التّعاوُنُ داخلٌ في جميعِ مجالاتِ البِرِّ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1444/12/25 - 2023/07/13 17:01PM

الحمدُ للهِ ربَّ البَرايا، َجزيلِ العطايا، واهبِ السّجايا، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، عالمُ الخفايا؛ غفَّارُ الخطايا، وأشهدُ أنَّ محّمَّداً عبدُه ورسولُه صادقُ النّوايا؛ زَكيُّ التّحَايا؛ صلّى اللهُ وسلَّم عليه، ما طلعتِ النُّجومُ السّرايا، وما ذُبِحَتِ الأضاحِي والهدايا، وعلى آله وصحبِه أولي الفضائلِ والمزايا، وعلى التّابعينَ ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الجزاءِ لأهلِ الفضائلِ والرزايَا..

أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، فتقوى اللهِ نورٌ وبرهانٌ، وقوّةٌ وإيمانٌ: "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ"

معاشرَ المؤمنينَ: التّعاوُنُ قيمَةٌ اجتماعيةٌ عظيمةٌ؛ تقتضي المُشاركةَ في حَمْلِ الأعباءِ، ومواجهةِ المشكلاتِ، بأَنْ يأخذَ كلُّ فردٍ أو جهةٍ اجتماعيّةٍ نصيبَه مِنْ هذه المُشاركَةِ، قالَ اللهُ تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"

والبرُّ؛ التوسُّعُ في فعلِ الخيرِ، والفعلُ المرضِيُّ الذي هو في تزكيةِ النَّفْسِ، وقيلَ: البِرُّ: هو الصِّلَةُ، وإسْدَاءُ المعروفِ، والمُبَالَغَةُ في الإحْسَانِ، وقيلَ: البرُّ سَعَةُ النَّفْعِ.

قال المَاوِرْدِيُّ رحمه اللهُ: نَدَبَ اللهُ سبحانَهُ إلى التَّعاونِ بالبرِّ، وقَرَنَه بالتَّقوى لهُ؛ لأَنَّ في التَّقوى رضا اللهِ تعالى، وفي البرِّ رضا النَّاسِ، ومَنْ جَمَعَ بينَ رضا اللهِ تعالى ورضا النَّاسِ فقدْ تمَّتْ سَعَادَتُه، وعَمَّتْ نِعْمَتُه.

قالَ النّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ عنْ قيمَةِ التّعاوُنِ: "إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وشَبَّكَ أصَابِعَهُ" رواهُ البخاريُّ، وقالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: " وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ" رواه مسلمٌ، فمَنْ أعَانَ أخاهُ أعانَه اللهُ، ومَنْ كانَ سَاعيًا في قَضاءِ حاجَاتِ أخيهِ، قَضى اللهُ حاجاتِه؛ فالجزاءُ مِن جِنسِ العمَلِ.

وقالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولَا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حَاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ" رواه البخاريّ.

عبادَ اللهِ: ومِنْ أعظمِ مظاهرِ التّعاوُنِ على البرِّ والتقوى في شريعةِ الإسلامِ: صلاةُ الجماعةِ في المساجدِ، فإنَّ فيها شدّاً للهِممِ، وتقويةً للعزائمِ، ومحافظَةً على أداءِ الصَّلاةِ في وقتِها، وكمالِ أدائها؛ قالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "ما مِن ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بدوٍ لا تقامُ فيهمُ الصَّلاةُ إلَّا قدِ استحوذَ عليْهمُ الشَّيطانُ فعليْكم بالجماعةِ فإنَّما يأْكلُ الذِّئبُ القاصيةَ" رواهُ أبوداودَ والنسَائيُّ، وحسَّنَه الألبانيُّ.

ومِنْ مظاهرِ التّعاونِ على البرِّ والتقوى: الاجتماعُ على ذكرِ اللهِ وتلاوةِ كتابِه ومُدارستِهِ؛ قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ" رواه مسلمٌ.

ومِنْ مظاهِرِ التّعاوُنِ على البرِّ والتقوى: إسداءُ النّصيحَةِ للمسلمينَ؛ خاصّتِهم وعامّتِهم؛ قالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ" رواه مسلمٌ.

ومِنْ مظاهرِ التّعاوُنِ على البرِّ والتّقوى: التعاوُنُ في وليمَةِ العُرسِ؛ ففي صحيحِ البخاريِّ أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ لما أصْبَحَ عَرُوْسَاً مِنْ صفيّةَ رضيَ اللهُ عنها؛ قالَ: "مَن كانَ عِنْدَهُ شيءٌ فَلْيَجِئْ به، وبَسَطَ نِطَعًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بالتَّمْرِ، وجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بالسَّمْنِ، قالَ: وأَحْسِبُهُ قدْ ذَكَرَ السَّوِيقَ، قالَ: فَحَاسُوا حَيْسًا ــ وهو خليطُ التَّمرِ والسَّمْنِ والدَّقيقِ ــ فَكَانَتْ ولِيمَةَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"

ومِنْ مظاهرِ التّعاوُنِ على البرِّ والتقوى: التّعاوُنُ في السّفَرِ، وخِدمَةُ الرِّفقةِ ومساعدتِهم؛ قالَ أنَسُ بنُ مالكٍ رضيَ اللهُ عنهُ: "كنَّا معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ في السَّفرِ، فمنَّا الصَّائمُ ومنَّا المفطرُ، فنزلنا في يومٍ حارٍّ، واتَّخذْنَا ظِلَالًا، فسَقطَ الصُّوَّمُ، وقامَ المفطِرونَ، فسقَوا الرِّكابَ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ : ذَهبَ المفطِرونَ اليومَ بالأجرِ" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.

ومِنْ مظاهرِ التّعاوُنِ على البرِّ والتّقوى: التعاوُنُ بين الزّوجينِ؛ عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنها وعن أبيها؛ قالتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وما له في الأرْضِ مِن مالٍ ولا مَمْلُوكٍ، ولا شَيءٍ؛ غيرَ ناضِحٍ وغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أُعْلِفُ فَرَسَهُ، وأَسْتَقِي الماءَ، وأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وأَعْجِنُ، ولَمْ أكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وكانَ يَخْبِزُ جاراتٌ لي مِنَ الأنْصارِ، وكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وكُنْتُ أنْقُلُ النَّوَى مِن أرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتي أقْطَعَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى رَأْسِي، وهي مِنِّي علَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ .. إلى آخرِ الحديثِ" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.و ثلثي الفَرسخِ: ـ أيْ قرابةَ ثلاثةِ كيلواتٍ وربعِ الكيلو ..

ومِنْ مظاهرِ التّعاوُنِ على البرِّ والتقوى: التعاوُنُ بينَ الجيرانِ في أعمالِ البيوتِ ومِنْها إعدادُ الطّعامِ؛ ففي حديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنها وعن أبيها ــ آنفِ الذِّكرِ ــ قالتْ: "ولَمْ أكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وكانَ يَخْبِزُ جاراتٌ لي مِنَ الأنْصارِ، وكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ"

ومِنْ مظاهِرِ التّعاوُنِ على البرِّ والتقوى: معاونَةُ الخادمِ والأجيرِ على العَمَلِ حَسْبَ القُدْرَةِ والاستطاعَةِ؛ قالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "هُم إخوانُكم خَوَلُكم، جَعَلَهمُ اللهُ تحتَ أيْدِيْكم، فمَنْ كانَ أخُوهُ تحتَ يَدِه فلْيُطعِمْه ممَّا يَأكُلُ، ويُلبِسْه ممَّا يَلبَسُ، ولا تُكلِّفُوهم ما يَغلِبُهم، فإنْ كَلَّفتُموهم فأعينُوهم" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.

ومِنْ مظاهرِ التّعاوُنِ على البرِّ والتقوى: التعاوُنُ على نظافَةِ البيئةِ وحمايَتِها، قالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "ويُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ" رواه البخاريُّ، وقالَ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أنْ لا تَقومَ حتَّى يَغْرِسَها فلْيغرِسْها" رواهُ البخاريُّ في الأدبِ المفردِ وصححه الألبانيُّ.

ومِنْ مظاهرِ التّعاوُنِ على البرِّ والتقوى: التعاوُنُ في الإصلاحِ بينَ النّاسِ؛ قالَ تعالى: "لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا"

عبادَ اللهِ: هذهِ أمثلَةٌ لبعضِ مظاهرِ التعاوُنِ؛ المرادُ مِنها التذكيرُ والتّوضيحُ؛ وإلا فمجالاتُ التعاونِ كثيرةٌ جدًا لا تكادُ تُحْصَرُ؛ فالعَوْنُ يكونُ في مجالِ المُساعدةِ بالمالِ، وبالجِسمِ، وبالقَولِ، وبالجَاهِ، وبالعِلْمِ والمَشُورَةِ النافعةِ، وبالشفاعةِ الحَسَنةِ، والإمدادِ بالقوَّةِ والإمدادِ بالرِّجالِ، وما مِنْ عَمَلٍ في الحياةِ إلاَّ له جوانبُ يُمْكِنُ أنْ تكونَ مَجالًا مِنْ مَجَالاتِ التّعاونِ.

باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنَّةِ، ونفعنا بما فيهما مِنَ الآياتِ والحكمةِ.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنّه كانَ غفاراً.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشّكْرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الدّاعي إلى رضوانِه؛ صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آله وأصحابِه وإخوانِه.

أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ: "وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ"

معاشرَ المؤمنينَ: قد يكونُ التّعاوُنُ ضرورةً حَتْمِيَّةً لإنجازِ الأعمالِ، وللقيامِ بالمهامِّ، والمرءُ مهما بلغَ مِنَ القوّةِ والقُدْرَةِ يبقى ضعيفاً؛ يحتاجُ مُعاونَةَ إخوانِه، ومسانَدَةَ غيرِه، ألم يَقُلْ ذو القرنينِ "فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا" فلا يَظُنَّنَ أحدٌ أنَّه في غنىً عن الحاجةِ للتعاوُنِ والمعونَةِ.

وبعدُ عبادَ اللهِ: كانَ السلفُ الصّالحُ يَحُثُّ بعضُهمْ بعضًاً على التَّعاونِ، ومِنْ وَصايَاهُمْ في ذلك: قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضيَ اللهُ عنه: (عليكَ بإخوانِ الصِّدْقِ فَعِشْ في أكنافِهم؛ فإنَّهمْ زَيْنٌ في الرَّخاءِ، وعُدَّةٌ في البلاء) وقالَ عطاءُ بنُ أبي رباحٍ رحمَهُ اللهُ: (تَفَقَّدُوا إِخْوَانَكُمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ فَإِنْ كَانُوا مَرْضَى فَعُودُوهُمْ، أَوْ مَشَاغِيلَ فَأَعِينُوهُمْ، أَوْ كَانُوا نَسُوا فَذَكِّرُوهُمْ) وقَالَ رَجُلٌ لِدَاوُدَ الطَّائِيِّ: أَوْصِنِي؛ قَالَ: (اصْحَبْ أَهْلَ التَّقْوَى؛ فَإِنَّهُمْ أَيْسَرُ أَهْلِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ مُؤْنَةً، وَأَكْثَرُهُمْ لَكَ مَعُونَةً) وسُئِلَ أَبِو حَمْزَةَ الشَّيْبَانِيُّ عَنِ الْإِخْوَانِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: (هُمُ الْعَامِلُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْمُتَعَاوِنُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ دُورُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ)

هذا وصلوا وسلموا على رسولِ اللهِ ...

المشاهدات 308 | التعليقات 0