التعامل مع الوباء
إبراهيم بن صالح العجلان
التعامل مع الوباء 12/7/1441هـ
إخوة الإيمان:
عبر الحدود والقارات، ودخل الدول بلا جوازات، لم ترصده الأجهزة ولا الآلات.
وسائل الإعلام تتسارع في نقل أخباره، والحديث عن كيفية مواجهته والحدِّ من أضراره.
لا تطاله العين المُجردة، لكنه يُعطِّل عجلة التصنيع، ويشل الاقتصاد، ويضعف الانتاج.
إذا لاح خبره في أرض، خربت أسواقها، وتعطلت مصالحها، وأثار الذعر في جوانبها، وأصبح شبحاً جاثماً على أهلها.
فيروس كورونا هو حديث الساعة عند العالم أجمع، في إعلامهم ومجالسهم، ومنتدياتهم ووسائل تواصلهم.
إن ظاهرة الأوبئة التي تجتاح المجتمعات، ليس بظاهرة جديدة حديثه،
بل أتى الناس زمن وأزمان ذاقوا فيه من لهيب هذه الأسقام، ما أوهن الأجسام، وأخاف الأنام، وبقيت آثاره الجسام.
ولا زال العالم يفجأ ويفجع بأدواء وأوبئة تهب من الشرق والغرب، تنوعت في أسمائها وتوافقت في خطورتها.
يأتي الوباء ويتجدد، فيتعين معه الحديث عن النظرة الشرعية، في التعامل معه والوقاية منه.
إن النظرة الإسلامية في التعامل مع الطواعين لا إفراط فيها ولا تفريط.
نظرة وسطية معتدلة بين التهوين والتهويل، فلا يصح التساهل مها، ولا ينبغي إشاعة القلق، وبث الرعب فبها.
إن الواجب علينا نحن المسلمين أن لا تكون نظرتنا للأوبئة نظرة مادية صرفة، بل الواجب أن تكون لنا مع مثل الأمراض عبرة ومحطة للوقوف والمراجعة والمحاسبة، فتهتز النفوس فرقاً من الله، وتمتلئ القلوب تعظيماً لله، فهذه الأوبئة هي من الآم الدنيا ومصائبها، والله سبحانه قد أمرنا أن نتضرع ونستكين لله، ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون )
إنَّ هذه الأوبئة يوم تنشر أجنجتها، كأنما تُخاطب البشر: أن الأمر لِلَّهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.
تُخاطبهم: أنَّ الإنسان مهما اغترَّ وطغَى، وأعرَضَ وبغَى، فليس بمُعجِزٍ في الأرض، وليس له من دون الله من ولي ولا نصير .
أين الحذر والاحترازات، أين الأموال والميزانيات، أين القوة العسكرية، أين العقول والعبقرية؟.
طاشت وتلاشت أمام مخلوق صغير حقير، فسبحان الخالق العظيم الكبير... وصدق الله، ومن أصدق من الله قيلاً، ( وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال).
هذه ... هي الرِّسالة الأولى التي ينبغي أن تُفقَه، وتستقر في الأذهان.فهذه الأمراضَ هي أكبر برهان على ضعفِ المخلوق، وعجزه وقلِّة حيلته.
مَابَالُهُ يَتَخَفَّى وَهُوَ يَنْتَشِرُ *** فَمَا نَرَاهُ وَلَكِنْ يَظْهَرُ الأثَرُ؟
قَالُوا صَغِيرٌ فَمَا نَسْطِيعُ رُؤْيَتَهُ *** مَا بَالُهُمْ مِنْ صَغِيرٍ وَاهِنٍ ذُعِرُوا؟
أَيْنَ التَجَسُّسُ حَتَّى كَادَ قَائِلُهُمْ *** يَقول إنَا نَرَى مَا يُضمِرُ البَشَرُ
أَيْنَ الصَّوَاريِخُ تَجْتَازُ الحُدُودَ وَفِي ***رُؤوسِهَا مَابِهِ الأَحْجَارُ تَنصَهِرُ
مَابَالُ كُلِّ جُيوشِ الأَرْضِ قَاطِبَةً *** تَبِيتُ خَائِفَةً وَالقَلْبُ مُنكَسِرُ
أين المَدافعُ ؟ تهتَزُّ الجبالُ لها *** أينَ القنابلُ بالنّيرانِ تَنفجرُ ؟
كُلُّ الوَسَائِلِ تَهْذِي وَهِيَ خَائِفَةٌ *** مِمَّا تُبَيِّنُهُ لِلْعَالَمِ الصُّوَرُ
تخشى الصغيرَ الذي مازال مختفياً ** وقد تمكّن منها الخوفُ والضجرُ؟
تُحَذّرُ الناسَ “كُورُونَا” وَتَجْهَلُهُ *** لَوْ كَانَ يَمْنَعُ مِمَّا قُدِّرَ الحَذَرُ
يَا خَالِقَ الكَونِ لُطْفَاً أَنْتَ مُنْقِذُنَا *** إِلَيكَ نَلْجَأُ مِمَّا سَاقَتِ النُّذُرُ
بك استعذنا وماندعو سواك إذا *** ما انْتابنا مرضٌ نخشاهُ أو خطَرُ
إن هذه الأوبئة وإن كانت من الأقدار المؤلمة فإن الواجب الشرعي أن نستدفع أقدار الله بأقدار الله.
لقد جاءت نصوص ديننا مؤكدة وآمرة بالحفاظ على النفس والبدن والعقل، بل وحمايتها من الضروات التي جاءت بها الشريعة، فالتعرض للوباء والهلاك إثم وحرام، (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)... والأمر بالعلاج لمن مسه الوباء مأمور ومطلوب شرعاً، وفي الحديث: ( تداووا فإن الله تعالى لم يضع داءً إلاّ وضع له دواء غير داء واحد الهرم ).
شريعة الإسلام تبني في النفوس الإيمان بالله والتسليم لقضائه وقدره، وإرجاع الأمر كله لله، فلن يصاب العبد بضرر إلا بعلم الله، ولن يمسه السوء إلا بقدر من الله، (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
وهذا نوع من المداواة، ومن تقوية المناعة النفسية عند العبد، فلا تضعف القلوب بالجزع، ولا تتهشم الضمائر بالاعتراض على ما كتب الله، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
شريعة ديننا تربي فينا وتؤكد على الأخذ بمبدأ الوقاية والحماية، فنهت عن مخالطة من به وباء، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد) رواه البخاري، ومن أصيب بالداء فليعتزل الآخرين، ولا يخالطهم، وفي الحديث: ( لا يورد ممرض على مصح) رواه مسلم.
وإذا عم الوباء بأرض فيتعين شرعاً تطبيق مبدأ الحجر الصحي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، :(إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا) متفقٌ عليهِ.
شريعة ديننا مع الحث على الوقاية من الأوبئة، تأمرنا بمواجهة مخاطرها ومحاصرتها بالتداوي، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم ينزل داءً، ـ أو لم يخلق داءً ـ إلاّ أنزل ـ أو خلق ـ له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله إلاّ السام، قالوا: يا رسول الله، وما السام ؟ قال: الموت).
شريعة ديننا تحرم الضرر والإضرار، وأعظم الإضرار، الاعتداء على الآخرين بنقل الإمراض، فيجب شرعاً على من بلي بمثل هذه الأمراض المعدية أن يعالج نفسه وأن لا يعدي غيره، وأن يفعل كل الأسباب الممكنة لدفع الضرر عن مجتمعة، فأمر المرض هنا لا يتعلق به وحده، بل له آثار المدمرة على الأرواح في بيته ومجتمعه، وحفظ اأرواح مقدس في شريعة الإسلام.
شريعة ديننا جاءت بالنظافة والطهارة، فحثت على الاغتسال، وأوجبت الوضوء لكل صلاة، وأمرت بنتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونهت عن التنفس في الإناء أو النفخ فيه، وأمرت بالتجمل وأخذ الزينة في دور العبادة، وأماكن الاجتماع، كل ذلك ليبقى للجسد نظافته وسلامته، هذا في الأمر الاعتيادي، وتتأكد هذه الطهارة عند حلول الأوبئة الضارة، فيتعين هنا التنظف والطهارة، ويدخل فيها، تعقيم الأماكن، وغسل اليدين دائماً.
أيها المسلم حمانا الله وإياك ومجتمعنا من كل بلاء ووباء، أعلم أخي المبارك أن مثل هذه الأوبئة تكثر معها الأراجيف والشائعات، وتهول الآثار، فالواجب علينا جميعاً طمأنة الناس، وبث روح الطمأنينة فيهم، فلا تؤخذ المعلومات إلا من مصادرها، مع تنفيذ توصيات الجهات الرسمية، التي تهدف لحفظ المجتمع ووقايته.
مع البعد عن التخوف والوسوسة بالوباء، فلا زال الوباء لا يدعوا لغلبة الخوف في هذه البلاد، فالحمد لله الإصابات معدودة، والعدوى محدودة، والأَمْرُ مُطْمْئِنٌ بِفَضْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
الخطبة الثانية
أما بعد فيا عباد الله... إن أهل الإيمان إذا حلت بهم الغِيَرُ والتخوفات، تراهم خشعا لله، يكثرون من صالح الأعمال، ويفارقون منكر القول وسيء الأفعال، وشعارهم: ( فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا).
إن هذه الطواعين يجب أن تقاوم مع الأمور الحسية بالإصلاح في الأرض، والبعد عن غضب الله واقتراف الفواحش، وعدم التساهل في مقدماتها، من الاختلاط، وقلة الحياء والعلاقات المحرمة.
أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على المهاجرين وهم جلوس في مسجده، فقال لهم : (يا مَعْشَرَ المهاجرينَ ! خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ : لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ ؛ حتى يُعْلِنُوا بها ؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا ، ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم ، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا ، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم ، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم ، وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم ) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
لا يليق بنا نحن المسلمين أن ترجف قلوبنا خوفا من فيروس وبائي، ولا نجد هذا الفرق في تعظيم حرمات الله، تعظيما لله.
إن خوفك من مخالطة من به وباء يدعوك أن تخاف من مخالطة من تلوثت أفكارهم، وانحرفت عقائدهم، وفسدت أخلاقهم، فالعدوى هنا لست منها في مأمن، وخطرها على الدين، وليست على الدنيا فحسب.
يا من عرضت زينتها، وكشفت مفاتنها، ثم هي الآن تحتمي بالكمامات، الله أولى بالانقياد، وهو سبحانه بيده الضرُّ ونواصي العباد، أتخشون الوباء فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.
وبعد إخوة الإيمان، فربكم على كل شيء حفيظ، سمى نفسه بالحافظ، فالله خير حافظاً، وربك ، وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يؤده حفظهما، فافزع إلى ربك الحفيظ، الذي لم يثقله حفظ السموات والأرض ومن فيهما... وأكثر من دعائه والاطراح بين يديه... فهو الركن إن خانتك أركان....
صلوا بعد ذلك على الرحمة المهداة ....
المرفقات
التعامل-مع-الوباء
التعامل-مع-الوباء