التعاون على البر والتقوى (من كلام ابن القيم)

محمد بن عبدالله التميمي
1444/04/16 - 2022/11/10 10:25AM

التعاون على البر والتقوى

فإن الله سُبحانَه يقول في كتابه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

وقد اشتملتْ هذه الآيةُ على جميعِ مَصالح العبادِ في معاشِهم ومعادِهم، فيما بينَهم في بعضِهم بعضًا، وفيما بينَهم وبينَ ربهم، فإن كلَّ عبد لا يَنْفَكُّ من هاتينِ الحالتينِ وهذينِ الواجبينِ: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخَلْقِ.

فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرةِ والمعاونةِ والصُّحبةِ، فالواجبُ عليه فيها أن يكون اجتماعُه بهم وصحبتُه لهم تعاونًا على مَرْضاةِ اللهِ وطاعتِه، التي هي غايةُ سعادةِ العبد وفلاحِه، ولا سعادةَ له إلا بها، وهي "البِرُّ والتقوى" اللذانِ هما جماع الدين كله، والبرُّ كلمةٌ لجميع أنواعِ الخير والكمال المطلوب من العبد، وفي مقابلتِه "الإثْم". وفي حديث النَّواس بن سَمْعَان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال له: "جئْتَ تَسأل عن البرِّ والإثم"؛ فالإثم كلمةٌ جامعةٌ للشرِّ والعيوبَ التي يُذَمُّ العبدُ عليها.

فيدخل في مسمى البرِّ الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، ولا ريبَ أن التّقوى جزءُ هذا المعنى، وأكثر ما يُعبرُ بالبِرِّ عن بِرِّ القلب، وهو وجود طَعْمِ الإيمان فيه وحَلاوته، وما يلزم ذلك من طمأنينته وسلامتِه وانشراحِه وقوته وفَرحِه بالإيمان، فإن للإيمان فرحةً وحلاوةً ولَذَاذَةً في القلب، فمن لم يَجِدْها فهو فاقدٌ للإيمان أو ناقصُه.

وقد جمعَ الله تعالى خصالَ البرِّ في قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)}

عباد الله.. وأما التقوى فحقيقتها العملُ بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا فيفعل ما أمره الله به إيمانًا بالأمر، وتصديقًا بموعدِه، ويتركُ ما نهى الله عنه إيمانًا بالنهي، وخوفًا من وعيدِه، كما قال طَلْقُ بن حَبِيب: "إذا وقعتِ الفتنةُ فادفعوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعملَ بطاعةِ الله على نور من الله، ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصية اللهِ على نور من الله، تخاف عقاب الله"، فلا يكون العملُ طاعةً وقُرْبةً حتى يكون مصدرُه عن إيمان، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بتَروٍّ من العلم والاتباع. ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله. ويكون ترك المعاصي خوفًا من الله، لا ليُمدَح بتركها. فمن داومَ على هذه الوصية فقد فاز.

والمقصودُ مِن اجتماعِ الناس وتعاشُرِهم: التعاونُ على البر والتقوى؛ فيُعِيْنُ كلُّ واحد صاحبَه على ذلك علما وعملا.

عباد الله.. ومن أعظم التعاون على البرِّ والتّقوى التعاون على سفر الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم -فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ويقبل الحق وينقاد له ويرضى به ويسلم له، فيتعاون المؤمنون على ذلك- مساعدةً، ونصيحةً، وتعليمًا، وإرشادًا، ومودةً.

ومن كان هكذا مع عباد الله كان الله بكل خير إليه أسرع، وأقبلَ اللهُ إليه بقلوب عباده، وفتحَ على قلبه أبوابَ العلم، ويسَّره لليسرى. ومن كان بالضد فبالضدِّ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}

وزاد هذا السفر: العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومَركَبُه: صِدْقُ اللَّجَأ إلى الله، والانقطاع إليه بكلِّيته, وتحقيق الافتقار إليه من كل وجه, والضراعة إليه, وصدق التوكل عليه، والاستعانة به، والانطراح بين يديه كالإناءِ المَثْلُوم المكسور الفارغ الذي لا شيءَ فيه، يتطلعُ إلى قَيِّمِه ووَلِيِّه أن يَجْبُره، ويَلُمَّ شَعَثَه، ويُمِدَّه من فضلِه ويستره، فهذا الذي يُرجَى له أن يتولى الله هدايتَه، وأن يَكشِفَ له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة، ومنازلها.

ورأسُ مال الأمر وعمودُه في ذلك إنما هو: دوامُ التفكرِ وتدبرِ آيات القرآن، بحيث يستولي على الفكر، ويَشْغَل القلبَ، فإذا صارتْ معاني القرآنِ مكانَ الخواطرِ من قلبه وهي الغالبةُ عليه، بحيث يَصير إليها مَفْزَعُه ومَلْجَؤُه، تَمَكَّنَ حينئذٍ الإيمانُ من قلبه.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وبه اشتغالنا، وفيه دوام فِكْرِنا، اللهم اجعلنا من أهل القرآن، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وفي جميع الأزمان، إنك سميع قريب

الخطبة الثانية

عباد الله.. إن المطلوب في هذا الزمان المعاونةُ على هذا السفر - إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم- بالإعراضِ، وتركِ اللائمةِ والاعتراضِ، وينبغي أن لا يتوقفَ العبدُ في سَيْرِه على هذه الغنيمة، بل يَسِيرُ ولو وحيدًا غريبًا، فانفرادُ العبدِ في طريق طلبِه دليلٌ على صدقِ المحبة.

ومن أراد هذا السفرَ فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء، فإنَّه يَبلُغ بمرافقتِهم إلى مقصدِه، وليحذرْ من مرافقة الأحياء الذين في الناس أموات، فإنهم يَقطَعون عليه طريقَه، فليس لهذا السالكِ أنفعُ من تلك المرافقة، وأوفقُ له من هذه المفارقة، فقد قال بعضُ مَن سَلَفَ: "شتَّانَ بين أقوامٍ موتى تَحْيا القلوبُ بذكرِهم، وبين أقوامٍ أحياءٍ تموتُ القلوب بمخالطتِهم".

فما على العبدِ أضرُّ من عُشَرائِه وأبناءِ جنسه، فإن نظره قاصر، وهِمَّتُه واقفةٌ عند التشبهِ بهم ومباهاتهم والسلوكِ أيَّةً سَلَكوا، حتى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لأحبَّ أن يَدخُل معهم.

عباد الله.. -والموفق يُقِيْمُ لأهل المعاصي- المعاذيرَ ما استطاعَ، وينصحُهم بجهده وطاقته، سائرًا فيهم -وناظرا إليهم- بعينين:

عينٍ ناظرة إلى الأمر والنهي؛ بها يأمرهم وينهاهم، ويواليهم ويعاديهم، ويؤدي إليهم الحقوق، ويستوفيها عليهم.

وعينٍ ناظرة إلى القضاء والقدر، بها يَرْحَمُهم ويدعو لهم ويستغفر لهم، ويلتمسُ لهم وجوهَ المعاذيرِ فيما لا يُخِلُّ بأمرٍ ولا يعود بنقضِ شرعٍ، قد وَسِعَتْهم بَسطتُه ورحمته ولينُه ومعذرتُه، واقفًا عند قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، متدبرًا لما تضمنتْه هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق، وأداء حقِّ اللهِ فيهم، والسلامة من شرهم. فلو أخذ الناسُ كلُّهم بهذه الآية لكفَتْهم وشَفَتْهم، ولو فكَّر الرَّجلُ في كل شرٍّ يَلحقُه من العالم -أعني الشرَّ الحقيقيَّ الذي لا يُوجِبُ له الرِّفعةَ والزُّلفَى من الله- وَجَدَ سببَه الإخلالَ بهذه الثلاثِ أو ببعضِها.

وأولُ الأمر وآخرُه: إنما هو معاملةُ الله وحده، والانقطاعُ إليه بكُلِّيَّةِ القلب، ودوامُ الافتقارِ إليه، فلو وَفَّى العبدُ هذا المقامَ حقَّه لرأى العجبَ العجيبَ من فضلِ ربّه وبرّه ولطفه ودفاعه عنه، والإقبالِ بقلوب عبادِه إليه، وإسكانِ الرّحمة والمحبةِ له في قلوبهم.

عباد الله.. -هاكم- ثلاثَ كلماتٍ كان يكتب بها بعضُ السلف إلى بعض: "مَن أصلحَ سَرِيرتَه أصلحَ أللهُ علانيتَه، ومَن أصلح ما بينه وبين الله أصلحَ اللهُ ما بينَه وبينَ الناس، ومَن عَمِلَ لآخرتِه كفاه الله مَؤُوْنةَ دنياه".

 

                        هذه الخطبة كلها من كلام ابن القيم اختصرته من الرسالة التبوكية ليلة الجمعة 9-4-1444

المرفقات

1668065145_التعاون على البر والتقوى من كلام ابن القيم.pdf

المشاهدات 819 | التعليقات 0