الترغيب في القناعة وبيان ثمراتها

ياسر دحيم
1436/05/20 - 2015/03/11 21:23PM
[align=justify]الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أنشأ وبَرَا، وخلق الماء والثَّرى، لا يغيب عن بصره دبيب النمل في الليل إذا سرى، ولا يعزب عن علمه ما عَنَّ وما طَرَا، وأصلي على رسوله المصطفى وعلى اله وأصحابه النجوم الساطعات في الدجى.

عباد الله : اتقوا الله تعالى حق التقوى

إن من نظر إلى حال الناس اليوم يرى عجبا من شدة تنافسهم على حطام الدنيا الزائل وياليت الأمر توقف عند الحلال مما يحل للإنسان أخذه بل تعداه إلى أكل الحرام ومد اليد إلى حقوق الناس فكثرت المظالم ومن لا يستطع التعدي على حق غيره امتلأ قلبه حسداً لما عند فلان ممن بسطت له الدنيا .

وكل ذلك سببه الطمع وعدم الرضا بما قسم الله وهو يفتح أبوابا كثيرة من أبواب الشر وأقلها أن يموت القلب بالحسرة حسدا وغما , فما كل ما يطمع الإنسان يناله , ويزداد التسخط في الناس وعدم الرضا بما رزقوا إذا قلت فيهم القناعة وحينئذ لا يرضيهم ما رزقهم الله حيث يريدون الزيادة ولو من حرام ولن يشبعهم شيء لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد ، فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي أبداًً ومن كان كذلك فلن يحصِّل السعادة أبدا، يقول النبي -صلى اللله عليه وسلم- : ( ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ). فكم من تعبٍ يلهث في جمع المال وما يزداد إلا فقراً , وغيره ينسكب المال عليه وهو جالس مرتاح البال .

عباد الله : هناك صور متضادة من الحياة نشاهدها ونعايشها اختلف أصحابها في المعاناة واتفقوا في الشكوى بعدم الرضا عن حالهم وعدم القناعة بما هم عليه من نعم. فهذا فقير يشتكي فقره, والعجب من غني تعب من كثرة ماله فهو يشتكي ايضأ ويئن ربما اكثر من شكوى الفقير تأتي اليه وكل كلامه تضجر وتبرم وشكوى . وموظف ملَّ من وظيفته, وعاطل ودَّ لو حصّل عملا, وطالب يتهرب من دراسته, وجاهل يتحسر على تركه للدراسة.

صغيرٌ ودَّ لو كبر *** كبيرٌّ ودَّ لو صغرا
وخالٍ يشتهي عملاً *** وذو عملٍ ترى ضجرا
ورب المال في تعبٍ *** وفي تعبٍ من افتقرا

إن القناعة كنز نفتقده في حياتنا المعاصرة اليوم والقناعة هي الرضا بما قسم الله، ولو كان قليلا، وهي عدم التطلع إلى ما في أيدي الآخرين. لذا كانت القناعة والرضا من النعم العظيمة التي يغبط عليها صاحبها .

عباد الله: إن للقناعة ثمرات وفوائد كثيرة منها: امتلأ القلب بالإيمان بالله والثقة به، والرضا بما قدر وقسم, والطمأنينة بذلك، فروض نفسك على القناعة، ليطمأن قلبك وينشرح صدرك، واعلم أن الرزق مقسوم، قال النبي -صلى اللله عليه وسلم- : (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب).

ومن فوائد القناعة: الحياة الطيبة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال علي وابن عباس: (الحياة الطيبة القناعة). وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي : (من رضي طاب عيشه ومن طمع طال طيشه).

ومن فوائد القناعة: تحقيق شكر المنعم سبحانه ذلك أن من قنع برزقه شكر الله تعالى, ومن تقاله قصر في الشكر .فقد جاء في الحديث : " كن ورعاً تكن أعبد الناس وكن قانعاً تكن أشكر الناس" . صححه الألباني.

ومن فوائد القناعة : الفلاح والبشرى لمن قنع قال -صلى اللله عليه وسلم- : "طوبى لمن هدى إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع " وعند مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما أتاه).

ومن فوائد القناعة : الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات: كالغيبة والنميمة والحسد والحقد فالقنوع سخي النفس راضٍ بما عنده لا يتطلع إلى ما في أيدي الناس قد صفى قلبه الحسد والطمع.

ومن فوائد القناعة : أن حقيقة الغنى في القناعة, قال صلى الله عليه وسلم : (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) متفق عليه, وقال صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا ذر ! أترى كثرة المال هو الغنى؟) فقلت نعم يا رسول الله ، قال : (فترى قلة المال هو الفقر؟) فقلت: نعم يا رسول الله قال : (إن الغنى غنى القلب وإن الفقر فقر القلب). رواه ابن حبان.

وهذه حقيقة فإنك ربما تجد صاحب المال الكثير يلهث في طلب المزيد وعنده ما يكفيه وبنيه, وتجد فقيرا عنده قوت يومه لا يبالي بشيء من الدنيا, بل انك لتعجب حين ترى فقيراً ينفق ويتصدق, وغنياً بخيلاً شحيحاً ممسكاً ربما يتعب أهله إذا انفق عليهم درهم, واذا طلبت منه الإنفاق على الخير اعتذر وشكا إليك ركود التجارة وكساد السوق .

لقد كان من دعاء النبي -صلى اللله عليه وسلم-: ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع, ومن نفس لا تشبع) وصدق القائل:

هي القناعة لا ترضى بها بدلا *** فيها النعيم وفيها راحة البدنِ
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها *** هل راح منها بغير القطن والكفنِ

ومن فوائدها : إن العز في القناعة والذل في الطمع، وفي الحديث : ( شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس). ولأجل هذا رغب النبي -صلى اللله عليه وسلم- المسلم في القناعة، وحثه عليها، وحذره من إذلال نفسه بسؤال الناس والطمع بما في أيديهم، قال حكيم بن حزام سألت النبي --صلى اللله عليه وسلم- فأعطاني، ثم سألته؛ فأعطاني، ثم سألته؛ فأعطاني، ثم قال: "يا حكيم إذا هذا المال حلو خضر؛ فمن أخذه بسخاء نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كمن يأكل ولا يشبع".

عباد الله: إن القنوع غني وإن كان فقيرا قال النبي -صلى اللله عليه وسلم- : (ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس) [متفق عليه] فليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أُوتي، فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني . وقال صلى الله عليه وسلم: (وارْضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس) [الترمذي وأحمد].

إذا ما كنت ذا قلب قنوعٍ *** فأنت ومالك الدنيا سواءُ

لقد نهى الله تعالى نبيه أن يتطلع الى ما عند الناس من زينة الحياة الدنيا (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ).

اقول ماسمعتم واستغفر الله تعالى



الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.

عباد الله: فإذا أراد المرء منا أن يعالج نفسه من الطمع فعليه بالقناعة وليتأمل نعم الله عليه, فكل نعمة هو فيها ليس لها ثمن ولينظر إلى من هو أسفل منه في الرزق والمعاش. والنفس بحاجة إلى مران وتدريب وعدم إطالة النظر فيما عند الناس.

والنفس راغبة إذا رغبتها ** وإذا ترد إلى قليل تقنع

واعلم أن الله سبحانه حينما قسم الأرزاق وقدَّر المقادير إنما ذلك بحكمته جلا وعلا فلا تدري لعل ما كتب الله لك من فقر خير لك من مال يطغيك:

لنفس تجزع أن تكون فقيرة ** والفقر خير من غنىً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت ** فجميع ما في الأرض لا يكفيها

وما أنت فيه من نعم كثيرة من صحة وعافية وأمن لا يقدَّر بثمن, أما ترى كثيراً من أصحاب الأموال لو قدروا على شراء العافية بذهاب أموالهم كلها لما تأخروا. قال الرسول -صلى اللله عليه وسلم-: (من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا) [الترمذي وابن ماجه]. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللله عليه وسلم- : ( انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ , وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ).

عبد الله: إذا كنت فقيرا فغيرك مهموم بالدين إذا كنت لا تمتلك سيارة فغيرك مبتور القدمين, ارض بما قسم الله لك من نعم, فلنعمة واحدة تعدل بما عند غيرك من أموال وتجارة وعمارات, غيرك راقد على سرير المرض منذ سنوات لا يستطيع أن يحرك رجلا ولا يدا واحدة, فالحمد لله.

قال السماء كئيبة ! وتجهما ** قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما
! قال: الصبا ولى! فقلت له: ابتسم ** لن يرجع الأسف الصبا المتصرما !!
قال: التجارة في صراع هائل ** مثل المسافر كاد يقتله الظما
قلت: ابتسم ما أنت جالب دائها ** وشفائها, فإذا ابتسمت فربما
قال: الليالي جرعتني علقما ** قلت: ابتسم و لئن جرعت العلقما
فلعل غيرك إن رآك مرنما ** طرح الكآبة جانبا و ترنما
أتُراك تغنم بالتبرم درهما ** أم أنت تخسر بالبشاشة مغنما ؟
يا صاح, لا خطر على شفتيك أن ** تتثلما, و الوجه أن يتحطما
فاضحك فإن الشهب تضحك و الدجى** متلاطم, و لذا نحب الأنجما !

{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن آله وأزواجه وأصحابه وأتباعه.

اللهم أصلح لنا نفوسنا، وجنبنا آفاتها، اللهم اجعلنا أفقر خلقك إليك، واجعلنا اللهم أغنى خلقك بك، اللهم اجعلنا أذل خلقك لك، واجعلنا اللهم أعز خلقك بك.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.
والحمد لله رب العالمين

[/align]
المشاهدات 2555 | التعليقات 0