التربية قبل التعليم

ناصر محمد الأحمد
1437/04/09 - 2016/01/19 13:54PM
التربية قبل التعليم
12/4/1437ه
د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: بدأنا فصلاً دراسياً جديداً.
إذا كانت الوظيفة الأساسية للإنسان في هذه الحياة هي تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى، فإن ما يتبع ذلك من مكملات وشروط يكون داخلاً في تحقيق العبادة، ومن ذلك التعليم. لذا فإن كل علم يتعلمه الإنسان وكل تقدم تقني يحرزه ينبغي أن يساعده على القيام بواجبه وتأدية رسالته على الوجه المطلوب، هذه الرؤية الإسلامية تكوّن إطاراً نظرياً لحركة التعليم وأهدافه واهتماماته وغاياته وكل المحاور الأخرى المتعلقة بقضية التعليم يجب أن تفسر في ضوء هذا المفهوم. إن أهم سمة للتعليم الصحيح أنه يجعل صاحبه أكثر خشية لله، قال الله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وأي تعليم لا يكسب طلابه هذه الخشية فاعلم أن هناك خلل وخلل كبير. كما أنه يساعد على معرفة الحق والاهتداء إلى الطريق الأقوم، قال الله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد). وكل تعليم لا يهدي طلابه للتي هي أقوم، فهو تعليم فيه عوج وعوج كبير.
إن التعليم في الأمة الإسلامية يمثل مكانةً مهمَّة، فهو يُسهم بفعالية في تشكيل عقول أبناء الأمة وتنشئتهم، وهؤلاء يمثِّلون البنية الأساسية في المجتمعات والدول.
إن التعليم المزهر في صدر الإسلام لبَّى حاجات الأمة، وكوّن أجيالاً ناضجة، وجعل الأمة قائدة لا مقودة، عزيزة لا ذليلة، متبوعة لا تابعة.
رجالُ التربية والتعليم والمربون يقع عليهم العبءُ الأكبر في توجيه الأجيال وتسليحها بالإيمان وتحصينها من الفتن، وتربأ الأمة بالتعليم أن يكون وسيلةً لرفع المستوى المادي مع إهمال مقاصده النبيلة وغاياته التربوية، فهذا الطفل يدلف إلى ساحات التعليم أشبه بوعاء فارغ، وخلالَ الأيام والسنوات تتدفّق في هذا الوعاء الممارسات والسلوكيات والمناهج التي يتلقاها في محاضن التعليم لتشكّل أخلاقَه وترسمَ منهج فكره وطريقةَ حياته، وبهذا يعمل التعليم على تجسيد هُوية المجتمع والأمة، وإبراز قيمها وثوابتها.
ومع تزاحم النظريات التربوية الحديثة ننسى نحن المسلمين أحياناً بعض البدهيات، أو قد نغفل عنها مع مرور الزمن، فمهمّة التعليم الأساسية تربيةُ النشء على قيم الإسلام والمبادئ التي جاء بها الرسول ليكون مسلماً في الاعتقاد والمشاعر والسلوك، خاضعاً في كل جوانب حياته للإسلام، يسجد لله، يخشع ويبكي حين يسمع آياته، يرجو رحمته ويحذر عذابَه.
إن الأمم عباد الله لا تتقدَّم بحشو المعلومات، إنما تتقدَّم بتربية تعمل على غرس القيم وبناء المبادئ، لتجعل منها واقعاً عملياً، لا محفوظات تلوكها الأفواه ثم تفرّغ في قاعات الامتحان، دون أن يكون لها رصيد من الواقع، وأثر يُتحلَّى بها في السلوك.
لا يقول العقلاء فضلاً عن رجال التربية: إن المقصود من التعليم حشو المعلومات وحرفية النصوص دون اعتبار لمعانيها وتجاوبٍ مع مدلولاتها إذا كنا ننشد حقا تربيةَ الأجيال والارتقاء بهم إلى الكمال. فمهما بلغت المعلومات المادية ومستوى الخبرات الآلية فإنها وحدها لا تُنمِّي شخصية، ولا تُعدّ إنساناً، ولا تحرّك البشرية إلى عمل واحد من أعمال الخير، إنما الذي يحركها إلى عمل الخير هو إيمانها بالقيم العليا والمبادئ السامية.
إنّ الاقتصار على حفظ معاني المناهج دون أن تمسَّ هذه المعاني القلبَ، ودون أن ينصبغ بها السلوك، لا فائدة منها، إذ كيف يُتعامل مع العقول والأذهان وتُهمل النفوس والأرواح؟!.
إن مهمة التعليم قبل إعطاء المعلومات تكوينُ هذا القلب الذي يستخدم المعلومات للخير لا للشر، ولنفع البشرية لا لضررها، ولا سبيل لذلك إلا بالتربية، تربيةً ترسِّخ العقيدةَ وتغرسها في أعماق القلب، حتى لا تتصدّع بشبهة، ولا تنحني لشهوة، تربيةً إيمانية بعيدةً عن اللهو والعبث والمجون، أساسها القرآن والسنة، ومنهجها فهم سلف الأمة، وميدانها تزكية النفس، تربيةً تجعل النفس تتعلق بمعالي الأمور وتترفَّع عن سفسافها، فلا ترضى إلا لله، ولا تغضب إلا لله، ولا توالي إلا فيه، ولا تعادي إلا لأجله، فحاجتنا إلى القلوب العامرة بالإيمان ليست دون حاجتنا إلى الرؤوس المشحونة بالمعلومات، كيلا يكون النشء شيطاناً يرمي بشرره وينشر الدمار والبؤسَ على العالمين، وكيلا تجرفه موجات إدمان المخدرات والأفكار المنحرفة والعقائد الضالة، كان عليه الصلاة والسلام لا يترك المرءَ وهواه إذا آمن، بل يتعاهده بالتربية والتعليم، يعلّم أصحابه ذلك، فعندما أسلم عمير بن وهب رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: "فقِّهوا أخاكم في دينه، وأقرِئوه القرآن". وروى الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن قال: "حدثنا من كان يقرِئنا من أصحاب النبي أنهم كانوا يقترئون من رسول الله عشرَ آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعُلِّمنا العلم والعمل". وكان سلفنا الصالح يسمّون معلّم الأولاد المؤدّب والمربي، قال ابن المبارك رحمه الله: "تعلمنا الأدب ثلاثين عاماً، وتعلمنا العلم عشرين". وقال ابن سرين: "كانوا يتعلمون الهديَ كما يتعلمون العلم". وروى ابن المبارك عن ابن الحسن قال: "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث".
عباد الله: إن التعليمَ الفعال المثمرَ هو الذي يسير فيه مع التربية جنبًا إلى جنب، فالتربية والتعليم متلازمان، لأن التعليم بلا تربية لا فائدة منه، ولا ضمان له، والفصل بين التربية والتعليم ينشئ جيلا ضعيفَ الإيمان، هزيلَ الشخصية، مشوَّش الأفكار، لا يقيم اعتباراً لقيَم، يكون لقمةً سائغة للأفكار والمذاهب الهدَّامة، وقد يُسهم بعلمه ونبوغه في تعاسة نفسه ومجتمعه.
ما قيمة العلم إذا كان صاحبه كذوبا خؤونًا، يتمرّغ في الرذيلة، وينقض مبادئَ التربية عروةً عروة بسلوكه وأخلاقه؟! ما قيمة التعليم إذا لم يظهر أثره على الطالب في أدبه مع التعيلم، وفي أدبه مع أساتذته، وفي أدبه مع إخوانه، وفي أدبه مع كتبه؟!.
التعليم ليس مجرّدَ كتاب يُحفظ ومعلومات تُلقى وصفوفٍ ينتظم فيها الطلاب، بل هو إعداد جيل، وتربية نشء، وبناء عقيدة، وترسيخ مفاهيم، وغرس قيم وأخلاق. وبقاءُ أيِّ أمة مرهون بقدرتها على نقل مقوّماتها من العقيدة والأخلاق والتأريخ بلغتها عبر أجيالها الصاعدة.
تظهر مشكلات الأمة الخلقية والسلوكية وتئنُّ المجتمعات من غلوائها وتكتوي بنارها عندما تُهمل التربية، أو ينشأ انفصام بين التربية والتعليم، فهذا التعليم العلمي إذا لم يصاحبه قيمٌ عالية وضوابطُ خلقية فإنه سيؤدي حتماً إلى دمار محقَّق، أليست هذه الحضارة هي التي أشعلت خلالَ ربع قرن حربين عالميتين، وأنتجت واستخدمت من أسلحة الدمار الشامل ما يهدِّد البشرية كلَّها بالفناء الشامل؟! أليست هذه الحضارة المعاصرة تتهاوى في هوّة التحلل الخلقي والقيمي رغم تقدّمها العلمي؟!.
كما ظهرت في الأمة الإسلامية مشكلات في العقيدة والفكر والأخلاق، لا عاصم منها إلا بالرجوع إلى القيم الإيمانية والهداية الربانية، ولذلك يقول علماء التربية: إن أول شيء في الإصلاح هو التربية، وآخر شيء في الإصلاح هو التربية.
إن المنهج يظلّ حبرًا على ورق ما لم يتحوّل إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره مبادئَ المنهج ومعانيَه، ينشأ ناشئ الفتيان منّا على الصدق إذا لم تقع عينه على غش وتسمع أذنه كذباً، ويتعلم الفضيلة إذا لم تُلوَّث بيئته بالرذيلة، ويتعلّم الرحمة إذا لم يُعامل بغلظة وقسوة، ويتربى على الأمانة إذا قطع المجتمع دابرَ الخيانة، هذا ابن عباس رضي الله عنهما شاهد أمامه من يقوم الليل فسارع لذلك ولحق برسول الله .
نحن مطالبون عباد الله بالإفادة من كل العلوم العصرية النافعة، ولا يغيب عن الأذهان في خضّم هذا التدفّق الهائل تصفيتُها من الشوائب وتنقيتُها من لوثاتها، فقد صُبّت في قوالب فكرية مادية معاصرة، صاغتها تصوّرات ثقافية منحرفة، ونبتت في مجتمع يعيش صراعاً عنيفاً بين العلم والدين، جعلهم لا يقيمون وزناً لدين ولا اعتباراً لقيم، فلا ينبغي أن تُحرَّر العلوم والمعارف المعاصرة بعُجِرها وبجرها، حتى تخضع لمصفاة تُنقيها، وعقول مسلمة تعيد صياغتها، فالعلوم العلمية وعلوم الكون والنفس والفلك والاجتماع وغيرها لا نرفضها، ولا نقبل ما أُسِّست عليه من فلسفات تناقض الدين، حتى يغدو الإيمان محوراً لمبادئها، والإسلام إطاراً لمناهجها، وبذلك تنتظم كل العلوم في عقد يتلألأ ويصدح بلا إله إلا الله، كل خردلة منه تسبّح الخالق سبحانه، وتقر بقدرته ووحدانيته. وبهذا تتضافر العلوم وتُستثمر النصوص في مختلف المناهج، لتحقِّق أهدافًا سلوكية بجانب الأهداف التعليمية، حتى يحمل الطالب الأدبَ والفضيلة والعلم والإيمان، ولتكون كل مادة من المنهج مرتبطة بالدين، خادمةً له، معمِّقة لمغزاه، قال الله تعالى: (هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ) [الجمعة:2].

بارك الله ..


الخطبة الثانية :
الحمد لله سابغ النعم والخيرات، أحمده سبحانه وأشكره وأسأله التوفيق للباقيات الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله البريّات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها المسلمون: لقد كان المدرس في الماضي يشعر أنه معلم ومرب وقدوة وأب لكل طالب يقوم على تعليمه، وكان أكثر المدرسين يتصرف التصرف الذي ينسجم مع ذلك الإحساس، وفي الآونة الأخيرة ومن ضمن التطورات الخطيرة في حياة الأمة ما حدث في وظيفة المدرس، وبسبب ضغوط هائلة قزمت كل الرموز والوظائف الفاعلة في الحياة العامة ومنها وظيفة المعلم الذي انحصر في إعطاء المعلومات داخل قاعة الدرس وفق جدول محدد، هذا إن أعطى المعلومات كاملة مستوفاة، فهذا التهميش العنيف غيّر نظرة المدرس إلى نفسه، وغيّر نظرة المجتمع إليه، ودفع ثمن ذلك كله الطالب الذي فقد القدوة والمثل وفقد العطف والسمو والنصح.
أيها المسلمون: التعليم ضرورةٌ للرجل والمرأة، ولاختلاف الخصائص النوعية لكل منهما ينبغي أن لا نغفل عن المناهج التي تؤهّل كلَّ نوع لوظيفته الطبيعية في الحياة. فمع تغذية الفتاة بالعلوم والمعارف النافعة، تُعدّ لتباشر عملَها الأساس زوجةً وأمًّا، مربيةَ أجيال وصانعةَ رجال. والفتى يؤهَّل ليكون قائدَ أسرة يديرها بحكمة وعلم.
لقد غدا إعدادُ مناهج عن الأسرة ومتعلقاتها في مراحل التعليم المتقدمة مطلباً ملحًّا وضرورةً اجتماعية فرَضَه واقعُ الأسر اليوم الذي يعيش ترابطاً هشاً، وجفافاً عاطفياً، وجهلاً بمفهوم القوامة وأسس الحياة الزوجية ومقوِّماتها، ومبادئ تربية الأولاد، وفنّ التعامل مع المشكلات الأسرية، ناهيك عن السيل الجارف من الطلاق وارتفاع معدَّلات العنوسة في المجتمع.

ألا وصلوا عباد الله على رسول الهدى، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنّه وإنسه، فقال: (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين ..
اللهم ..
المشاهدات 3329 | التعليقات 0