التربية في البيوت والمدارس

أيها المسلمون:
اعلموا أن من أعظم ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية اليوم، هو إتقان صناعة الفرد الصالح في المجتمع دينًا ودنيا، أدبًا وعلمًا، أمانة وصدقًا. فإذا ما خرّجت الأمة هؤلاء حصلت لها السعادة، والسيادة، والقيادة، وأصبحت مؤثرة لا متأثرة مقلَّدة لا مقلِّدة، تسمع إن تكلمت، وتطاع إن أمرت، يهابها الأعداء؛ ويحترمها العقلاء؛ وهل انتشر الإسلام إلا على يد رجال صنعوا في المدرسة النبوية؟ فسادوا الدنيا وهم القليل عددهم، القليلة عدتهم.
إن بناء الفرد المسلم على أساس من الدين القويم، عقيدة وشريعة، سلوكًا وأخلاقًا من أهم الخطوات، ليكون الفرد نافع نفسه، ومجتمعه، وأمّته؛ وأما إذا خرج المجتمع بنتاج يدرس الأخلاق والعقيدة والعبادات في المنهج الدراسي دراسة نظرية، ولا يطبقها عمليًا، فإن هذا النتاج لن ينفع أمته ولو كثر. لقد رفع الله شأن العلماء العاملين فقال الله -تعالى-: ﴿قُل هَل يَستَوِي الَّذينَ يَعلَمونَ وَالَّذينَ لا يَعلَمونَ﴾ [الزمر: ٩]، وقال الله -تعالى-: ﴿يَرفَعِ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَالَّذينَ أوتُوا العِلمَ دَرَجاتٍ﴾ [المجادلة: ١١]، كما بين النبي ﷺ فضل العلماء العاملين حيث قال: (إن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء؛ وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه الترمذي. ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم حاكم والمال محكوم؛ مات خُزّان الأموال وبقي خُزّان العلم. وكان ﷺ يدعو للشباب بالعلم فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ضمني رسول الله ﷺ وقال: (اللهم علّمه الكتاب) رواه البخاري.
وفي هذه الأيام يبدأ الطلاب بالعودة إلى مدارسهم ومعاهدهم حيث تفتح المدارس أبوابها للطلاب فمرحبًا بأبنائنا وفلذات أكبادنا، وأهلًا بطلاب العلم، إن الأمّة تعلّق على أبنائها بعد الله أملًا كبيرًا، فهم أبناء اليوم ورجال وعلماء الغد:
أأبناء المدارس إن نفسي

فسقيا للمدارس من رياض


 
تؤمل فيكم الأمل الكبيرًا
لنا قد أنبتت منكم زهورًا


ولتعلموا معشر المتعلمين، أن الإسلام قد دعا إلى الأخلاق الكريمة التي يكون بها صلاح الأمور واستقامة الأحوال، فالأخلاق هي عماد التقوى وأساس الخير. إن الأخلاق مع الإيمان هما سمة هذه الأمة. أما الارتقاء بالعلم وأخذ الشهادات مع انحطاط الآداب والأخلاق فإن ذلك لا ينفع كما قيل:
لا تحسبن العلم ينفع وحده
فالناس هذا حظه مال وذا


 
ما لم يُتَوّجْ ربُّه بخلاق
جاه وذاك مكارم الأخلاق


 
وقال آخر:
وما فاسد الأخلاق بالعلم مفلحًا


 
ولو كان بحرًا زاخرًا من بحاره


إن الناس ينظرون إلى المتعلمين، ويرون فيهم القدوة والأسوة، والجيل المبارك، فكونوا معشر الطلبة أحسن الناس معاملة، وأجملهم منطقًا، وأشرفهم خلقًا، أطيعوا المعلمين والموجهين في غير معصية الله، ولا تستعينوا على طلب العلم بالمعاصي فعلم الله لا يهدى لعاصٍ، احرصوا على أوقاتكم، واجتهدوا بما فيه منفعتكم، ومنفعة أمّتكم.
إن العلم النافع يطبقه الإنسان على نفسه، وإن ثمرة العلم: العمل به، وما الفائدة من علم بلا عمل؟! لو أن إنسانًا درس الطب وأصبح ماهرًا فيه إلا أنه لم يعالج نفسه ولم يعالج غيره، فما فائدة علمه وتعبه؟ سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي ﷺ فقالت: (كان خلقه القرآن) رواه مسلم، قال الله -تعالى-: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لِمَ تَقولونَ ما لا تَفعَلونَ ۝ كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقولوا ما لا تَفعَلونَ﴾ [الصف: ٢-٣]، ولقد ذكر الله من صفات اليهود عدم العمل بالعلم فقال الله -تعالى-:﴿أَتَأمُرونَ النّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلونَ الكِتابَ أَفَلا تَعقِلونَ﴾ [البقرة: ٤٤]، إن على المتعلم إذا حصل قدرًا من العلم أن يعلم أنه قليل بجانب ما يجهله، وعليه أن لا يدخله العجب والغرور، وليعلم أنه لا سبيل إلى الإحاطة بالعلم كلّه، فلا عار أن يجهل بعضه، يقول الإمام الشافعي ‘:
كلّما أدبني الدهر
وإذا ما ازددت علمًا


 
أراني نقص عقلي
زادني علمي بجهلي


ومن وصايا لقمان لابنه كما في القرآن الكريم: ﴿وَلا تُصَعِّر خَدَّكَ لِلنّاسِ وَلا تَمشِ فِي الأَرضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُختالٍ فَخورٍ﴾ [لقمان: ١٨]، وفي الحديث الذي رواه الترمذي قال النبي ﷺ: (لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم).
أيها المعلمون والموجهون: ما أجمل الاهتمام بتربية الأبناء وفلذات الأكباد! وما أحسن أن يوجهوا إلى أن الدين والأخلاق ليسا أرقامًا في أوراق، ولكنهما علم وعمل، وأدب وإخلاص، جميل توجيه الأبناء أن ينووا بدراسة العلم وجه الله -تعالى- وأن الله سينيلهم النجاح والفوز في الدنيا والآخرة ما داموا يرجون ما عند الله، قال الله -تعالى-:﴿فَمَن زُحزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فازَ ِ﴾ [آل عمران: ١٨٥]، فهذه ثمرة العلم النافع، وأنتم أيها المعلمون، لكم من الله الأجر والثواب عندما تدعون  الطلاب إلى العلم، وتوجهونهم إلى الخير، وفي وصية نبي الله ﷺ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كما ورد في الحديث الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: (لئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم) رواه البخاري ومسلم.
 ليكن شعارك أيها المعلم الفاضل: ﴿وَمَن أَحسَنُ قَولًا مِمَّن دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحًا﴾ [فصلت: ٣٣]، وليعلم المعلّم الفاضل أنه راع ومسؤول عن رعيته، وهو مطالب بالنصح لطلابه، وفي الحديث أن رسول الله ﷺ قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة) رواه البخاري ومسلم، وليعلم المعلم الكريم أنه إذا ترك هذه البراعم الغضة ولم يهتم بها فإن رياح الشهوات والشبهات تعصف بها، وأعداء الإسلام لن يتركوا المسلمين وأبناءهم فهم يودون أن ينسلخ المسلمون من الدين. إن أقل ما ينتظر من المدرس الكريم أن يكون مظهره إسلاميًا، وأن يتفق قوله وفعله وسلوكه مع روح الإسلام فإذا دخل على طلابه مثلًا فليقابلهم بوجه طلْق وليسلم عليهم بقوله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وليبدأ حديثه بحمد الله، والصلاة والسلام على نبيه إلى غير ذلك، مما يغرس الفضائل والأخلاق الحميدة في نفوس الناشئة. ولقد كان من هدي النبي ﷺ إبرازه مكانة المتعلمين العلمية، والثناء عليهم. فمن ذلك ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر؛ وأشدّهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان؛ وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال عن الحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت؛ وإن لكل أمة أمينًا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح)
رواه ابن ماجه. رضي الله عن هؤلاء الصحابة وعن الصحابة أجمعين. إن هذا المنهج النبوي ينبغي أن يأخذ به كل معلم راشد، وداعية ناجح، فيشيد بالمواقف الحسنة لتلاميذه، وينمّي فيهم الطموح بالحق، والتفوق بالعدل، وإن كلمة تقدير وتكريم من إنسان له مكانة في شأن أحد تلاميذه، قد تصنع منه بتوفيق الله نابغة من نوابغ العلم، أما الازدراء والسخرية والتحقير فإن لهذه الأشياء أضرارًا كبيرة من تحطيم نفسية الطالب، وكراهية الدراسة والمدرسين، وإن من يسلك هذا المسلك قد ينطبق عليه ما قيل:
رام نفعًا فضر من غير قصد


 
ومن البر ما يكون عقوقًا


أيها المسلمون: وإذا كان المعلمون والمتعلمون قد تحملوا مسؤولية وأمانة، فإن الآباء أيضًا تحملوا مسؤولية وأمانة، فمن أكبر نعم الله أن يرزق الإنسان ذرية صالحة يسعد بهم في حياته، ويدخرهم بعد مماته، وإن من أعظم البلايا، وأشد الكروب، أن يرزق الإنسان ذرية يتمنى زوالها ويدعو ربه أن يعجل بهلاكها، يوم يبتلى الأب بولد عاق يلوث سمعة أبيه، ويسود وجهه، يوم يصل الأمر بالوالد أن يرفع يديه إلى ربه ليريحه من ولده تلك والله حالٌ موجعة ووضع مبك، ولذلك كان من دعاء الصالحين: ﴿وَالَّذينَ يَقولونَ رَبَّنا هَب لَنا مِن أَزواجِنا وَذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعيُنٍ وَاجعَلنا لِلمُتَّقينَ إِمامًا﴾ [الفرقان: ٧٤]، ومما لاشك فيه أن الإنسان يحب أن تجري عليه الحسنات، وهو في قبره وذلك عن طريق ولده الصالح، روى مسلم من حديث أبي هريرة ﭬأن رسول الله ﷺ قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم. فاحرصوا معشر الآباء على أبنائكم، وكونوا على تعاون مستمر مع المسؤولين في دور التعليم، حتى تكتمل التربية لتنهض المدرسة بأخلاق الطلاب وسلوكهم، واعلموا أن المسؤولية تقع على الآباء أولًا قبل المدرسة، واسمعوا ما قاله الإمام ابن القيم ‘ حيث يقول: (من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم، فأضاعوهم صغارًا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أبت إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني صغيرًا فأضعتك شيخًا، إلى أن قال رحمه الله: فكم من والد خسر الدنيا والآخرة؟ وعرّض ابنه لهلاك الدنيا والآخرة وكل هذا عواقب تفريط الآباء في حقوق الله وإضاعتها). انتهى كلام ابن القيم، وقد عاش في القرن الثامن أي قبل أكثر من ستمائة سنة.
فكيف لو رأی تقصير بعض الناس اليوم فالله المستعان.
 
***

المرفقات

1723728075_التربية في البيوت والمدارس .docx

المشاهدات 768 | التعليقات 0