التغافل شيمة الأفاضل

أ.د. صالح بن فريح البهلال
1442/03/02 - 2020/10/19 13:19PM

التغافل  شيمة الأفاضل

الحمد لله الذي نصب الكائنات على ربوبيته دليلاً، وبين الحق والهدى فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أولانا من فضله عطاءً جزيلاً،  وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسوله أفضل الخلق هدياً، وأصدقهم قيلاً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدلوا تبديلاً، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، فمن اتقى الله أعزه وأعانه، وأسعده وأذهب أحزانه، وبوأه في الآخرة جنانه: [تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا].

عباد الله: إن الله ـ جل في علاه ـ خلق الإنسان مدنياً بالطبع؛ يؤثر الاجتماع على العزلة، فلم يوجدْه في جوف مغارة، ولا في زاوية صومعة، ولا على رأس جبل؛ بل أوجده مخالطاً بني جنسه؛ وإن من لازم هذه المخالطة أن يقع الجهل من الناس بعضهم على بعض.

وإنه ليحسن بالعاقل أن يكون ذا أناة، فلا يعجلْ بالمحاسبة على كل خطأ في حقه؛ فإنه إذا عاتب على كل هفوة، وحاسب على كل جفوة، أوشك أن يعيش وحيداً، كما قيل:

وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ ... يَجِدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ

بل عليه أن يسلك مسلك التغافل، فهو السبيل الأمثل لعلاج كثير من المشاكل، وإن من شيم النفوس الطاهرات التغافلَ عن الزلات، إبقاءً على الودِّ والعلاقات، ولقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يتمثل هذا الأمر على أحسن وجوهه؛ ففي قصة زوجتيه  اللتين تظاهرتا عليه يقول الله ـ تعالى ـ: [عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ] أي لم يعاتبها في الحديث كله، إنما عاتبها في بعضه، ولم يسرُد لها الأخطاء كلها تكرماً.

ويقول أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: «خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  عشر سنين، والله ما قال لي: أفاً قط، ولا قال لي لشيءٍ: لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا».

فمن أراد أن يسعد زوجه وأولاده، فليغفل معهم عن الأخطاء المعتادة؛ فبذلك يستقيم البيت، ويطيب العيش. 

إن التغافل يا عباد الله هو مسلك الأكابر والأفاضل؛ فهم لا يستقصون، ولا يحصون؛ بل يتغاضون، ويعرضون، قال الحسن البصري: (ما استقصى كريم قط).

إن الناس لا يحبون الذي ينقِّر أخطاءهم تنقيراً، ولا يزال يذكِّرهم بها تذكيراً.

إنه ليس من التربية في شيء أن يحاسب الأب زوجته وأولاده في كل زلَّة، وليس نجاحاً  أن يحصي المدير خطأ موظفيه كلَّه، وليس تميزاً أن يعُد المعلم أخطاء تلاميذه عداً، وليس صديقاً من يرصِد أخطاء أصحابه رصداً.

أيها المبارك: إن الكمال عزيز، ولن تجد أحداً إلا وفيه صفاء وكدر، ومن تطلب المثالية في الناس فقد رام محالاً، وطلب ممتنعاً، ومبتغي ما لا يكون مَكْدودٌ مُعَنّى؛ فلا ترج شيئاً خالصاً نفعه، فانهلْ من صفو صاحبك، وتعامَ عن كدره، لسان حالك:

إذا أدمت قوارصكم فؤادي   صبرت على أذاكم وانطويت
وجئت إليكمُ طلق المحيا    كأني ما سمعت ولا رأيت

وما أجمل قول أبي تمام حين قال:

ليس الغبي بسيد في قومه      لكنَّ سيدَ قومه المتغابي

قال عثمان بن زائدة، قلت للإمام أحمد: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل، فقال: (العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل)؛ ولذا فقد نجح هذا الإمام الكبير في علاقته مع أهله، فمرة ذكر زوجته المتوفاة، فترحم عليها وقال: (مكثنا عشرين سنة، ما اختلفنا في كلمة).

عباد الله: وإنه ليتأكد التغافل مع من له حق عليك كالوالدين ونحوهم، فإذا سمعت منهم ما تكره فلا تستعجل بالرد والخصومة؛ بل الزم التغافل والتغاضي، واقتد بيوسف عليه السلام لما اتهمه إخوته بالسرقة لم يزد على أن قال في نفسه: [أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون] فكسَبهم، وفاز بالظفر.

و إنه ليتأكد التغافل ـ عباد الله ـ مع أولئك القوم الذين يقعون فيك دون سبب إلا الحسدَ والبغضاء، فلا تقابلهم بجهلهم، بل اعمل معهم بقوله تعالى: [وأعرض عن الجاهلين].

وهكذا كان هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يسمع كلماتٍ خشنةً تنبو عنها الأسماع، وتنفر منها الطباع، فلم يكن يقابل قائلها بمثلها، يقول أنس ـ رضي الله عنه ـ قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو أتيت عبد الله بن أُبي، فانطلق إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وركب حماراً، فانطلق المسلمون يمشون معه، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب ريحاً منك.

ما أعظم حِلم نبينا، وما أزكى نفسه، وما أكرم خلقه، يسمع هذه الكلمات الجافية النابية، فيثبت - صلى الله عليه وسلم - ، لم يستخفَّه سفه هذا المنافق، ولم يستثرْه منطقه، بل أعرض عنه، ولم يجبه.

إذن ـ أيها المبارك ـ لا تستعجل بالرد على من جرحك أو لمزك؛ بل اسكت؛ فسكوتك يحزنه، وإعراضك يقتله كما قيل:

إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرّجت عنه ... وإن خليته كمدا يموت

بارك الله لي ولكم بهدي كتابه، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -  أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فتوبوا إليه واستغفروه؛ إنه كان تواباً.

الخطبة الثانية

 الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضلَ ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإنه ليتعين ـ يا عباد الله ـ التغافل عن الخطأ الذي لم يقصدْه صاحبه؛ فإن هذا هو عين الحكمة والمصلحة، ومن مستحسن ذلك أن عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ دخل مرة المسجدَ في ليلةٍ مُظلمة، فمرَّ برجل نائم فعَثَر به، فرفع الرجلُ رأسَه وقال: أمجنونٌ أنت؟ ـ وما علم أنَّه أمير المؤمنين ـ، فقال عمر: لا، فهمَّ به الحرس، فقال عمر: مَهْ، إنَّما سألني أمجنون؟ فقلت: لا.

وأنهى الموقف بذلك، ولو أنه ـ رحمه الله ـ دقق وفتش لعظم الخصام، وطال المقام، ولكنه أعرض فانتهى الموقف بسلام.

وزبدة القول عباد الله، أن من لزم التغافل مع الناس عاش سالماً، والقول فيه جميل، ومن تتبع الأخطاء، فقد وقع في الداء، وصار مع الناس في بلاء، ومع نفسه في شقاء.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

 

المشاهدات 1298 | التعليقات 0