التفاؤل يصنع النجاح
عنان عنان
1436/03/13 - 2015/01/04 18:16PM
" الخُطبةُ الاولى "
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهديهِ اللهُ فَهُوَ المُهتدِ، ومَنْ يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الَّلهُ وحدَهُ لا شَريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ..........
أمَّا بعدُ: عبادَ اللهِ، الحياةُ بلا أملٍ لا معنى لها، ولولا الأملُ بطلَ العملُ، ترى طالبَ العلمِ يُثابرُ ويجتهدُ بالدراسةِ لماذا؟ يأملُ أنْ ينجحَ، وترى التاجرَ يُثابرُ في تجارتِهِ ويكدحُ في الدنيا لماذا؟ يأملُ بتوسيعِ رزقهِ وتكبيرِ تجارتِهِ، وترى المجاهدَ في سبيلِ اللهِ يصبرُ على التعبِ والمشقةِ والارهاقِ لماذا؟ يأملُ بالنصرِ أوْ بالفوزِ الذي أعدَّهُ اللهُ للمجاهدينَ، وترى الانسانَ يصلي ويصومُ ويزكي ويتصدقُ ويفعلُ الخيرَ ويُطيعُ اللهَ ويُخالفُ هواهُ لماذا؟ يأملُ بأنْ يفوزَ بجنةٍ عرضُها السمواتُ والارضُ، فبالأملِ يذوقُ الانسانُ طعمَ الحياةِ، ويحِسُّ ببهجةِ الحياةِ.
عبادَ اللهِ، في هذا الزمنِ الذي كَثُرتْ فيهِ الفتنُ، كَثُرتْ ذنوبُ البشرِ، وكُلَّما كَثرتْ الفتنُ، كُلَّما كَثُرتْ الذنوبُ، وعلى الانسانِ أنْ لا يترددُ بالرجوعِ إلى اللهِ مهما لوثَتْهُ الذنوبُ والخطايا، فإنَّ الذي ستركَ تحتَ سقفِ المعصيةِ، لنْ يَفضحُكَ تحتَ جناحِ التوبةِ، قالَ سبحانَهُ: (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ))
ويُروى أنَّ رجلاً جاءَ إلى عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ-رضيَ اللهُ عنهُ-وقدْ ألمَّ بذنبٍ، فـأعرضَ عنهُ ابنُ مسعودٍ، ثُمَّ التفتَ إليهِ فإذا عيناهُ تذرفانِ، فقالَ لهُ ابنُ مسعودٍ: ((اعلمْ أنَّ للجنةِ ثمانيةَ أبوابٍ، كُلُّها تُفتحُ وتُغلقُ إلَّا بابَ التوبةِ، فإنَّ عليهِ مَلَكاً مؤكلاً بهِ لا يُغلقُ حتى تطلعَ الشمسُ مِنْ مغربِها، فاعملْ ولا تيئسْ ولا تقنطْ مِنْ رحمةِ اللهِ. )).
عبادَ اللهِ، مِنْ رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، أنَّهُ يُرسلُ ملائكةً للعبدِ المؤمنِ الصالحِ المستقيمِ عندَ الاحتضارِ، حتى يُحسِنَ الظنَّ بربِّهِ عزَّ وجلَّ، فيُرسلُ لهُ ملائكةً بيضَ الوجوهِ، وجوهُهم منيرةٌ مضيئةٌ كالبدرِ، معهم كفنٌ مِنْ أكفانِ الجنَّةِ، وحَنُوطٌ مِنْ حنوطِ الجنَّةِ، قالَ سبحانَهُ: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. ))
أيْ لا تخافوا مِنْ عذابِ اللهِ فقدْ سَلِمتم مِنْ عذابهِ وعقابهِ، الذي أعدَّهُ للكافرينَ والمنافقينَ والفاجرينَ، ولا تحزنوا على ما تركتم في الدنيا مِنْ أموالٍ وأزواجٍ وبنينَ، فإنَّ اللهَ سيحفظُهم لكم بصلاحِكم واستقامتِكم على طاعةِ اللهِ،
وضعْ الفَ خطٍّ تحتَ كلمةِ ثُمَّ استقاموا، كُلُّنا يقولُ: ربُّنا اللهُ، ولكنْ ليسَ كُلُّنا مستقيمينَ، هلْ أصحابُ الاغانيِّ مستقيمون؟ هلْ أصحابُ الزنا مستقيمونَ؟ هل أصحابُ الشهواتِ والمعاكساتِ مستقيمون؟ لا واللهِ ليسوا مستقيمين.
أيُّها المسلمونَ، يقولُ نبيُّكم-صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-: (( لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللّهِ عَزَّ وَجَلَّ. )) " رواه مسلم "
فإذا أذنبتَ ذنباً أحسنِ الظَّنَّ باللهِ بأنَّهُ سيغفرُهُ لكَ، وإذا صليتَ صلاةً أحسنِ الظَّنَّ باللهِ بأنَّهُ سيقبلُها منكَ، وإذا دعوتَ دعوةً أحسنِ الظَّنَّ باللهِ بأنَّهُ سيستجيبُ لكَ، وقدْ قالَ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (( ادعوا اللهَ وأنتم موقنونَ بالاجابةِ. ))
وكانَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ-رضيَ اللهُ عنهُ-يقولُ: (( والذي لا إلهَ غيرُهُ، ما أُعطيَ عبدٌ مؤمنٌ شيئاً خيرٌ مِنْ حُسنِ الظَّنِّ باللهِ عزَّ وجلَّ، والذي لا إلهَ غيرُهُ، لا يحسِنُ عبدٌ باللهِ عزَّ وجلَّ الظَّنَّ إلَّا أعطاهُ اللهُ ظنَّهُ ذلكَ لأنَّ الخيرَ في يدِهِ. )) فإذا أردتَ شيئاً مِنْ أمرِ الدنيا والاخرةِ، أحسنِ الظَّنَّ باللهِ عزَّ وجلَّ، ولا تيئسْ ولا تقنطْ فكرمُ اللهِ لا يتأخرُ إنَّما يأتي في الوقتِ المُناسبِ، وذُكرَ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى أكرمُ مِنَ العبدِ، فإذا تقربَ العبدُ إليهِ شبراً تقربَ إليه ذِراعاً، وإذا تقربَ إليهِ ذِراعاً تقربَ إليهِ باعاً، وإذا أتاهُ يمشي أتاهُ اللهُ سبحانَهُ وتعالى هرولةً.
أحسنوا ظنَّكم باللهِ عندَ الشدائدِ والكُرباتِ، فإنَّ الثلاثةَ الذينَ تخلَّفوا عَنْ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-في غزوةِ تبوكٍ، لمْ يَكشِفُ عنهمُ اللهُ ما بِهم مِنْ كربٍ وضيقٍ إلَّا بعدَما أحسنوا الظَّنَّ بربِّهم، قالَ سبحانَهُ: (( لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. )) وتأملْ في قولِهِ وظنُّوا أنْ لا ملجأَ مِنَ اللهِ إلَّا إليهِ، فلمَّا أحسنوا الظَّنَّ باللهِ رزقَهمُ اللهُ إياهُ،
ولمَّا ابتلعَ الحوتُ سيدَنا يونُسَ-عليهِ السَّلامُ- قالَ في ظُلماتِ البحرِ: أنْ لا إلهَ إلَّا أنتَ سبحانكَ إنِّي كنتُ مِنَ الظَّالمينَ، وكانَ في ثلاثةِ ظُلماتٍ، ظلمةُ الحوتِ وظلمةُ البحرِ وظلمةُ الليلِ، فظَّنَّ أنْ لا ملجأَ إليهِ إلَّا اللهُ، فماذا كانَ الجواب؟ قالَ سبحانَه: (( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. )) (( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ. )).
أحسنوا ظنَّكم باللهِ عندَ الفقرِ، وعندَ ضيقِ العيشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ. )) " رواه الترمذي " وإنزالُها باللهِ، أنْ تُوقِنَ وتَظُنَّ بأنَّ اللهَ يُفَرِّجُ عنكَ ويُزيلُها.
أحسنوا ظنَّكم باللهِ عندَ موتِ أحدٍ أوْ مصيبةٍ أوْ ضيقٍ أوْ همٍّ أوْ غمٍّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا. )) " رواه مسلم ".
أحسنوا ظنَّكم باللهِ عندَ الدعاءِ، فقدْ يدعو الانسانُ اللهَ شيئاً ولمْ يعطهِ إياهُ، ويدخلُ الشيطانُ على هذا الانسانِ ويُشكِّكُهُ بربِّهِ عزَّ وجلَّ، لا بُدَّ أنْ تعلمَ ما مِنْ دعوةٍ يدعوها المُسلمُ إلَّا استجابَ اللهُ لهُ، إمِّا يستجيبُ لهُ بالدنيا أوْ يصرفُ عنهُ مِنَ السوءِ مثلِها أوْ يدَّخرها لهُ بالاخرةِ، وقالَ أحدُ الصَّالحينَ: (( إنَّا لندعوا اللهَ مرةً، فإنِ استجابَ لنا فَرِحنا مرةً، وإنْ لمْ يستجبْ لنا فَرِحنا عَشَرَ مراتٍ، لأنَّ الاولى بإختيارِنا والثانيةَ بإختيارِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى. )) وقدْ يدعو الانسانُ ربَّهُ فيقولُ: ياربِّ اجعلني غنياً فإذا لمْ يستجبِ اللهُ لهُ خيرٌ لهُ، جاءَ في الاثرِ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ-رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: (( يأتي الرَّجلُ فيقولُ: ياربِّ اجعلني غنياً، فيقولُ اللهُ لملائكتِهِ اصرفوا عبدي فإنِّي لوْ أغنيتُهُ لطغى. )) فاللهُ عزَّ وجلَّ يأبى أنْ يَغنيهُ رحمةً بهِ لأنَّهُ يعلمُ أنَّهُ لوْ أغناهُ لطغى، وقدْ قالَ اللهُ تعالى: (( وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. ))
نفعني اللهُ وإياكم بهدي كتابِهِ وأجارنا مِنْ خِزِي عذابِهِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، فأستغفرُوهُ وتوبوا إليهِ، إنَّهُ هُوَ التَّوابُ الرَّحيمُ.
" الخُطبةُ الثانيةُ "
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الخلقِ سيدِنا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ أجمعينَ
أمَّا بعدُ: أيُّها المسلمونَ، كانَ نبيُّكم-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- متفائلاً دائماً حاسنَ الظنِّ باللهِ عزَّ وجلَّ متوكلاً عليهِ سبحانَهُ، ولمَّا هاجرَ مِنْ مكةَ إلى المدينةِ وتَبِعهُ قومُهُ لقتلهِ وأختبأَ في غارِ ثورٍ، وكانَ مَعَهُ صدِّيقُ هذه الامةِ أبو بكرٍ-رضيَ اللهُ عنهُ- فوقفَ المشركونَ على بابِ الغارِ، فقالَ أبو بكرٍ-رضيَ اللهُ عنهُ-للنبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( لو أنَّ أحدَهم نظرَ تحت قَدَمَيهِ لأبصَرَنا. فقال: ما ظنُّكَ يا أبا بكرٍ باثنينِ اللَّهُ ثالثُهما. )) " رواه البخاري "
كانَ نبيُّكم-صلى اللهُ عليهِ وسلَّم- ينهى عَنِ التشاؤمِ، وكانَ يُحبُّ الفألَ الحسنَ، عَنْ عبدِ بنِ عمروِ بنِ العاصِ-رضيَ اللهُ عنهما-قالَ: قالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (( لا عدوى، ولا طِيَرَةَ، ولا هامَةَ، ولا حَسَدَ، والعينُ حقٌّ. )) " رواه أحمد " وعَنْ أبي بُردةَ قالَ: أتيتُ عائشةَ-رضيَ اللهُ عنها- فقلتُ لها: يا أُمَّاهُ حدثيني شيئاً سمعتيهِ مِنْ رسولِ الله-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فقالتْ: قالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (( الطِيرةُ تجري بقدرٍ، وكانَ يُعجبُهُ الفألَ الحسنَ. )) " رواه أحمد ". والتشاؤمُ واليئسُ والقنوطُ، مِنْ صِفةِ الكافرينَ والمنافقينَ الظَّانينَ باللهِ ظنَّ السوْءِ، قالَ سبحانه: (( يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ. )).
عِبادَ اللهِ، مهما طالَ الليلُ فالفجرُ قريبٌ، ومهما اسودَّ الليلُ فاللهُ سميعٌ قريبٌ مُجيبٌ، والمستقبلُ للاسلامِ، وحينها سيعلمُ الذينَ ظلموا في أيِّ منقلبٍ ينقلبونَ، قالَ تعالى: (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. )) وقالَ سبحانَهُ: (( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. ))
وغيرُ ذلكَ مِنَ الاياتِ، وقالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (( ليبلُغُنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنَّهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلَّا وأدخلَهُ اللهُ هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ، عزِّاً يُعزُّ فيهِ أهلُ الاسلامِ، وذُلّا يُذَّلُ فيهِ أهلُ الكفرِ. )) " صححه الالباني " ومعنى الحديثِ، سوفَ ينتشرُ الاسلامُ في كُلِّ أنحاءِ العالمِ، بالقوةِ والعزِّ والرفعةِ، ويدخلُ في هذا الدينِ الرَّاضيُّ والكارهُ.
ذُكرَ أهلُ السيرِ أنَّ الصليبيِّين جاؤوا إلى دِيارِ الإسلامِ في ألفِ ألفِ مقاتلَ، ودخلوا بيتَ المقدسِ، وصنعوا فيهِ ما لا تصنعهُ وحوشُ الغابِ، ولبثوا فيه أُسبوعًا يقتلونَ المسلمينَ، حتى بلغَ عددُ القتلى أكثرَ مِنْ ستِّينَ ألفًا؛ منهم الأئمَّةُ والعلماءُ والمتعبِّدونَ والمجاورونَ. وكانوا يُجبرونَ المسلمينَ على إلقاءِ أنفسهم مِنْ على الأسطُحِ، وأخذوا أطنانَ الذهبِ والفضَّةِ، والدَّراهمِ والدنانيرِ، ووضعتْ الصُّلبانُ على بيتِ المقدسِ، وأُدخلتْ فيهِ الخنازيرُ، ونُوديَ مِنْ على مآذنِ التوحيدِ بأنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ. وساعتَها ظنَّ اليائسونَ ألاَّ عودةَ لبيتِ المقدسِ أبدًا إلى المسلمينَ.
كَمْ طَوَى الْيَأْسُ نُفُوسًا لَوْ رَعَتْ مَنْبَتًا خَصْبًا لَصَارَتْ جَوْهَرَا
وقامَ للهِ بالإيمانِ رجلٌ مِنْ أهلِ العراقِ، واسمُهُ في رُبَى التاريخِ عطرٌ ونورٌ، واسمُهُ كما تعرفونَ "صلاحَ الدينِ الأيوبيِّ"، الذي جهَّزَ جيشًا لاستردادِ بيتِ المقدسِ وتأديبِ المعتدينَ، فتقدَّمَ إلى بُحيرةِ طبريةَ، واستحوذَ عليها، فصار جيشُ الصليبيِّينَ في عطشٍ عظيمٍ.
وقامَ الوعَّاظُ والخطباءُ يُعلِّمونَ الجماهيرَ أخلاقَ الإسلامِ ونصرَ اللهُ - تعالى - المؤمنينَ، وهلكَ مِنْ أعدائِهم ثلاثونَ ألفًا، حتى قيل: لم يَبقَ أحدٌ، وأُسِرَ منهم ثلاثونَ ألفًا حتى قيلَ: لم يُقتلْ أحدٌ. ودخلَ المسلمونَ بيتَ المقدسِ، وطهَّروهُ مِنَ الصليبِ، وطهَّروهُ مِنَ الخِنزيرِ، ورقى الخطيبُ المنبرَ بعد تعطُّلٍ للجُمُعةِ دام واحدًا وتسعينَ عامًا، وكانَ أوَّلُ ما قالَ قولَه - تعالى -: (( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ))
أيُّها المسلمونَ: الخيرُ في هذهِ الامةِ إلى قيامِ الساعةِ، مهما كثُرَ فيها الفسادُ والضلالُ والفجورُ،
قالَ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إذا قالَ الرَّجلُ هلكَ النَّاسُ فَهُوَ أهلكُهم. )) " رواه مسلم " وقالَ الشيخُ بنِ بازٍ-رحمَهُ اللهً-: (( هذهِ الامةُ تغفو ولكنَّها لا تنامُ، وتمرصُ ولكنَّها لا تموتُ. ))
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهديهِ اللهُ فَهُوَ المُهتدِ، ومَنْ يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الَّلهُ وحدَهُ لا شَريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ..........
أمَّا بعدُ: عبادَ اللهِ، الحياةُ بلا أملٍ لا معنى لها، ولولا الأملُ بطلَ العملُ، ترى طالبَ العلمِ يُثابرُ ويجتهدُ بالدراسةِ لماذا؟ يأملُ أنْ ينجحَ، وترى التاجرَ يُثابرُ في تجارتِهِ ويكدحُ في الدنيا لماذا؟ يأملُ بتوسيعِ رزقهِ وتكبيرِ تجارتِهِ، وترى المجاهدَ في سبيلِ اللهِ يصبرُ على التعبِ والمشقةِ والارهاقِ لماذا؟ يأملُ بالنصرِ أوْ بالفوزِ الذي أعدَّهُ اللهُ للمجاهدينَ، وترى الانسانَ يصلي ويصومُ ويزكي ويتصدقُ ويفعلُ الخيرَ ويُطيعُ اللهَ ويُخالفُ هواهُ لماذا؟ يأملُ بأنْ يفوزَ بجنةٍ عرضُها السمواتُ والارضُ، فبالأملِ يذوقُ الانسانُ طعمَ الحياةِ، ويحِسُّ ببهجةِ الحياةِ.
عبادَ اللهِ، في هذا الزمنِ الذي كَثُرتْ فيهِ الفتنُ، كَثُرتْ ذنوبُ البشرِ، وكُلَّما كَثرتْ الفتنُ، كُلَّما كَثُرتْ الذنوبُ، وعلى الانسانِ أنْ لا يترددُ بالرجوعِ إلى اللهِ مهما لوثَتْهُ الذنوبُ والخطايا، فإنَّ الذي ستركَ تحتَ سقفِ المعصيةِ، لنْ يَفضحُكَ تحتَ جناحِ التوبةِ، قالَ سبحانَهُ: (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ))
ويُروى أنَّ رجلاً جاءَ إلى عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ-رضيَ اللهُ عنهُ-وقدْ ألمَّ بذنبٍ، فـأعرضَ عنهُ ابنُ مسعودٍ، ثُمَّ التفتَ إليهِ فإذا عيناهُ تذرفانِ، فقالَ لهُ ابنُ مسعودٍ: ((اعلمْ أنَّ للجنةِ ثمانيةَ أبوابٍ، كُلُّها تُفتحُ وتُغلقُ إلَّا بابَ التوبةِ، فإنَّ عليهِ مَلَكاً مؤكلاً بهِ لا يُغلقُ حتى تطلعَ الشمسُ مِنْ مغربِها، فاعملْ ولا تيئسْ ولا تقنطْ مِنْ رحمةِ اللهِ. )).
عبادَ اللهِ، مِنْ رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، أنَّهُ يُرسلُ ملائكةً للعبدِ المؤمنِ الصالحِ المستقيمِ عندَ الاحتضارِ، حتى يُحسِنَ الظنَّ بربِّهِ عزَّ وجلَّ، فيُرسلُ لهُ ملائكةً بيضَ الوجوهِ، وجوهُهم منيرةٌ مضيئةٌ كالبدرِ، معهم كفنٌ مِنْ أكفانِ الجنَّةِ، وحَنُوطٌ مِنْ حنوطِ الجنَّةِ، قالَ سبحانَهُ: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. ))
أيْ لا تخافوا مِنْ عذابِ اللهِ فقدْ سَلِمتم مِنْ عذابهِ وعقابهِ، الذي أعدَّهُ للكافرينَ والمنافقينَ والفاجرينَ، ولا تحزنوا على ما تركتم في الدنيا مِنْ أموالٍ وأزواجٍ وبنينَ، فإنَّ اللهَ سيحفظُهم لكم بصلاحِكم واستقامتِكم على طاعةِ اللهِ،
وضعْ الفَ خطٍّ تحتَ كلمةِ ثُمَّ استقاموا، كُلُّنا يقولُ: ربُّنا اللهُ، ولكنْ ليسَ كُلُّنا مستقيمينَ، هلْ أصحابُ الاغانيِّ مستقيمون؟ هلْ أصحابُ الزنا مستقيمونَ؟ هل أصحابُ الشهواتِ والمعاكساتِ مستقيمون؟ لا واللهِ ليسوا مستقيمين.
أيُّها المسلمونَ، يقولُ نبيُّكم-صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-: (( لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللّهِ عَزَّ وَجَلَّ. )) " رواه مسلم "
فإذا أذنبتَ ذنباً أحسنِ الظَّنَّ باللهِ بأنَّهُ سيغفرُهُ لكَ، وإذا صليتَ صلاةً أحسنِ الظَّنَّ باللهِ بأنَّهُ سيقبلُها منكَ، وإذا دعوتَ دعوةً أحسنِ الظَّنَّ باللهِ بأنَّهُ سيستجيبُ لكَ، وقدْ قالَ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (( ادعوا اللهَ وأنتم موقنونَ بالاجابةِ. ))
وكانَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ-رضيَ اللهُ عنهُ-يقولُ: (( والذي لا إلهَ غيرُهُ، ما أُعطيَ عبدٌ مؤمنٌ شيئاً خيرٌ مِنْ حُسنِ الظَّنِّ باللهِ عزَّ وجلَّ، والذي لا إلهَ غيرُهُ، لا يحسِنُ عبدٌ باللهِ عزَّ وجلَّ الظَّنَّ إلَّا أعطاهُ اللهُ ظنَّهُ ذلكَ لأنَّ الخيرَ في يدِهِ. )) فإذا أردتَ شيئاً مِنْ أمرِ الدنيا والاخرةِ، أحسنِ الظَّنَّ باللهِ عزَّ وجلَّ، ولا تيئسْ ولا تقنطْ فكرمُ اللهِ لا يتأخرُ إنَّما يأتي في الوقتِ المُناسبِ، وذُكرَ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى أكرمُ مِنَ العبدِ، فإذا تقربَ العبدُ إليهِ شبراً تقربَ إليه ذِراعاً، وإذا تقربَ إليهِ ذِراعاً تقربَ إليهِ باعاً، وإذا أتاهُ يمشي أتاهُ اللهُ سبحانَهُ وتعالى هرولةً.
أحسنوا ظنَّكم باللهِ عندَ الشدائدِ والكُرباتِ، فإنَّ الثلاثةَ الذينَ تخلَّفوا عَنْ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-في غزوةِ تبوكٍ، لمْ يَكشِفُ عنهمُ اللهُ ما بِهم مِنْ كربٍ وضيقٍ إلَّا بعدَما أحسنوا الظَّنَّ بربِّهم، قالَ سبحانَهُ: (( لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. )) وتأملْ في قولِهِ وظنُّوا أنْ لا ملجأَ مِنَ اللهِ إلَّا إليهِ، فلمَّا أحسنوا الظَّنَّ باللهِ رزقَهمُ اللهُ إياهُ،
ولمَّا ابتلعَ الحوتُ سيدَنا يونُسَ-عليهِ السَّلامُ- قالَ في ظُلماتِ البحرِ: أنْ لا إلهَ إلَّا أنتَ سبحانكَ إنِّي كنتُ مِنَ الظَّالمينَ، وكانَ في ثلاثةِ ظُلماتٍ، ظلمةُ الحوتِ وظلمةُ البحرِ وظلمةُ الليلِ، فظَّنَّ أنْ لا ملجأَ إليهِ إلَّا اللهُ، فماذا كانَ الجواب؟ قالَ سبحانَه: (( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. )) (( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ. )).
أحسنوا ظنَّكم باللهِ عندَ الفقرِ، وعندَ ضيقِ العيشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ. )) " رواه الترمذي " وإنزالُها باللهِ، أنْ تُوقِنَ وتَظُنَّ بأنَّ اللهَ يُفَرِّجُ عنكَ ويُزيلُها.
أحسنوا ظنَّكم باللهِ عندَ موتِ أحدٍ أوْ مصيبةٍ أوْ ضيقٍ أوْ همٍّ أوْ غمٍّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا. )) " رواه مسلم ".
أحسنوا ظنَّكم باللهِ عندَ الدعاءِ، فقدْ يدعو الانسانُ اللهَ شيئاً ولمْ يعطهِ إياهُ، ويدخلُ الشيطانُ على هذا الانسانِ ويُشكِّكُهُ بربِّهِ عزَّ وجلَّ، لا بُدَّ أنْ تعلمَ ما مِنْ دعوةٍ يدعوها المُسلمُ إلَّا استجابَ اللهُ لهُ، إمِّا يستجيبُ لهُ بالدنيا أوْ يصرفُ عنهُ مِنَ السوءِ مثلِها أوْ يدَّخرها لهُ بالاخرةِ، وقالَ أحدُ الصَّالحينَ: (( إنَّا لندعوا اللهَ مرةً، فإنِ استجابَ لنا فَرِحنا مرةً، وإنْ لمْ يستجبْ لنا فَرِحنا عَشَرَ مراتٍ، لأنَّ الاولى بإختيارِنا والثانيةَ بإختيارِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى. )) وقدْ يدعو الانسانُ ربَّهُ فيقولُ: ياربِّ اجعلني غنياً فإذا لمْ يستجبِ اللهُ لهُ خيرٌ لهُ، جاءَ في الاثرِ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ-رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: (( يأتي الرَّجلُ فيقولُ: ياربِّ اجعلني غنياً، فيقولُ اللهُ لملائكتِهِ اصرفوا عبدي فإنِّي لوْ أغنيتُهُ لطغى. )) فاللهُ عزَّ وجلَّ يأبى أنْ يَغنيهُ رحمةً بهِ لأنَّهُ يعلمُ أنَّهُ لوْ أغناهُ لطغى، وقدْ قالَ اللهُ تعالى: (( وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. ))
نفعني اللهُ وإياكم بهدي كتابِهِ وأجارنا مِنْ خِزِي عذابِهِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، فأستغفرُوهُ وتوبوا إليهِ، إنَّهُ هُوَ التَّوابُ الرَّحيمُ.
" الخُطبةُ الثانيةُ "
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الخلقِ سيدِنا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ أجمعينَ
أمَّا بعدُ: أيُّها المسلمونَ، كانَ نبيُّكم-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- متفائلاً دائماً حاسنَ الظنِّ باللهِ عزَّ وجلَّ متوكلاً عليهِ سبحانَهُ، ولمَّا هاجرَ مِنْ مكةَ إلى المدينةِ وتَبِعهُ قومُهُ لقتلهِ وأختبأَ في غارِ ثورٍ، وكانَ مَعَهُ صدِّيقُ هذه الامةِ أبو بكرٍ-رضيَ اللهُ عنهُ- فوقفَ المشركونَ على بابِ الغارِ، فقالَ أبو بكرٍ-رضيَ اللهُ عنهُ-للنبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( لو أنَّ أحدَهم نظرَ تحت قَدَمَيهِ لأبصَرَنا. فقال: ما ظنُّكَ يا أبا بكرٍ باثنينِ اللَّهُ ثالثُهما. )) " رواه البخاري "
كانَ نبيُّكم-صلى اللهُ عليهِ وسلَّم- ينهى عَنِ التشاؤمِ، وكانَ يُحبُّ الفألَ الحسنَ، عَنْ عبدِ بنِ عمروِ بنِ العاصِ-رضيَ اللهُ عنهما-قالَ: قالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (( لا عدوى، ولا طِيَرَةَ، ولا هامَةَ، ولا حَسَدَ، والعينُ حقٌّ. )) " رواه أحمد " وعَنْ أبي بُردةَ قالَ: أتيتُ عائشةَ-رضيَ اللهُ عنها- فقلتُ لها: يا أُمَّاهُ حدثيني شيئاً سمعتيهِ مِنْ رسولِ الله-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فقالتْ: قالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (( الطِيرةُ تجري بقدرٍ، وكانَ يُعجبُهُ الفألَ الحسنَ. )) " رواه أحمد ". والتشاؤمُ واليئسُ والقنوطُ، مِنْ صِفةِ الكافرينَ والمنافقينَ الظَّانينَ باللهِ ظنَّ السوْءِ، قالَ سبحانه: (( يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ. )).
عِبادَ اللهِ، مهما طالَ الليلُ فالفجرُ قريبٌ، ومهما اسودَّ الليلُ فاللهُ سميعٌ قريبٌ مُجيبٌ، والمستقبلُ للاسلامِ، وحينها سيعلمُ الذينَ ظلموا في أيِّ منقلبٍ ينقلبونَ، قالَ تعالى: (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. )) وقالَ سبحانَهُ: (( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. ))
وغيرُ ذلكَ مِنَ الاياتِ، وقالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (( ليبلُغُنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنَّهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلَّا وأدخلَهُ اللهُ هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ، عزِّاً يُعزُّ فيهِ أهلُ الاسلامِ، وذُلّا يُذَّلُ فيهِ أهلُ الكفرِ. )) " صححه الالباني " ومعنى الحديثِ، سوفَ ينتشرُ الاسلامُ في كُلِّ أنحاءِ العالمِ، بالقوةِ والعزِّ والرفعةِ، ويدخلُ في هذا الدينِ الرَّاضيُّ والكارهُ.
ذُكرَ أهلُ السيرِ أنَّ الصليبيِّين جاؤوا إلى دِيارِ الإسلامِ في ألفِ ألفِ مقاتلَ، ودخلوا بيتَ المقدسِ، وصنعوا فيهِ ما لا تصنعهُ وحوشُ الغابِ، ولبثوا فيه أُسبوعًا يقتلونَ المسلمينَ، حتى بلغَ عددُ القتلى أكثرَ مِنْ ستِّينَ ألفًا؛ منهم الأئمَّةُ والعلماءُ والمتعبِّدونَ والمجاورونَ. وكانوا يُجبرونَ المسلمينَ على إلقاءِ أنفسهم مِنْ على الأسطُحِ، وأخذوا أطنانَ الذهبِ والفضَّةِ، والدَّراهمِ والدنانيرِ، ووضعتْ الصُّلبانُ على بيتِ المقدسِ، وأُدخلتْ فيهِ الخنازيرُ، ونُوديَ مِنْ على مآذنِ التوحيدِ بأنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ. وساعتَها ظنَّ اليائسونَ ألاَّ عودةَ لبيتِ المقدسِ أبدًا إلى المسلمينَ.
كَمْ طَوَى الْيَأْسُ نُفُوسًا لَوْ رَعَتْ مَنْبَتًا خَصْبًا لَصَارَتْ جَوْهَرَا
وقامَ للهِ بالإيمانِ رجلٌ مِنْ أهلِ العراقِ، واسمُهُ في رُبَى التاريخِ عطرٌ ونورٌ، واسمُهُ كما تعرفونَ "صلاحَ الدينِ الأيوبيِّ"، الذي جهَّزَ جيشًا لاستردادِ بيتِ المقدسِ وتأديبِ المعتدينَ، فتقدَّمَ إلى بُحيرةِ طبريةَ، واستحوذَ عليها، فصار جيشُ الصليبيِّينَ في عطشٍ عظيمٍ.
وقامَ الوعَّاظُ والخطباءُ يُعلِّمونَ الجماهيرَ أخلاقَ الإسلامِ ونصرَ اللهُ - تعالى - المؤمنينَ، وهلكَ مِنْ أعدائِهم ثلاثونَ ألفًا، حتى قيل: لم يَبقَ أحدٌ، وأُسِرَ منهم ثلاثونَ ألفًا حتى قيلَ: لم يُقتلْ أحدٌ. ودخلَ المسلمونَ بيتَ المقدسِ، وطهَّروهُ مِنَ الصليبِ، وطهَّروهُ مِنَ الخِنزيرِ، ورقى الخطيبُ المنبرَ بعد تعطُّلٍ للجُمُعةِ دام واحدًا وتسعينَ عامًا، وكانَ أوَّلُ ما قالَ قولَه - تعالى -: (( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ))
أيُّها المسلمونَ: الخيرُ في هذهِ الامةِ إلى قيامِ الساعةِ، مهما كثُرَ فيها الفسادُ والضلالُ والفجورُ،
قالَ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إذا قالَ الرَّجلُ هلكَ النَّاسُ فَهُوَ أهلكُهم. )) " رواه مسلم " وقالَ الشيخُ بنِ بازٍ-رحمَهُ اللهً-: (( هذهِ الامةُ تغفو ولكنَّها لا تنامُ، وتمرصُ ولكنَّها لا تموتُ. ))