ الفَجْرِ وَمَنْزِلَتَهَا عِنْدَ الله تَعَالَى، وَعِظَمَ جُرْمِ التَّخَلُفِ عَنْهَا أَوْ تَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُرَبِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ؛ كَمَا رَوَى جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَفَرٍ لَهُ:«مَنْ يَكْلَؤُنَا اللَّيْلَةَ لَا نَرْقُدُ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ»رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَرُبَمَا كَلَّفَ عَدَدًا مِنَ النَّاسِ بِهَذِهِ المُهِمَّةِ، وَلَا يَكِلُهَا لِوَاحِدٍ خَشْيَةَ أَنْ يَنَامَ فَتَضِيعُ الصَّلَاةُ، أَخْبَر أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ فِي سَفَرٍ لَهُ، قال: فَمَالَ وَمِلْتُ مَعَهُ، قَالَ: انْظُرْ، فَقُلْتُ: هَذَا رَاكِبٌ، هَذَانِ رَاكِبَانِ، هَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ، حَتَّى صِرْنَا سَبْعَةً، فَقَالَ: احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا، يَعْنِي: صَلَاةَ الْفَجْرِ» رَوَاهُ أَبُو دَاودَ.
بِالله عَلَيكُمْ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَنْ مِنَّا خَشِيَ أَنْ تَفُوتَهُ صَلَاةُ الفَجْرِ ذَاتَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهُ سَهِرَ وَتَعِبَ فَوَصَّى سَبْعَةً أَنْ يُوقِظُوهُ؟ بَلْ خَمْسَةً؟ بَلْ ثَلَاثَةً؟ لَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ إِلَّا النَادِرَ مِنْ المُسْلِمِينَ.
يَهُبُّ الطَالِبُ مِنْ فِرَاشِهِ فَزِعًا يَخْشَى فَوْتَ الامْتِحَانِ، وَيَقْطَعُ المُوَظَفُ لَذَّةَ نَومِهِ لِيَكُونَ عَلَى كُرْسِيِّهِ فِي مَوعِدِهِ فَلَا يُخاصَمُ وَيُسَاءَلُ. وَإِذَا كَانَ الوَاحِدُ مِنَّا يَسْتَقْبِلُ فِي صَبَاحِهِ البَاكِرِ سَفَرًا بِالطَّائِرَةِ، أَوْ يَنْتَظِرُ مَوعِدًا فِي مُسْتَشْفَى، أَوْ لَهُ مُقَابَلَةٌ مَعَ ذِيْ جَاهٍ فِي حَاجَةٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْرِقُ فِي نَومِهِ، وَيَفْزَعُ المَرَّةَ بَعْدَ المَرَّةِ يَرْقُبُ الوَقْتَ، وَرُبَمَا جَفَاهُ النَّومُ فَتَجَهَّزَ لِمَا يُرِيدُ قَبْلَ الفَجْرِ، لَكِنَّ أَكْثَرَ المُسْلِمِينَ يَسْتَرخُونَ فِي فُرُشِهِم، وَيَغُطُّونَ فِي نَومِهِمْ، وَلَا يَبْذُلُونَ جُهْدًا يُذْكَرُ لِلْحِفَاظِ عَلَى صَلَاةِ الفَجْرِ.
بَلْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَمَنَّى لَوْ تَعَطَّلَ المُنَبِّهُ، أَوْ وَضَعَهُ خَطَأً بَعْدَ وَقْتِ الفَجْرِ، وَيفْرَحُ بِنَومِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ غَيرُ مُؤَاخَذٍ بِالخَطَأ، وَلَمْ يَنْظُرْ لِعَظِيمِ مَا فَاتَهُ مِنَ الأَجْرِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقُولَ:«رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَاتَانِ الرَكْعَتَانِ هُمَا سُنَّةُ الفَجْرِ الرَّاتِبَةُ، فَإِذَا كَانَتَا خَيرًا مِنَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا فَمَاذَا فِي رَكْعَتَيِّ الفَرِيضَةِ مِنَ الأَجْرِ، وَهُمَا خَيرٌ مِنَ السُنَّةِ الرَّاتِبَةِ؟!
يَا أُمَّةَ صَلَاةِ الفُجْرِ: اشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي أَعْطَاكُمْ، وَأَحْيُوهَا فِيكُمْ؛ فَلَيسَ فِي أُمَمِ الأَرْضِ أُمَّةٌ قَدْ أُعْطِيَتْ مَا أُعْطِيتُمْ، وَلَا صَلَاةَ تُقَرِّبُ إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا صَلَاتُكُمْ؛ فَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ المِلَلِ وَالفِرَقِ يُصَلُّونَ حَسَبَ مَا شَرَعَ لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ وَأَهْوَاؤُهُمْ، وَبِمَا اخْتَرَعَ لَهُمْ أَئِمَّةُ الضَّلَالِ مِنْهُمْ، وَلَيسَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ صَلَاتِهِمْ إِلَّا التَّعَبُ وَالخُسْرَانُ.. أَمَا وَقَدْ هُدِيتُمْ لِلْحَقِ فَحَافِظُوا عَلَيهِ، وَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَأَدُّوا شَعَائِرَهُ، وَأَثْبِتُوا أَنَّكُمْ أَهْلٌ لِمَا حَبَاكُمُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الخَيرِ [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] {آل عمران:110}.
وَحَرِيٌّ بِمَنْ كَانَ يُضَيِّعُ صَلَاةَ الفَجْرِ أَنْ يَعْرِفَ عُقُوبَةَ ذَلِكَ، وَيَضَعَهَا أَمَامَ عَينَيهِ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ خَافَ مِمَا فَعَلَ، وَنَدِمَ عَلَى مَا فَرَّطَ، وَثَابَ إِلَى رُشْدِهِ، وَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْوتَ وَهُوَ يُؤَخِّرُ الفَجْرَ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ وَهُوَ لَا يَحْضُرُهَا فِي المَسْجِدِ مَعَ المُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُ صَلَى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الرُؤْيَا عَمَّا رَأَى مِنْ عَذَابِ مَنْ يَنَامُونَ عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأُولَى» ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ الحَدِيثِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ يُعَذَّبُ هَكَذَا لِأَنَّهُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
قَالَ ابْنُ العَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، يَعْنِي: قَدْ قَرَأَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ فِي الكِتَابِ، وَعَلِمَهَا فَرْضًا ثُمَّ فَرَّطَ فِيمَا عَلِمَ، وَتَرَكَ مَا أُمِرَ. وَقَالَ أَيضًا: جُعِلَتِ الْعُقُوبَةُ فِي رَأْسِ هَذِهِ النَّوْمَةِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالنَّوْمُ مَوْضِعُهُ الرَّأْسُ.
وَكَمْ فِي القُبُورِ مِنْ رُؤُوسٍ تُرْضَخُ الآنَ بِالحِجَارَةِ لِنَومِهَا عَنْ صَلَاةِ الفَجْرِ، دَهَمَتِ الآجَالُ أَصْحَابَهَا وَهُمْ لَمْ يَتُوبُوا؛ لِأَنَّهُمْ مَا تَوَقَعُوا الأَجَلَ. وَحَقٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَلِمَ هَذَا الحَدِيثَ الصَحِيحَ، وَمَا فِيهِ مِنَ العُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ أَنْ يَخَافَ وَيَفْزَعَ، وَيَعْمَلَ عَلَى النَّجَاةِ مِنَ العَذَابِ، وَيُحَافِظَ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ رَضْخٍ بِالحِجَارَةِ، لَطَالمَا طَلَبَ لِهَذَا الرَّأْسَ عِلَاجًا مِنَ الصُّدَاعِ وَالآلَامِ، وَبَذَلَ الأَمْوَالَ فِي ذَلِكَ، فَلَيسَ لَهُ طَاقَةٌ أَنْ يُرْضَخَ بِالحِجَارَةِ، وَيَكُونَ هَذَا عَذَابَهُ إِلى قِيَامِ السَّاعَةِ.
نَعُوذُ بِالله تَعَالَى مِنْ غَضَبِهِ وَعَذَابِهِ، وَنَسْأَلُه الهِدَايَةَ لَنَا وَلِذُرِّيَاتِنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ.
أَقُولُ قَولِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْه كَمَا يُحِبُ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَه، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى الله وَسَلَّمَ وْبَارَكَ عَلَيْه وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّيِن..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الله تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {البقرة:281}
أَيُّهَا النَّاسُ: فَرَائِضُ الله تَعَالَى ثَقِيلَةٌ عَلَى النُّفُوسِ بِثِقْلِ الوَحْيِّ المُتَنَزِّلِ بِهِا [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا] {المزمل:5} وَجَاءَ فِي الصَلَاةِ قَولُ الله تَعَالَى [وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] {البقرة:45-46}
وَصَلَاةُ الفَجْرِ هِيَ أَشَقُّ الصَّلَوَاتِ عَلَى النَّاسِ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَيهَا إِلَّا مُؤْمِنٌ. وَأَعْظَمُ مَا يُعِينُ المُسْلِمَ عَلَى الِحفَاظِ عَلَيهَا الاِسْتِعَانَةُ بِالله تَعَالَى عَلَى أَدَائِهَا، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَةَ لِلْعَبْدِ إِلَّا بِالله، فَإِيَّاهُ نَعْبُدُ وَإِيَّاهُ نَسْتَعِينُ، مَعَ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَالإِلْحَاحِ عَلَيهِ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الأَمْرِ العَظِيمِ. وَبَذْلِ الأَسْبَابَ فِي ذَلِكَ: مِنْ تَجَنُّبِ السَّهَرِ، وَلَا سِيمَا إِذَا كَانَ عَلَى مُحَرَّمٍ أَوْ لَهْوٍ وَعَبَثٍ، وَمَا أَكْثَرَ وُقُوعَ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَنِ، رُغْمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ الحَدِيثَ بَعْدَ العِشَاءِ الآخِرَةِ لِئَلَا يُؤَدِّيَ إِلَى السَّهَرِ، فَيَفُوتَ بِسَبَبِهِ قِيَامُ اللَّيلِ وَصَلَاُة الفَجْرِ.
وَعَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَتَذَّكَرَ أَنَّهُ إِنْ ضَيَّعَ صَلَاةَ الفَجْرِ فَقَدْ فَاتَهُ خَيرٌ كَثِيرٌ، لَيسَتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا شَيئًا يُذْكَرُ عِنْدَ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ أَضَاعَهَا.
وَعَلَيهِ إِنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الفَجْرِ أَنْ يَخْشَى الدُّخُولَ فِي قَولِ الله تَعَالَى [وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] {الأحقاف:32}.
وَمِّمَا يُعِينُهُ عَلَى أَدَاءِ صَلَاةِ الفَجْرِ مَعَ الجَمَاعَةِ قِرَاءَةُ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِي فَضْلِهَا، وَالمُحَذِّرَةِ مِنْ تَرْكِهَا، وَالمُبَيِّنَةِ لِعَذَابِ مَنْ ضَيَّعَهَا، وَمُرَاجَعَتُهَا بَينَ حِينٍ وَآخَرَ؛ فَإِنَّ الجَهْلَ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ وَنِسْيَانَهَا يُؤَدِّي إِلَى الغَفْلَةِ وَعَدَمِ المُبَالَاةِ.
وَعَلَى جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ أَنْ يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاةِ الفَجْرِ، وَيَتَعَاهَدُوا المُتَخَلِّفِينَ عَنْهَا بِالزِّيَارَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَيُعِينُ بَعْضُهُم بَعْضًا فِي هَذَا الأَمْرِ العَظِيمِ الَّذِي خَفَّ وَزْنُهُ عِندَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلَاً وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِنْ حُمُرِ النِّعَمِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم...

المرفقات

عمود الإسلام. 8.doc

عمود الإسلام. 8.doc

عمود الإسلام8.doc

عمود الإسلام8.doc

المشاهدات 4399 | التعليقات 5

بارك الله فيك ونفع بك..


جزاك الله خيرا ونفع بعلمك


أمر الصلاة عظيم ، وقد كثر التهاون بها في هذه الأزمنة ، ومن ثم فهي تحتاج من الخطيب إلى أن يطرقها في فترات متقاربة ، فجزى الله الشيخ إبراهيم خيرًا على طرقه هذا الموضوع المهم .
وأما البلية بترك صلاة الفجر فما أعظمها ورب الكعبة !!
وفي ظني أن لو زعم زاعم أن من يصلونها لا تجاوز نسبتهم خمسة في كل مئة ، لما كان مخطئًا ولا واهمًا .
وقد عمت البلية ـ ولله الأمر من قبل ومن بعد ـ أقوامًا غطت وجوههم اللحى ، وبدت عليهم سيما الاستقامة ، ولكن يأبى الله الاستقامة إلا لمن أقام الصلاة ، ومن إقامتها أداؤها في وقتها مع جماعة المسلمين ، وأهمها وأعظمها دلالة على الاستقامة صلاة الفجر ، وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال : " أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء والفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا "
إنها لخيبة أمل عظيمة ألا يجد صغار الأمة من كبارها القدوة الحسنة في ذلك ، وحين ترى الصغار والمراهقين لا يحافظون على الصلاة فلا تلمهم وهم يرون آباءهم وإخوانهم الكبار ومعلميهم لا يقيمون للصلاة وزنًا .
وفي رأيي أن مع السهر أسبابًا هي أعظم منه ولا شك ، فكم نرى من طلبة العلم والشيوخ من يسهرون ويقومون الليل ، ومع هذا لا تفوتهم صلاة الفجر .
فثمة أسباب أعظم من السهر ، فإدمان المعاصي وإتيان الكبائر سبب ، والتهاون بالصلوات الأخرى سبب آخر عظيم ، وقل أن ترى تاركًا لصلاة الفجر في جماعة إلا وجدته في سائر صلواته متثاقلاً متباطئًا ، وقد سبق أن كتبتُ في ذلك خطبة عنوانها : ( ترك صلاة الفجر سيئة لها أخوات ) ولمن أرادها فهي هنا :

https://khutabaa.com/forums/موضوع/134788

نسأل الله أن يوقظ قلوبنا من الغفلات ، ويجعلنا من الموفقين للطاعات ، ويدخلنا جنة الدنيا قبل جنة الآخرة .


بارك الله فيك يا شيخ إبراهيم على هذه الخطبة الطيبة

وإن شاء الله ستكون ضمن مختاراتنا للأسبوع الأول من شهر شعبان


بارك الله تعالى فيكم أجمعين إخوتي المباركين، وشكر لكم مروركم وتعليقكم واستجاب دعواتكم المباركة