التعامل الأمثل مع الإجازة، بعد الانتهاء من مواسم الطاعة (مختصرة وجاهزة للطباعة).

عبدالله الغامدي
1445/12/14 - 2024/06/20 18:24PM

الخطبة الأولى:

إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:

فالحمد لله الذي بلَّغنا وإياكم مواسم طاعته، وتقبَّل الله منَّا ومنكم خالص ما عملنا فيها، وأعادها علينا وعليكم ونحن في أتم صحةٍ وعافيةٍ.

أيُّها الكرام المباركون: مضى شهرُ رمضان، وانقضتْ عشر ذي الحِجَّة، ذهبتْ تلك الأيام المباركة وانفرطتْ سريعًا، وكذلك -والله- سيمضي العمر وتنفرط أيامه دونَ أن نشعر به ونحسَّ بسرعةٍ انقضائه وتصرُّمه.

وبعدَ فراغِ مواسم الطاعة والعبادة الكبرى، وإقبال الإجازة المطوَّلة؛ لا بأس أن يؤنسَ الإنسان نفسَه ويُجمَّ روحَه بشيء مِنْ اللهو المباح أو السياحة في أرض الله الواسعة من غير إثم؛ فقد قالَ أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إني لأستجم قلبي من اللهو المباح؛ ليكون أقوى لي على الحق"، ومِنْ جميل عبارات ابنِ الجوزيِّ -رحمه الله- في التوازن بين الراحة والإنجاز، قولُه: "وأخذُ الرَّاحةِ للجدِّ جِدٌّ".

فلا بأس إذن بشيء مِنْ الاستجمام والرَّاحة حتى تأخذ النفس حظَّها وحقَّها مِنْ ذلك، لكن هناك وقتٌ طويلٌ في هذه الإجازة يصل إلى ما يقرب من ستين يومًا! يمكن أن يجمع فيها المرء بين النفع والترويح، والاستجمام والإنجاز؛ فيكونَ مِنْ القليل الذين ينتبهون لهذه النعمة الكبرى التي قليلٌ مَنْ ينتبه ويُوفّق لها؛ كما قال الحبيبُ ﷺ: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ مِنْ النَّاس: الصِّحةُ والفراغ).

فيا معشرَ الإخوة الكرام -وخاصَّة الشباب والمتفرِّغين-: إياكم أن تُفوّتوا فرصةَ بناء النفس والارتقاء بالذات في مثل هذه الأوقات، فالفُرص لا تَرجع، والشبابُ والله لا يَعود؛ ولذا قالت حفصةُ بنتُ سيرين -رحمها الله-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، خُذُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَأَنْتُمْ شَبَابٌ؛ فَإِنَّي وَاللهِ مَا رَأَيْتُ الْعَمَلَ إِلَّا فِي الشَّبَابِ".

وإذا أردتَ أن تعرفَ كيفَ وصلَ سلفنا الأوائل إلى ما وصلوا إليه فانظر كيف كانوا يتعاملون مع أوقاتهم!

هذا سيّدُنا عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- يذكرُ أكثرَ شيءٍ نَدِم عليه فيقول: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت فيه شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي".

وهذا الإمام النوويُّ -رحمه الله- الذي يحفظُ ملايين المسلمين -بلا مبالغة- "أربعينه النوويَّة"، ويقرؤون كتابه "رياض الصالحين" في جميع أقطار المعمورة إلى يومنا هذا، لم يصل هذا الإمام إلى هذه المرحلة إلا بعدَ اجتهادٍ كبيرٍ وحفظٍ عظيمٍ لوقته؛ فقد كان يذكر أنه: "كان يقرأ كل يوم اثني عشر درسًا على مشايخه، قال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، ووضوح عبارة، وضبط اللغة، وبارك الله تعالى في وقتي".

وكانوا يقولون عن الحافظ الخطيب البغداديّ -رحمه الله- إمام الدُّنيا في الحديث، واصفين شيئًا من استغلاله لوقته الذي وصلَ به إلى هذه المكانة: "كان الخطيب البغداديُّ يمشي وفي يده جزءٌ يطالعه!".

وابنُ عقيلٍ الحنبليِّ -رحمه الله- صاحب أكبر كتابٍ في العالم؛ حيث بلغت مجلدات كتابه: "الفنون" ثمان مئة مُجلَّد! وربَّما يبدو لك هذا الرقم ضخمًا وغيرَ معقولٍ! لكنَّك إذا عرفتَ كيف كانَ تعاملُ ابنِ عقيلٍ مع الوقت لم تستغرب ذلك؛ فها هو ابنُ عقيلٍ -رحمه الله- يكشفُ جزءً من سرِّ استطاعته بعد توفيق الله في تأليف هذا الكتاب الضخم ويقول عن حرصه الشديد على وقته:"إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره" فلا عجبَ إن كان هذا حفظُه لوقته أن يؤلِّف أكبر كتابٍ في الدُّنيا!

وحتى لا يُظنّ أن استثمار الوقت كان خاصًّا بمن سبق لأنَّ لهم ظروفًا أو أحوالاً أو قدراتٍ خاصَّة؛ فأخبار علمائنا ومشايخنا المعاصرين أشهر مِنْ أن تُذكر وأكثر مِنْ أن تُحصر، ومن ذلك: ما حكاه بعضُ المقرِّبين من الشَّيخِ ابن باز -رحمه الله- أنَّه: "حفظَ ألفية العراقي -ألف بيت كاملة- في الوقت الذي كان يتوضأ فيه، فيتوضأ ويُكرِّر الأبيات في حال وضوئه حتى أكملها وأتمَّها".

فهذه هي أخبارهم في استغلالهم لأوقاتهم، وتلك كانت أحوالهم في استثمارهم لفراغهم؛ فحصّلوا بذلك ما حصّلوا، وكانوا بذلك مَنْ كانوا!

وليسَ المقصودُ -يا كرام- أنْ نصلَ إلى المرحلةِ التي وصلوا إليها، ونُطبَّق تفاصيل ما كانوا يعملون؛ فإنَّ هذا مُتعسِّرٌ أو صعبٌ على أكثر النَّاس، لكنَّ المقصودَ مِنْ هذه الأخبار: أن نشعرَ بأهميَّة وقيمة الوقت، فنشابههم في أصل ما كانوا عليه في محافظتهم على أوقاتهم وتعظيمهم لها، "وما لا يُدرك كلُّه؛ لا يُتركُ كلُّه"

فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلَهم *** إنَّ التشبَّهَ بالكرامِ فلاحُ!

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه غفورٌ رحيم.

point.pngpoint.pngpoint.png

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وذريته وإخوانه، ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسٌ ما قَدَّمَت لِغَدٍ﴾ أما بعد:

أيُّها الآباء الفضلاء، وأيُّتها الأمهات الكريمات: اعلموا أنَّ اللهَ ولَّاكم مسؤوليةً كبيرةً -والأجر على قدر المشقَّة- وجهودكم مشكورةٌ وعظيمةٌ عندَ الله في العناية بطعام وشراب ونفقة عيالكم، لكنَّ الأبوة والأمومة ليست مُجرَّد انتساب، وليست مقتصرة على المطعم والمأكل والشراب؛ فقد قال ﷺ (كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عَنْ رعيته).

وأولادكم أمانةٌ عظيمةٌ أوصاكم الله بها فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون﴾.

قالَ أهلُ التَّفسير: "أي: علِّموهم ورَبّوهم وأدّبوهم بما يكون وقايةً لهم من عذابِ الله".

وأيامُ الإجازة هذه -أيُّها الآباء الفضلاء والأمهات الكريمات- لا بدَّ أن تجعلوا فيها نصيبًا مِنْ الفسحة وقدرًا مِنْ الترفيه المباح لهم، لكنَّ أيام الإجازة ليست بالقليلة، فهي تقرُب مِنْ ستين يومًا، قَدْ تُساهم في رفع أبنائكم إلى أعلى الدرجات إن أُحسنوا استثمارُها، وقَدْ تُرديهم -عياذًا بالله- لأدنى الدَّركات إن لم يحسنوا التعامل معها، فالفراغُ مِنْ أعظم أسباب الفساد الدينيّ والدنيويّ، وقديما قالوا:

إنَّ الشبابَ والفراغَ والجِده *** مفسدةٌ للمرء أيُّ مفسده!

فرحم اللهُ أبًا حَرَص على أبنائه في هذه الأيام؛ فسعى لأن يُوجدَ لهم في هذه الأوقات مِنْ الأنشطة والبرامج ما يُفيدهم في دينهم وديناهم

ورضي الله عن أمٍ اهتمتْ ببناتها في هذه الإجازة؛ فحرصت على أن تبحث لهم عَنْ بعض الأنشطة أو البرامج النسائية التي يتعلمون فيها ما يرقّيهم في حياتهم أو آخرتهم.

ختامًا: معاشرَ الشباب، كونوا على قدر الأمل الذي ينتظره منكم أهلكم وبلادكم وأمتكم، ولا تنسوا أنَّ الشبابَ فرصةٌ إن مضت لا تتكرر، وأمنيةٌ لو ذهبت لن تَعود؛ وأيُّ غبنٍ أن تضيع أيام الإنسان ويذهبَ شبابُه، دونَ أن يُحرزَ تقدُّما -ولو يسيرًا- في أمر دنياه أو آخرته.

أليسَ من الخُسران أن لياليًا *** تمرُّ بلا نفعٍ وتُحسب مِنْ عُمري؟!

هذا وصلُّوا وسلِّموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...

line.png

 

المرفقات

1718898598_التعامل الأمثل مع الإجازة بعد الانتهاء من مواسم الطاعة.docx

1718899152_التعامل الأمثل مع الإجازة بعد الانتهاء من مواسم الطاعة.pdf

المشاهدات 1360 | التعليقات 0