التفاؤل في ظل الأزمات والمحن

محمد سعيد صديق
1438/03/02 - 2016/12/01 06:46AM
الخطبة الأولى العنوان /التفاؤل في الأزمات والمحن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأُوصيكم - أيُّها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتزوّدوا بها فإنها خير الزاد، واستعدوا بالأعمال الصالحة ليوم المعاد .
معاشر المسلمين: إنَّ من أعظم سمات المسلم, التفاؤلَ وحسنَ الظن بالله, والتفاؤلُ عبادةٌ عظيمة, وطاعةٌ نتقرب بها إلى الله تعالى ولو في أحلك الظروف, ولقد أكثر الله تعالى في كتبه من النهي عن الحزن والقنوط, وهاهو ربنا جلَّ وعلا يحكي عن نبي الله يعقوبُ, وهو في قمة التفاؤل مع شدة المصيبة, وهول الفاجعة, فَقَدْ فَقَدَ ابنه يوسف عليه السلام, ثم مضت سنواتٌ على فقده وغيابه عنه, ثم يفقد ابنه الْمحبوبَ الآخر, فما شعورُ أبٍ يفقد أعزَّ اثنين من أبنائه؟ وأما يعقوبُ فله شأنٌ آخر, حيث لا تزيده المصائب إلا أملاً, (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) فاليأس صفة للكافرين, واليأس قرين الضلال. قال هذه العبارةَ المليئةَ بالأمل والتفاؤل, وهو لا يزال يرجو عودة يوسف عليه السلام, الذي مضى على غيابه سنواتٌ طويلةٌ, انقطعتْ فيها أخباره, واندثرتْ فيها آثارُه, ثم يُفجَع بالمصيبة الثانية حيث فقد الأبن الآخر, فما زاده ذلك إلا تفائلاً, (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
وهذا إمامنا وحبيبنا صلّى اللّه عليه وسلّم, ضرب أعظم الأمثلة في التفاؤل, فهذا خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ رضي الله عنه، يأتي شاكياً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ, وَقَدْ لَقوا مِنَ المُشْرِكِينَ شِدَّةَ الأذى والحصار، فَقال له: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا, أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ:"وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
ويوم أنْ هاجر من مكة إلى المدينة, خرج هو وأبو بكر مطاردًا من فلول المشركين الحاقدين, وأحاطت المخاوف والأخطارُ من كل حدبٍ وصوب، ومع ذلك يقولُ لصاحبه:(لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا). وفي الأحزاب أحاط به خصومه وأعداؤه, إحاطة السوار بالمعصم، فبشر أصحابه بفتح الشام وفارسَ واليمن فالمآسي والآلام التي تمرُّ بها أمتنا في فلسطين, والعراق والشام واليمن وفي بورما, تُؤْلمنا وتُحزننا, ولا عذر لنا في خُذلانهم والتقاعس عن نُصرتهم, ولو بالكلام والدعاء والدعم المالي, ولكن لا يعني هذا أنْ نكون مُتشائمين, ولا أنْ يزول الأمل من قلوبنا.
عباد الله، لقد غمر التفاؤل حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ورسّخه مبدأً ساميًا، وربّى عليه الأوائل الأفذاذ. نزل في علوّ المدينة في حيّ يقال لهم بنو عمرو بن عوف كما في البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهذا تفاؤل له ولدينه بالعلو. رأى راعيًا لإبل فقال: ((لمن هذه؟)) فقال: لرجل من أسلم، فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: ((سلمتَ إن شاء الله)). بدّل اسم امرأة تدعى: عاصية إلى جميلة، واسم رجل يدعى: أصرم إلى زرعة. وفي الحديبية جاء سهل يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم عن قريش، فتفاءل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((سهلٌ إن شاء الله)). ولقد قال عليه الصلاة والسلام كلمة ما أروعها من كلمة نخوض بها في خضم شدائدنا وجميع أحوالنا وأحداثنا "تفاءلوا بالخير تجدوه". فالتفاؤل يدفع بالإنسان نحو العطاء والتقدّم والعمل والنجاح، وكما قال ربنا تبارك وتعالى: (إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا) وفي الحديث القدسي:(أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء). فالله جل وعلا يحب المتفائلين الذين إذا رأوا الشمس أعجبوا بنورها قبل أن يضيقوا بحرها، وإذا رأوا البحر أعجبوا بجماله قبل أن يضيقوا بملوحته، فلا تستبطئ الرزق، ولا تستعجل النجاة، ولا تقلق على حال الأمة ففي كلّ محنة منحةً، ولا تخلو مصيبة من غنيمة، تقول أمّ السائب: الحمّى لا بارك الله فيها، فينهاها النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تسبّي الحمّى))؛ فلها فوائد: تهذّب النفس وتغفر الذنوب، تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يُشاك شوكة فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة)) رواه مسلم. ففي معترك المصائب أوقِد جذوةَ التفاؤل، وعِش في أمل وعمل ودعاء وصبر، ترتجي الخير وتحذر الشرّ. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قلب رداءه بعد الخطبة تفاؤلا بتحوّل حال الجدب إلى الخصب. التفاؤل الذي نتحدّث عنه هو الذي يولّد الهمّة ويبعث العزيمةَ ويجدّد النشاط. المسلم المتفائل متوكّل على الله، أكثر الناس نشاطًا، أقواهم أثرًا، كلّ عسير عليه يسير، وكلّ شدّة فرجُها آتٍ وقريب. المتفائل دائمًا يتوقّع الخير، يبتسم للحياة، يحسن الظنَّ بالله، والله عز وجلّ بيده مقادير الأمور، وهو سبحانه سيكشف الضرَّ الذي نزل بالأمّة، وسيجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق فرجًا، وبعد الحزن سرورًا، يرجو رحمة الله، ويتعلّق بحبل الله المتين، واثقا بالله راضيا بقضائه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه يحسن الظن بربه.
ألا فلنتوارد جميعا رغم شدة الخطوب، وفداحة الكروب على إحياء منهج التفاؤل، وإقصاء وارد الإحباط والتضاؤل والتشائم. الحديث بالتشاؤم عن حال المسلمين يفتّ في عضد المسلمين، ويصيب بالحزن والقنوط. الذي يردّد كلمات الخوَر والاستسلام يظنّ أنّه بذلك قد وجد لنفسه عذرًا يتخلّص به من محاولة القيام بالواجب، ومن كان هذا حاله لا تسري في عروقه روح الأمل، فلن يصنع تأريخا، ولن يبني خيرًا، ولنستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يهذّب النفوس ويربيها على العطاء والخير، يقول: ((إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ . فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ)) رواه مسلم.
إنَّ الذينَ يُحْسِنونَ صِناعَةَ الحياةِ، ويُتْقِنونَ صِياغَةَ التارِيخِ،ويَبْنونَ أُسُسَ الحضارةِ هُمْ أكثرُ الناسِ أملاً وتفاؤلاً، وأقلُّهمْ يأساً وتشاؤماً، وإنَّ المتشائمينَ لا يصنعونَ حضارةً، ولا يَبْنونَ وطناً، ولا يَنْصرونَ دِيناً، ولا يُعَمِّرونَ دُنْيا. فكونوا يارعاكم الله مِنْ أهلِ الأملِ والتفاؤلِ وإيَّاكمْ واليأسَ وأهلَهُ، فإنَّه يُطْفِئُ جَذْوَةَ الأملِ في النفوسِ، ويقطَعُ خُيوطَ الرجاءِ مِنَ القلوبِ، وليسَ اليأسُ والقنوطُ مِنْ صِفاتِ المؤمنينَ. أَلا وإنَّ الحياةَ قصيرةٌ فلا تُقَصِّروها بالهمومِ والأحزانِ، ولا تُنَغِّصوا عَيْشَكم بكَدَرِ الحياةِ فإنَّها هَكَذا خُلِقَتْ لا تَصْفو لأحدٍ مِنَ الكَدَرِ، ولولا أنَّها دارُ ابتلاءٍ واختبارٍ؛ لمْ تكنْ فِيها الأمراضُ والأكْدارُ، ولم يَضِقِ العيشُ فِيها على الأنبياءِ والأخيارِ.
واعلَموا أنَّ بَسْمَةَ الحياةِ ولذَّتَها مِنْ نَصيبِ أربابِ الأملِ وأصحابِ التفاؤلِ، ورُبَّ مِحْنَةٍ تَلِدُ مِنْحَةً، وربَّ نورٍ يَشِعُّ مِنْ كَبِدِ الظَّلامِ، فإنَّ النصرَ معَ الصبرِ، وإنَّ الفرجَ معَ الكربِ، وإنَّ معَ العُسْرِ يُسْراً، فأبشِروا وأمِّلُوا فما بعدَ دياجِيرِ الظلامِ إلاَّ فَلَقُ الصبْحِ المشرِقِ.(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم , ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين , أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب , فاستغفروه , انه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: أيها المسلمون: إليكم هذه الحادثة التي سطر حروفها التاريخ وخلد ذكرها على مر الزمن، لتكون نبراساً لنا وتحيى في نفوسنا الأمل والتفأول. ذكرَ أهلُ السيرِ أنَّ الصليبيِّين جاؤوا إلى دِيارِ الإسلامِ في ألفِ ألفِ مقاتلَ، ودخلوا بيتَ المقدسِ، وصنعوا فيهِ ما لا تصنعهُ وحوشُ الغابِ، ولبثوا فيه أُسبوعًا يقتلونَ المسلمينَ، حتى بلغَ عددُ القتلى أكثرَ مِنْ ستِّينَ ألفًا؛ منهم الأئمَّةُ والعلماءُ والمتعبِّدونَ والمجاورونَ. وكانوا يُجبرونَ المسلمينَ على إلقاءِ أنفسهم مِنْ على الأسطُحِ، وأخذوا أطنانَ الذهبِ والفضَّةِ، والدَّراهمِ والدنانيرِ، ووضعتْ الصُّلبانُ على بيتِ المقدسِ، وأُدخلتْ فيهِ الخنازيرُ، ونُوديَ مِنْ على مآذنِ التوحيدِ بأنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ. وساعتَها ظنَّ اليائسونَ ألاَّ عودةَ لبيتِ المقدسِ أبدًا إلى المسلمينَ.
كَمْ طَوَى الْيَأْسُ نُفُوسًا لَوْ رَعَتْ مَنْبَتًا خَصْبًا لَصَارَتْ جَوْهَرَا
وقامَ للهِ بالإيمانِ رجلٌ مِنْ أهلِ العراقِ، واسمُهُ في رُبَى التاريخِ عطرٌ ونورٌ، واسمُهُ كما تعرفونَ "صلاحَ الدينِ الأيوبيِّ"، الذي جهَّزَ جيشًا لاستردادِ بيتِ المقدسِ وتأديبِ المعتدينَ، فتقدَّمَ إلى بُحيرةِ طبريةَ، واستحوذَ عليها، فصار جيشُ الصليبيِّينَ في عطشٍ عظيمٍ. وقامَ الوعَّاظُ والخطباءُ يُعلِّمونَ الجماهيرَ أخلاقَ الإسلامِ ونصرَ اللهُ - تعالى - المؤمنينَ، وهلكَ مِنْ أعدائِهم ثلاثونَ ألفًا، حتى قيل: لم يَبقَ أحدٌ، وأُسِرَ منهم ثلاثونَ ألفًا حتى قيلَ: لم يُقتلْ أحدٌ. ودخلَ المسلمونَ بيتَ المقدسِ، وطهَّروهُ مِنَ الصليبِ، وطهَّروهُ مِنَ الخِنزيرِ، ورقى الخطيبُ المنبرَ بعد تعطُّلٍ للجُمُعةِ دام واحدًا وتسعينَ عامًا، وكانَ أوَّلُ ما قالَ قولَه - تعالى -: (( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
أيُّها المسلمونَ: الخيرُ في هذهِ الامةِ إلى قيامِ الساعةِ، مهما كثُرَ فيها الفسادُ والضلالُ والفجورُ، قالَ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إذا قالَ الرَّجلُ هلكَ النَّاسُ فَهُوَ أهلكُهم. )) " رواه مسلم " وقالَ الشيخُ بنِ بازٍ-رحمَهُ اللهً-: ((هذهِ الامةُ تغفو ولكنَّها لا تنامُ، وتمرصُ ولكنَّها لا تموتُ)).
أيها الأحبة الكرام، فْلنحذر من إشاعة روح التشاؤم في المجتمع, وبث الأخبار التي فيها تثبيط العزائم, ونشر الخوف والهلع بين الناس, والأخبار الحزينةِ, "وإِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ".
الفــأل نــورٌ للفتى وســعـادةٌ ** فاهنَأ بدربٍ يَستضِيءُ بفالِكَا
ما الشُّؤمُ إلا ظُلمةٌ وشقاوةٌ ** من نالَ منه الشُّؤمُ أصبحَ هالِكًا
هذَا وصلوا وسلموا – رحمكم الله - على من أمركم ربكم بذلك فقال عز من قائل :(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )....

المشاهدات 5629 | التعليقات 1

هذه الخطبة قمت باعداداها وترتيبها من بعض خطب المشايخ الفضلاء لحاجة الناس اليها في هذا الوقت سائلا المولى أن ينفع بها